Al Araby Al Jadeed

الجامعة التي ال تحتاجها الشعوب العربية

- دالل البزري

لـــيـــس الـــخـــط­ـــأ بـــــإعــ­ـــادة بــــشــــ­ار األســــــ­ـد إلـــى جامعة الــدول العربية، إنما بطرده منها، منذ عقد وقليل. مـاذا أصابها وقتها، بعد الـــثـــو­رة الـــســـو­ريـــة بــأشــهــ­ر، لــكــي تـــأخـــذ كل هذه اإلجـراءات بحقه؟ تعرض عليه «خطة ســــــام» فــيــرفــ­ضــهــا، فــتــعــل­ــن عــــن عــقــوبــ­ات اقتصادية بحق نظامه، تسحب سفراءها مـــن دمـــشـــق، تــطــلــب مـــن الــجــيــ­ش الـــســـو­ري االمـــتــ­ـنـــاع عــــن قـــتـــل املـــتـــ­ظـــاهـــر­يـــن، وتـــدعـــ­و مختلف الفصائل السورية املعارضة إلى لقائها ومناقشة «املرحلة االنتقالية» التي تنقشع في األفق، بعد سقوط بشار، ويمول أعـــضـــا­ؤهـــا مــجــمــو­عــات ســـوريـــ­ة مــعــارضـ­ـة

ِِّ مسلحة، طابعها الغالب سلفي، ويمكنون املستشيخني من حملة الساح... وقتها، ســاد الـعـجـب. هـل تحولت جامعة الــــدول الـعـربـيـ­ة إلـــى الـنـضـال الديمقراطي املــســلـ­ـح؟ هــل سلطاتها مهتمة بتطلعات شــعــوبــ­هــا إلــــى الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة؟ أال تخشى على نفسها، على أنظمتها التسلطية، غير الـديـمـقـ­راطـيـة، املـمـثـلـ­ة فــي هـــذه الجامعة؟ ثــــم، بــعــد عــقــد ونـــيـــف عــلــى هــــذه املـــواقـ­ــف «الـــثـــو­ريـــة» تــتــراجـ­ـع الـجـامـعـ­ة عــن قــرارهــا بطرد بشار األسـد، وتحتضنه في قمتها، مرحبة، متكرمة، فيما هو مزهو، محمول عــلــى شـــعـــور عـــــارم بـــاالنــ­ـتـــصـــا­ر، بــالــبــ­قــاء، وكـأن شيئًا لم يكن. إذًا، ثمة خلل في هذه الــجــامـ­ـعــة: أن تـقـاطـع بــشــار األســــد بسبب قتله الشعب السوري، وأن تعيده بعد عقد ونيف من إمعانه في قتلهم. وهـذه ليست اإلشــــار­ة الـوحـيـدة إلــى غـيـاب االتــســا­ق في مواقف هذه الجامعة. خذ مثا قريبًا جدًا. الــرئــيـ­ـس الـــســـو­دانـــي، عــمــر الــبــشــ­يــر، الـــذي ينقلب على حكومة الــصــادق املـهـدي عام ،1989 ويـــعـــن­ي نــفــســه «رئـــيـــس جـمـهـوريـ­ة الـــــســ­ـــودان». والــــــذ­ي تـــصـــدر بــحــقــه مــذكــرة توقيف دولية في العام ،2010 أي قبل سنة من انطاق بشار األسد بجرائمه. والتهم ضـــد الـبـشـيـر بــالــغــ­ة، تـشـبـه تــلــك املــوجــه­ــة الـــى زمـيـلـه بــشــار: جــرائــم ضــد اإلنـسـانـ­يـة، تعذيب، اغتصاب، تهجير، إبادة، سرقات، مجازر في منطقة دارفـــور... كله أسفر عن مقتل مائة ألف سوداني، وتهجير مليونني ونــصــف مــلــيــو­ن. ومــــع ذلــــك، انــعــقــ­دت قمة عربية فـي عـمـان، عــام ،2017 ودعـــي إليها البشير بـكـل فـخـر، رغــم تـحـذيـرات منظمة العفو الدولية، التي قالت إن سماح األردن للبشير بحضور القمة، من دون توقيفه، هــو «تــحــد اللــتــزا­مــاتــه الـــدولــ­ـيـــة». وعـنـدمـا وصــل عمر البشير إلــى مـطـار عـمـان لهذا الــغــرض، استقبله املـلـك عبد الـلـه الثاني،

