Al Araby Al Jadeed

حروب المدن وأكذوبة «حماية المدنيين»... في السودان مثًال

- عائشة البصري

لــقــي تــوقــيــ­ع الـــقـــو­ات املــســلـ­ـحــة الــســودا­نــيــة وقـــوات الـدعـم السريع على «إعـــالن مبادئ لـضـمـان حـسـن الــنــواي­ــا وحـمـايـة املـدنـيـي» ترحيبا دولــيــا واســعــا، رغـــم أن اإلعــــال­ن لم يــنــص عـلـى وقـــف لــالقــتـ­ـتــال، وإنـــمـــ­ا اكتفى بالتعبير عن «الـتـزام» الطرفي املتحاربي بــتــقــل­ــيــل الــــضـــ­ـرر الــــــذي يــلــحــق بــاملــدن­ــيــي، واالمـــتـ­ــنـــاع عـــن أي هـــجـــوم مـــن املــتــوق­ــع أن يتسبب فـي أضـــرار مدنية عـرضـيـة، وعـدم استخدامهم دروعــا بشرية؛ التزامات على الـــورق لـم تترجم على أرض املعركة، حيث ما زال الطرفان يقتتالن في أحياء الخرطوم وشوارعها املكتظة بالسكان، ويتسببان في قتل املدنيي وجرحهم وتشريدهم. ال تكمن املـشـكـلـ­ة فــي اعـتـبـاطـ­يـة هـــذا االلـــتــ­ـزام فقط، بـل فـي شبه استحالة الحديث عـن حماية املدنيي في حروب املدن الهمجية، بما فيها حرب الخرطوم وباقي املدن السودانية. ليست حروب املدن حديثة العهد، بل تعود إلـى آالف السني، وتـوثـق بداياتها حـروب دارت في مدينة جاتال هويوك في منطقة األنــاضــ­ول منذ أكـثـر مـن ثمانية آالف عـام. ولقد سجل تاريخ البشرية منذ ذلك الحي هــــجــــ­ومــــات عــــديـــ­ـدة عـــلـــى املـــــــ­ـدن، فــــي وقـــت كـانـت الــحــروب تـــدور بــاألســا­س فــي أمـاكـن مفتوحة وتقتصر على املقاتلي، إذ أحرق الـرومـان مدينة قرطاج بمن فيها، وأسقط جيش نابليون حصون سرقسطة وقالعها، وحوصرت القسطنطيني­ة وأهلها أكثر من ثالثي مرة قبل أن تخضع للغزو العثماني. انـهـارت حصون املــدن وقالعها وأسـوارهـا أمــــام تـــطـــور األســلــح­ــة الـــنـــا­ريـــة، مـــع دخـــول املـدفـعـي­ـة ســاحــة املـــعـــ­ارك. وطــبــعــ­ت الـحـرب العاملية الثانية حرب املدن من خالل حمالت «القصف الجوي الكاسح» من ستالينغراد إلى برلي، مرورًا بنانجنغ ودردسن. ولــــــــ­ى زمـــــــن حـــــــرب الــــجـــ­ـبــــهـــ­ـات والــــخــ­ــنــــادق واالشــــت­ــــبــــا­ك بــــي الـــجـــي­ـــوش خــــــارج املـــــدن، بعيدًا عـن املدنيي. اشتعلت الـحـروب عبر الـعـالـم عـقـب انـهـيـار االتــحــا­د السوفييتي، وأصبحت تـدور، بشكل رئيس، داخل املدن وفـوق رؤوس املدنيي، ورأينا كيف دمـرت

وخـــربـــ­ت مـــدن الـعـالـم مــن غــروزنــي وبـغـداد وحــلــب إلـــى طــرابــلـ­ـس وكـــابـــ­ول وبــاخــمـ­ـوت. ويـعـزو الـبـاحـث الـبـريـطـ­انـي، مايكل كينغ، هيمنة حــرب املـــدن إلــى ازديــــاد عــدد سكان املدن الذي أصبح يمثل حوالى نصف سكان العالم، بينما تقلص حجم الجيوش بشكل هائل عبر العالم، فلم تعد الحروب تعتمد على عدد املقاتلي بقدر ما تعول على تطور أسلحة القتل والـدمـار. ثم يضيف كينغ أن املواقع الحيوية واالستراتي­جية التي تدور حــولــهــ­ا الــــحـــ­ـروب تـــوجـــد بــــاألسـ­ـــاس داخـــل املـــــدن، مـــا يـشــكــل عـــامـــا­ل إضــافــيـ­ـا لـالقـتـتـ­ال داخلها. ويخلص الباحث، كباقي الخبراء األمـــنــ­ـيـــي، إلـــــى أن مــــن املــســتـ­ـحــيــل تـــفـــاد­ي حــروب املــدن الـيـوم رغــم افتقادها ضوابط أمنية وقانونية عديدة. أمــا االتفاقية الـرابـعـة لحماية املدنيي في الــصــراع­ــات الــدولــي­ــة فـقـد تــم اعـتـمـاده­ـا في ،1949 جراء هالك أكثر من 35 مليون مدني في الحرب العاملية الثانية، من أصل حوالي 60 مليون قتيل. في هـذه الحرب، استغلت أميركا ثغرات في القانون الدولي اإلنساني الـــــذي لـــم يــكــن يـــنـــص حـيـنـهـا عــلــى حـمـايـة املـدنـيـي، فألقت قنابل نــوويــة على سكان مدينتي هيروشيما وناغازاكي، في أبشع جــرائــم ضــد الـبـشـريـ­ة قـبـل أن تــتــحــو­ل إلـى التبشير بحماية املدنيي والقيم اإلنسانية. بموجب االتفاقية الرابعة وبروتوكوال­تها اإلضافية، أصبح القانون الدولي اإلنساني يحث على حماية املدنيي في الصراعات، عـــــمـــ­ــال بـــــمـــ­ــبـــــاد­ئ الــــتـــ­ـمــــيـــ­ـيــــز والــــتــ­ــنــــاسـ­ـــب واالحتياط. وتحث املادة 48 من البروتوكول اإلضافي األول األطراف املتحاربة على «أن تعمـل فـي جميع األحوال على التمييز بيـن السكان واملدنيي واملقاتلي، وبي األعيان املدنية واألهداف العسكرية، ومـن ثـم توجه عـمـلـيـات­ـهـا ضـــد األهــــــ­داف الــعــســ­كــريــة دون غيرها». ويحظر القانون الدولي اإلنساني أعـمـاال عدائية عـديـدة، بما فيها استخدام املدنيي دروعا بشرية، والهجمات املباشرة ضـــــد املــــدنـ­ـــيــــي، وتــــلـــ­ـك الــــتـــ­ـي تــــبــــ­ث الـــذعـــ­ر واإلرهــــ­ــــاب فـــي نــفــوســ­هــم، ويــحــظــ­ر بشكل خـــاص الـهـجـمــ­ـات «الــعــشــ­وائــيــة» الـتـــي مـن شـأنها أن تصيـب األهــــدا­ف العسـكرية أو املـدنـيـي مـن دون تمييـز، نـظـرا إلــى الخلل في توجيهها أو ألنه ّيتعذر توجيهها ضد هـــدف عسـكري مـحـــدد، ويستحيل معرفة أضرارها العرضية. وتـــتـــف­ـــرع عـــن مـــبـــدأ الـتـمـيـي­ـز بـــي املـقـاتـل­ـي واملدنيي مبادئ أخرى تقتضي تقييم عدم اإلفــــرا­ط فــي الــضــرر الــعــرضـ­ـي، واالحـتـيـ­اط فـي الـهـجـوم واالفــتــ­راضــات فـي حـالـة الشك وغيرها من املـبـادئ التي لم يتم تطبيقها عــلــى أرض الــــواقـ­ـــع، إذ أثـــبـــت غــــزو أمـيـركـا وبريطانيا للعراق، وغزو روسيا جورجيا وأوكرانيا، وحرب األخيرة في سورية عدم الـــتـــز­ام الـــــدول املــتــحـ­ـاربــة بــمــبــا­دئ اتـفـاقـيـ­ة جنيف الرابعة، واستحالة حماية املدنيي فـــي ســيــاق حــــرب املــــدن الــتــي يـنـتـشـر فيها املقاتلون في الشوارع وفوق أسطح املباني املــدنــي­ــة وتــقــصــ­ف فـيـهـا األحـــيــ­ـاء السكنية والـبـنـى التحتية الـتـي تـخـدم املـدنـيـي قبل املقاتلي. خالل هذه الحروب وغيرها، كثر الحديث عن «األسلحة الذكية» و«الضربات الـــجـــر­احـــيـــة» و«األســــلـ­ـــحــــة شــــديـــ­ـدة الــــدقــ­ــة» و«املناطق اآلمـنـة» وغيرها من توصيفات تــوحــي بــأنــه يـمـكـن حـمـايـة املــدنــي­ــي خـالل حــــــروب املــــــد­ن الـــتـــي ال يــحــظــر­هــا الـــقـــا­نـــون الـــــدول­ـــــي اإلنــــسـ­ـــانــــي ويـــكـــت­ـــفـــي بــتــقــي­ــيــدهــا بضوابط لم تبرز جدواها. وألنه تستحيل حـمـايـة املـدنـيـي مــن الـــغـــا­رات الـجـويـة على املـــــــ­ـدن والــــقــ­ــصــــف بــــراجــ­ــمــــات الــــصـــ­ـواريــــخ واملــــدف­ــــعــــي­ــــة وقــــــذا­ئــــــف الـــــــه­ـــــــاون، وضـــعـــت بــريــطــ­انــيــا خـــطـــة عــســكــر­يــة خـــــالل الـــحـــر­ب العاملية الثانية ميزت بي مناطق تستوجب «إجـــــالء املـــدنــ­ـيـــي» وأخــــــر­ى، «مـــحـــاي­ـــدة» أو قــابــلــ­ة «لــالســتـ­ـقــبــال». ونــجــحــ­ت فـــي إجـــالء ماليي املدنيي، خصوصا األطـفـال، داخـل بـريـطـانـ­يـا وخــارجــه­ــا، فــي رســالــة مـفـادهـا بأن السبيل األنجع لحماية املدنيي خالل الـــحـــر­ب الــحــديـ­ـثــة يـكـمـن فـــي إخــراجــه­ــم من سـاحـة القتل والــدمــا­ر. ولـهـذا جـــاءت املــادة 49 مـن اتفاقية جنيف الرابعة لتأكيد حل إجـــــالء املـــدنــ­ـيـــي بـــدافـــ­ع «املــــبــ­ــرر الـعـسـكـر­ي الــضــرور­ي»، حـي يتعذر وجــود بـديـل آخر يضمن أمن السكان املدنيي. بـــالـــن­ـــظـــر إلـــــى هـــــذه الـــحـــق­ـــائـــق، ال يـــســـاو­ي إعـــالن جـــدة لـحـمـايـة املـدنـيـي الـحـبـر الــذي كــتــب فـــيـــه، خــصــوصــ­ا وأن تـــاريـــ­خ الـــقـــو­ات املسلحة الراعية لقوات الدعم السريع حافل بـاسـتـهـد­اف املـدنـيـي مــن جـنـوب الــســودا­ن، وجـــــبــ­ـــال الــــنـــ­ـوبــــة الــــــى دارفــــــ­ـــــور واملـــــج­ـــــزرة أمــــام الــقــيــ­ادة الــعــامـ­ـة لــلــقــو­ات املـسـلـحـ­ة في الخرطوم. لقد خضع الطرفان السودانيان لضغوط واشنطن إلى حد ترديد نص على األرجـــــ­ح أنـــه جـــرى إمـــــالؤ­ه عليهما حرفيا لـحـفـظ مـــاء وجـــه الـجـمـيـع. الـــتـــز­م الـطـرفـان بــالــتــ­مــيــيــز بـــي املـــدنــ­ـيـــي واملـــقــ­ـاتـــلـــ­ي وبــي األعيان املدنية واألهداف العسكرية وإجالء املدنيي، ثم مضيا يواصالن ترويع املدنيي وتعريضهم للقصف والقتل بما ال يسمح بإجالئهم، فما زال سكان الخرطوم يفيقون عــلــى رعــــب الــقــصــ­ف الـــجـــو­ي ودوي نــيــران املدفعية ال تسبقها صفارات انذار في مدينة ال تتوفر على مالجئ تحت سطح األرض أو فوقها. يظن كـل مـن الطرفي أن فـي وسعه حسم الحرب عسكريا، غير مكترثي بعبر روســيــا الــغــارق­ــة فــي املـسـتـنـ­قـع األوكـــرا­نـــي، والــعــاج­ــزة حـتـى عــن حـسـم حـــرب تـــدور في باخموت الصغيرة التي تحولت إلى مدينة أشــبــاح، بعد أن غــادرهــا الـسـكـان املدنيون ليفسحوا املجال لحرب شــوارع تخوضها القوات الروسية واألوكراني­ة بال احتساب وحذر أو تحفظ منذ أزيد من تسعة أشهر. لم يتذكر الرئيس الروسي بوتي املهووس بــالــتــ­اريــخ كــيــف كــســرت حــــرب الـعـصـابـ­ات شوكة االتحاد السوفييتي في أفغانستان، وهزمت فرنسا في الهند الصينية وأميركا في فيتنام. وقبلهم جميعا، مرغت مقاومة الـــريـــ­ف فـــي شـــمـــال املـــغـــ­رب، بــقــيــا­دة محمد بــن عـبـد الــكــريـ­ـم الــخــطــ­ابــي، أنـــف االحــتــا­لل االســـبــ­ـانـــي، حــتــى أصــبــح يــلــقــب الـخـطـابـ­ي بـمـؤسـس حـــرب الـعـصـابـ­ات الـتـي عـــادة ما تـــخـــدم الـــطـــر­ف املــســتـ­ـضــعــف فـــي املــواجــ­هــة الـــعـــس­ـــكـــريـ­ــة، فــيــلــج­ــأ إلـــــى تــكــتــي­ــك «اضـــــرب واهرب» ونصب الكمائن والفخاخ وغيرها من أساليب قهرت كبرى جيوش العالم. انتهى زمن الحروب التقليدية وغيرت حرب املــدن مـيـزان الـقـوة بـي األطـــراف املتحاربة، ورفـعـت كفة املليشيات على حـسـاب أقـوى الـجـيـوش. وبـــدال مــن تــرويــج وهـــم «حماية املــــدنـ­ـــيــــي»، األحــــــ­ـرى أن تــضــغــط الـــريـــ­اض وواشـنـطـن على الـطـرفـي إلجـبـارهـ­مـا على وقـــف إطــــالق الـــنـــا­ر واإلشـــــ­ـراف فـعـلـيـا على إجـالء املدنيي على األقـل من املناطق التي تــوجــد بـهـا مـــواقـــ­ع اسـتـراتـي­ـجـيـة يسعيان إلـــى الــســيــ­طــرة عـلـيـهـا، ومـــن األحـــيــ­ـاء الـتـي انــتــشــ­رت فـيـهـا قـواتـهـمـ­ا اســتــعــ­دادا لحرب الـــشـــو­ارع. وإن كـــان املـجـتـمـ­ع الـــدولــ­ـي جــادًا فـــــي مـــســـعـ­ــاه االنـــــس­ـــــانـــ­ــي، ال بـــــد أيــــضـــ­ـا أن يضمن أبسط وسائل العيش ملن شردتهم آخـر حـروب عساكر نظام الرئيس املخلوع عمر البشير داخـل السودان وخارجه، وإال فـإن تقاعسه سيؤكد أن «حماية املدنيي» مـــجـــّرد شــعــار فـــي قـــامـــو­س

ُالـتـضـلـي­ـل، وأن املــحــاد­ثــات الـدبـلـوم­ـاسـيـة تـكـسـب الطرفي مـــزيـــدًا مـــن الـــوقـــ­ت مـــن أجــــل حــســم الــحــرب عـسـكـريـا، مثلما حـــدث فــي حـــرب نـاغـورنـو كــارابــا­خ بــي أذربــيــج­ــان وأرمـيـنـي­ـا، وحــرب إثيوبيا بــي الحكومة الـفـيـدرا­لـيـة وجبهة تـحـريـر شـعـب تـيـغــراي، والــحــرب الـروسـيـة األوكرانية الحالية؛ حروب لم تتدخل فيها األمـــم املـتـحـدة ومجتمعها الـــدولــ­ـي، تـاركـة األطـــــر­اف املــتــنـ­ـاحــرة تـحـسـم الـــصـــر­اع بـقـوة السالح، على جثث املدنيي.

خضع الطرفان السودانيان لضغوط واشنطن إلى حد ترديد ٍّ نصعلى األرجح أنه جرى إمالؤه عليهما حرفيًا لحفظ ماء وجه الجميع

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar