نحن ال نكبُر نحن نستشهد
يــبــدو الــحــديــث عـــن «نـــصـــر» مـــا فـــي فلسطني هـــذه األيــــام مستهجنا وكــأنــه خــــارج الـنـص، فالنظرة األولـــى على الــصــورة تعكس واقعا شـــديـــد اإليــــــام. وحـــتـــى لـــو غــــاص أحـــدنـــا في الــتــفــاصــيــل أكـــثـــر ملـــا عــــاد إال بــكــومــة دمــــوع، وتــنــهــيــدات وفـــيـــرة، وزفـــــرات حـــارقـــة، ولــكــن .. لكل صـــورة وجـهـهـا اآلخـــر، والـبـحـث عـن هذا الــــوجــــه واجـــــــب كــــي يــــتــــوازن املـــــــرء، وال يـفـقـد الـــقـــدرة عـلـى األمــــل أوال، وثــانــيــا كــي يستمد مـــن هــــذا الـــوجـــه «اآلخــــــر» الـــقـــدرة عــلــى شحذ الهمة، وإشاعة الحماس لتعظيم املوجب في مواجهة السالب. ما هو مؤلم في املشهد العام كثير، ومـنـه مـا هـو مضحك حــد الـبـكـاء، مثل تغني بعض مــن يسمونهم «مـحـلـلـني، ال بل محرمني» سياسيني، بالنجاح الباهر الـذي حققته قضية فلسطني فــي قـمـة جــــدة، حيث تبوأت قائمة «قرارات» القمة، وما هي بقرارات أصـــــا، بـــل «صـــــف كـــــام» ال يــحــمــل أي داللـــة عملية، وإال ما معنى وصف قضية فلسطني بأنها «مركزية» بالنسبة للعرب، وهي تحمل هــذا الــوصــف منذ قـــرن؟ ومــا معنى أن تدعو الـــــدول (بـعـضـهـا تــســمــي نـفـسـهـا عــظــمــى) ما تـسـمـيـه «املـجـتـمـع الـــدولـــي» لـحـمـايـة الشعب الفلسطيني؟ تـرى أين أنتم من هذه الحماية
أصــــا؟ بــل هــل يمكنكم حـمـايـة أنـفـسـكـم قبل حـمـايـة غـيـركـم؟ األنــكــى مــن كــل هـــذه األسئلة اعـــتـــبـــار قــضــيــة فــلــســطــني بــالــنــســبــة لــلــعــرب «مـــركـــزيـــة» بـمـعـنـى آخــــر، مــضــمــر فـــي نـفـوس أصحاب القرار، مختبئ في تفاصيل طبيعة تـعـامـل تـلـك الــــدول مـعـهـا عـلـى مــــدار الـعـقـود، حيث ال ترى في الواقع غير «مركزيتها» في التآمر والــخــذالن والتخريب، وإعـانـة املحتل على اإليــغــال فــي احـتـالـه والــشــد على يديه، وهــــو يــرتــكــب جــرائــمــه املــتــوالــيــة فـــي األرض والـــعـــرض والــشــجــر والــحــجــر والــبــشــر؛ فهي، بـــهـــذا املـــعـــنـــى، فـــعـــا «مــــركــــزيــــة» بــــا مـــنـــازع، مركزية في تصنيف كل من يتعاطف معها في قائمة «اإلرهابيني»، فما بالك بمن يفكر مجرد تـفـكـيـر بــمــدهــا بــالــســاح أو جـمـع املـــــال، وقـد أغلقوا (جماعة القمة ما غيرهم) كل مصادر تمويل حركات املقاومة، والحقوا من يتعاطف معها أبـشـع مـاحـقـة؟ نعم بـهـذا املعنى فهي مركزية با منازع! أما من يفترض أنهم أهل «الفقيد» فا يقلون شراسة عن نهش لحمه، والتمثيل بجثته، واملتاجرة بدمه، فختيارية رام الله سـاروا في ما سار فيه أهل القمة من دعوات فارغة إلى حماية الشعب الفلسطيني، وهــم مـن قتلوه وصلبوه، رغــم أنــه شبه لهم، فهو شعٌب حـٌّي لم يمت. وهنا تحديدا يأتي دور الحديث عن «بشائر النصر» التي بدأت تـــهـــل عــلــى األرض املـــبـــاركـــة مــنــذ وقــــت ليس قليا، وإن كانت محض بشائر، فالنصر لم يزل بعيدا، ألن له استحقاقات وثمنا باهظا ال بد من دفعه. الجميل في املشهد اإلجمالي هنا أن الفلسطيني كان في ما مضى، إذا آمله العدو املحتل اإلرهابي، يصرخ «أين العرب؟» وهذه نغمة انقرضت منذ زمن بعيد، فقد أدرك أنه كلما نـاداهـم جــاؤوه بـخـذالن جديد، أو تآمر أشـــد مــضــاء مـمـا قـبـلـه، فـكـف عــن االستنجاد بمن ال ينجد، بـل ينجد سلبا! تسأل مذيعة فــتــى فـلـسـطـيـنـيـا فـــي ســــن «املــــراهــــقــــة»: مـــاذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ فيأتي الجواب الـــــذي ال يـخـطـر بـــبـــال أحـــــد: احـــنـــا مـــا بـنـكـبـر، احـنـا بنستشهد!. ... وهـــذا هــو الــســاح الــذي إن امتلكه شعٌب ال يـهـزم أبـــدا، ولــو ّاجتمعت عليه كـل قــوى األرض، بإنسها وجـنـهـا، فمن طـلـب املـــوت وهــبــت لــه الــحــيــاة، وتــلــك ظــاهــرة جـــديـــدة فـــي املــشــهــد الـفـلـسـطـيـنـي، وال يعني هذا أنها بنت سنة أو سنوات قليلة، فقد قدم الفلسطينيون ما يقارب املليون شهيد أو أكثر منذ بدأ الزحف اإلرهابي على بلدهم قبل نحو قرن. ولكن الجديد هنا أن تصبح الشهادة هي «التعليم العالي» الذي يحلم به فتية فلسطني ومراهقوها وشبابها، وهذا هو الجيل الرابع أو الـخـامـس مــن أجــيــال فلسطني، ممن راهــن عليهم قـــادة الـصـهـايـنـة أن يـنـسـوا قضيتهم حني قالوا: الكبار يموتون والصغار ينسون، فالكبار حملوا األمانة وسلموها ملن تاهم، وقـــدمـــوا مــا اســتــطــاعــوا تـقـديـمـه، و«خـــمـــروا» فــي نــفــوس األبـــنـــاء واألحـــفـــاد حـــب الــشــهــادة، وأبدعت األجيال التالية حني تحولت الشهادة إلى ثقافة شعبية، تسري دماؤها في نفوس الــصــغــار قـبـل الــكــبــار. انــظــر كـيـف تـحـمـل األم ابنها الشهيد، وتزفه بالزغاريد وكأنه ذاهب
إلــى عـرسـه، وانـظـر إلــى أصـحـاب البيت الـذي هـدمـه القتلة وهـــم يـقـولـون فــي كـلـمـات تشق طريقها بــني الــدمــوع ومـشـاعـر األلـــم املـمـض: كله فــداء لفلسطني وللمقاومة. ألعـتـرف هنا وأنـــا أحـــد مــن اكــتــووا بـنـار النكبة والنكسة، وما بينهما وما تاهما، بأنني أشعر بالفخر املمزوج بالدهشة مما أرى وأسمع، ففلسطني الـيـوم غــدت ورشـــة إلنـتـاج البطولة، بشيبها وشــبــابــهــا وأطـــفـــالـــهـــا، بــرجــالــهــا ونــســائــهــا، هـــو شــعــٌب شــــّب عـــن طــــوق الــهــزيــمــة، ووفــــرت لـه جـرعـات الـخـذالن والتآمر مـن األخ القريب والبطش والظلم مـن الـعـدو الغضيب مناعة ضـــد االســـتـــســـام أو «رفــــع الـــرايـــة الـبـيـضـاء» التي يتمنى رؤيتها كا طرفي الكماشة التي وقعت بينهما. شـــيـــوع ثــقــافــة الـــشـــهـــادة فـــي فــلــســطــني، على النحو الذي نراه اليوم، كما يشيع حب أهلها تــنــاول الـخـبـز الــبــلــدي بــالــزيــت والــزعــتــر، هو مــا سيقلب املــعــادلــة، ويـحـبـط كــل مخططات العدو قريبا وبعيدا، ويحرر األرض ولو بعد حـــني. نـحـن ال نـكـبـر نـحـن نستشهد، ألـــم تكن تلك العقيدة هي ما قـادت الثائر الليبي عمر املختار إلى النصر حني قال: نحن ال نستسلم، ننتصر أو نستشهد؟ وما بني املقولتني حبل سري أنى له أن ينقطع في أمة خلقت لتبقى؟
كان الفلسطيني في ما مضى إذا آلمه العدو المحتّل اإلرهابي يصرخ «أين العرب؟»، وهذه نغمة انقرضت منذ زمن بعيد