وعميد جامعة الـــدول العربية، أحمد أبو الغيط. فيكون السؤال: ملاذا بشار؟ وليس الـبـشـيـر؟ مــا الـــذي بـــرأ الـبـشـيـر؟ ومـــا الــذي تبدل في سورية، أو في سلوك بشار، لكي تغير جامعة الدول العربية رأيها، فتعيده إلى «أحضانها»؟ الحقيقة أن ال جواب منطقيًا عن هذا السؤال. أو أنـه جـواب خـارج منطق الـسـؤال. وليس مـــتـــوف­ـــرًا اآلن ســــوى احـــتـــم­ـــالـــني، ظــاهــريـ­ـن: واحد يقول إن الذي أعاد بشار ليس تغيره، إنما تغير جامعة الـدول العربية، أو تغير «نظرتها الجيوسترات­يجية» للمنطقة، وما يمكن أن تثمره التوجهات الجديدة للذين يمسكون بقيادتها، أي العربية السعودية. واحــتــمـ­ـال ثــــان يـــقـــول: كــانــت هـــذه الــقــيــ­ادة تبحث لنفسها عن دور في الثورة السورية، أو بـــــاألح­ـــــرى فـــــي مــــآالتـ­ـــهــــا. وهــــــــ­ي، اآلن، تبحث أيضًا لنفسها عن دور بعد هزيمة هـــــذه الـــــثــ­ـــورة، بـــعـــدم­ـــا «تـــبـــلـ­ــورت نـظـرتـهـا الـجـيـوسـ­تـراتـيـجـ­يـة». والـجـامـع­ـة هــي خير بوتقة، تصب فيها التوجهات. وتاريخها دلــــيـــ­ـل عـــلـــيـ­ــهـــا، فـــهـــي أنـــشـــئ­ـــت عــــــام ،1945 بعيد الحرب العاملية الثانية، أيــام امللكية املـــصـــ­ريـــة. وكـــانـــ­ت اســتــجــ­ابــة «حــكــومــ­يــة» لتطلعات عروبية صاعدة، استقالية، تريد التخلص مـن االسـتـعـم­ـارات القديمة. بعد النكبة ،)1948( صـــارت تـريـد أن تتصدى إلسرائيل، وتخوض الحرب ضدها. تبدل الحكام بعدها، وتوسعت الجامعة، وصـــــارت تــضــم مـخـتـلـف الـــــدول الـعـربـيـ­ة، وتنقسم بني محوري مصر بقيادة جمال عبد الناصر، والسعودية بقيادة فيصل بن عبد العزيز. أولــى محنها كانت حرب اليمن: عام ،1962 انقاب عبد الله السال، ضـــد اإلمـــــا­م (املـــلـــ­ك) مـحـمـد الـــبـــد­ر، فـحـرب بــني جـنـود عـبـد الــنــاصـ­ـر، املــؤيــد لـلـسـال، مدعومًا من االتحاد السوفييتي (روسيا الــــراهـ­ـــنــــة)، وقــــــوا­ت الـــســـع­ـــوديـــة املــســان­ــدة لــــإمـــ­ـام، مـــدعـــو­مـــة مــــن الــــغـــ­ـرب. ال تـــوقـــف «نـــكـــسـ­ــة» حـــــرب حــــزيـــ­ـران 1967 الــتــدخـ­ـل الــعــســ­كــري املـــصـــ­ري فـــي الـــيـــم­ـــن، ولـكـنـهـا تـضـعـفـه، لينسحب املــصــري­ــون تدريجيًا مـنـهـا. لــم تـتـمـكـن جـامـعـة الــــدول العربية وقتها مـن إيـقـاف حــرب الثماني سنوات هــــذه، بـــني مــصــر والــســعـ­ـوديــة عــلــى أرض الــيــمــ­ن، وخـــســـا­راتـــهـــ­ا املـــاديـ­ــة والـــروحـ­ــيـــة، بــــاآلال­ف... هـي القائلة بـالـعـروب­ـة، ووحــدة الـعـرب... فشلها الثاني هو إسرائيل التي عجزت عن وقف تأسيسها، وقيامها على أنقاض الفلسطينين­ي. بعد ذلـك، تكر سبحة الفشل في إيقاف أي صراع عربي - عربي: قبل عمر البشير، ثمة صـدام حسني يغزو الكويت، بحرب عربية

خلل في جامعة الدول العربية: تقاطع األسد بسبب قتله الشعب السوري وتعيده بعد عقد ونيف من إمعانه في قتلهم

- عربية، ال تنهيها جامعة الــدول العربية إنــمــا األمــيــر­كــيــون. وهـــي لـيـسـت أصــــا في وارد الـتـوقـف عـنـد الــحــرب الـداخـلـي­ـة التي يخوضها حكامها ضـد شعبهم، أو وقف تـــمـــزي­ـــق نــســيــج­ــه الـــعـــر­بـــي بـــاالخــ­ـتـــراقــ­ـات اإليــــرا­نــــيــــ­ة املــــــد­مــــــرة. وال حـــاجـــة هـــنـــا إلـــى األمــثــل­ــة. املــــرة الــوحــيـ­ـدة الــتــي تـشـبـه حالة بشار األسد، لكن لدواع مختلفة، هي حالة أنور السادات بعد توقيعه اتفاق السام مع إسرائيل، عام .1979 وقتها، كانت الجامعة مــــا زالـــــــ­ت مــتــمــس­ــكــة بــــالـــ­ـعــــداء إلســـرائـ­ــيـــل. ومبادرة املقاطعة كانت من صـدام حسني، حـــاكـــم الــــعـــ­ـراق. وبـــعـــد ســـنـــوا­ت قــلــيــل­ــة، هو نفسه صـــدام حسني نجح فـي إعـــادة مصر إلـى الجامعة العربية. أمـا اليوم، فالعاقة مــع إســرائــي­ــل مختلفة. كـــل املـــؤشــ­ـرات تــدل على توجه القيادة الحالية للجامعة نحو العكس تمامًا. بعدما أخفقت الجامعة في تنفيذ أهدافها األولى، أي محاربة إسرائيل، تـعـود اآلن إلــى الحكمة الـسـاداتـ­يـة القائلة بــوجــوب الــســام مـعـهـا، ومـــن دون شــروط حــقــيــق­ــيــة. أي أن مـــا دفــعــهــ­ا إلــــى مـقـاطـعـة الـــســـا­دات هـــو مـــا يـدفـعـهـا اآلن إلـــى الـقـيـام بـــمـــبـ­ــادرات نــحــو إســـرائــ­ـيـــل، شــروطــهـ­ـا أقـــل مـن الـتـي حصل عليها الـــســـا­دات. وتعليق الرئيس األميركي جـو بـايـدن منذ يومني: «كلما كانت العاقات بني إسرائيل والدول العربية أفضل، كـان ذلـك أفضل للجميع». صـحـيـح ان قــيــادة الـجـامـعـ­ة تستمع اآلن، ظـــاهـــر­يـــًا عـــلـــى األقــــــ­ـل، إلـــــى بـــكـــني أكـــثـــر مـن واشنطن. ولكن من قال إن بكني ضد السام مع إسرائيل؟ ومن غير شروط حقيقية؟ املحصلة أن قرارات جامعة الدول العربية ال تـمـلـك أي قـيـمـة أدبـــيـــ­ة، أو مـنـطـقـيـ­ة، أو أخــاقــيـ­ـة. وهــــي، بـاسـتـعـا­دتـهـا بــشــار إلـى حـضـنـهـا، ال تـفـعـل شـيـئـًا ذا مــعــنــى، غير الـــتـــع­ـــبـــيــ­ـر عـــــن نـــفـــسـ­ــهـــا: بــصــفــت­ــهــا تـــضـــم موظفني مـوالـني عينتهم حكوماتهم في مواقع إدارية عليا. يتلون ما تطلبه منهم سلطاتهم الحاكمة... أي حيثيات بقائهم على عرشهم. ما تغير، بعد عــودة بشار، شــــيء واحــــــد: أن بــعــض الــــعـــ­ـرب، فـائـضـي الـــثـــر­وة، ولــيــس فــقــراءه­ــم، صـــار لـهـم دور مــــا ســـــــور­ي: ومـــرحـــ­لـــتـــه األولـــــ­ـــى، مــاحــقــ­ة بـشـار فـي مـوضـوع املــخــدر­ات والاجئني.

ًّ وإذا كـــــذب عــلــيــه­ــم، أو تـــهـــرب أو تــاعــب، يـكـتـسـب هـــذا الـــــدور حـــيـــاة يــحــتــا­ج إليها أولئك املتدخلون. وينضمون إلى القافلة الطويلة مـن الـذيـن سبقوهم فـي التدخل. والــدور أهم من اإلنسان. الــدور له أسنان. وهـــو ال يــحــتــا­ج إلـــى الــشــعــ­وب، إنــمــا إلــى «الحكام». فالشعوب في مكان آخر.

 ?? (ياسر الزيات/فرانس برس) ?? مقعد سورية فارغًا في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الكويت، 2014
(ياسر الزيات/فرانس برس) مقعد سورية فارغًا في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الكويت، 2014

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar