غزة تفضح العجز األممي
غياب الحسم بعد 6 أشهر من الحرب
بــــعــــد ســــتــــة أشـــــهـــــر مــــــن الــــحــــرب اإلســرائــيــلــيــة عــلــى غــــزة واإلبـــــادة الـجـمـاعـيـة بــحــق الـــغـــزيـــن، يـبـدو أن الـــســـؤال حـــول مـــا إذا كـــان الـتـعـويـل على األمـــم املتحدة والـقـانـون الــدولــي للمساهمة بــشــكــل إيـــجـــابـــي فــــي فـــــرض األمــــــن والــســلــم الــدولــيــن وحـمـايـة الفلسطينين، فــارغــا أو مـجـازيـا، إذ لــم تــبــق إسـرائـيـل انـتـهـاكـا لتلك القوانن واألعــراف من دون أن ترتكبه بحق الفلسطينين، والغزين خصوصا. األمــــم املــتــحــدة هــي مــؤســســات عــديــدة تحت مـظـلـة واســــم األمــــم املــتــحــدة. وصـحـيـح أنها مـــرتـــبـــطـــة بــبــعــضــهــا، إال أن مــســؤولــيــاتــهــا وتعاملها مـع الـحـرب اختلفا بشكل جـذري باختالف أدوارهــــا، إذ لعب جــزء ال بــأس به مـنـهـا دورًا إيــجــابــيــا ومــهــمــا، فـــي حـــن كــان آلخـــــر دور أســــاســــي فــــي زيـــــــادة الـــظـــلـــم ضـد الـفـلـسـطـيـنـيـن. فــهــنــاك األمـــــن الـــعـــام لـأمـم املتحدة، ومجلس األمــن الـدولـي، والجمعية العامة، ووكالة األمم املتحدة لتشغيل وإغاثة الفلسطينين (أونـــــــروا)، ومـنـظـمـة الصحة الـــعـــاملـــيـــة، ومـــكـــتـــب املــــســــاعــــدات اإلنـــســـانـــيـــة (أوتشا)، ومجلس حقوق اإلنسان، ومحكمة الـــــعـــــدل الـــــدولـــــيـــــة، والـــيـــونـــيـــســـف وغـــيـــرهـــا. وجميعها جـزء ال يتجزأ من منظومة األمم املتحدة، لكن أدوارها تباينت. تقع املسؤولية الرئيسية واألساسية لحفظ األمـــن والـسـلـم الــدولــيــن عـلـى عـاتـق مجلس األمــن الــدولــي. لكن الديناميات فـي املجلس وتـركـيـبـتـه تعكس الـسـيـاق الـتـاريـخـي الــذي تأسست فيه األمم املتحدة عام 1945 ومعها مـجـلـس األمــــن (أي الــحــرب الـعـاملـيـة الثانية ونـــتـــائـــجـــهـــا) وحـــــق الـــنـــقـــض (فـــيـــتـــو) الــــذي فــرض من الــدول املنتصرة ويعكس معايير النفوذ والقوى آنذاك، وتمتلكه كل من الصن واململكة املتحدة وروسيا وفرنسا والواليات املتحدة. وأســـاءت الـــدول العظمى استخدام مجلس األمن بحسب أهوائها، ليس في سياق فلسطن فــقــط، بــل خــارجــهــا كــذلــك (ســوريــة وأوكرانيا والفيتوهات الروسية مثاال). لكن فلسطن تبقى املثال األكثر فجاجة على سوء استخدام الفيتو، وتحديدًا من قبل الواليات املــتــحــدة الــتــي اسـتـخـدمـتـه أكــثــر مــن ثمانن مــــرة فـــي تـــاريـــخ األمــــم املــتــحــدة 1970( ألول
مــرة) وأكـثـر مـن نصفها ضـد قـــرارات تتعلق بممارسات إسرائيل ولحمايتها. إال أن مجلس األمن تمكن من إصدار عشرات الـــقـــرارات املــهــمــة، حـتـى لــو لــم يـتـم تنفيذها حـتـى اآلن، ولـعـل أبــرزهــا عـلـى سبيل املـثـال القرار 242 للعام 1967 الـذي يدعو إسرائيل إلـــــى االنـــســـحـــاب إلـــــى حــــــدود مــــا قـــبـــل حـــرب ،1967 وقــــرار مـجـلـس األمــــن رقـــم 478 للعام 1980 ويــتــضــمــن عــــدم االعــــتــــراف بــالــقــانــون اإلسرائيلي حول ضم القدس، ويدعو الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من املدينة، والقرار 2334 للعام 2016 والذي دعا إسرائيل مــجــددا إلـــى وقـــف االسـتـيـطـان. وعـلـى الـرغـم مـن هــذا، فــإن مصير هــذه الــقــرارات كــان عدم التنفيذ، واستمرار الدعم األميركي والغربي األعــــمــــى إلســــرائــــيــــل، مــــا أدى إلـــــى الــســمــاح إلسرائيل باإلفالت من العقاب ومساعدتها فــــــي تـــثـــبـــيـــت قـــبـــضـــتـــهـــا فــــــي اســـتـــعـــمـــارهـــا واحتاللها لفلسطن. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين األول املاضي، تاريخ بــدء الـحـرب على غـــزة، استخدمت الـواليـات املتحدة حق النقض أربـع مـرات ضد قـرارات تتعلق بوقف إطـالق النار أو هدن إنسانية. وحتى عندما تمكن مجلس األمن من إصدار ثــالثــة قــــــرارات فـــي األشـــهـــر الــســتــة األخـــيـــرة، اثـــنـــان حــــول إدخــــــال املـــســـاعـــدات وثـالـثـهـمـا حول وقف إطـالق النار خالل شهر رمضان، فــــإن الــــواليــــات املــتــحــدة عــمــدت فـــي الجلسة نفسها إلى تقويض هذا القرار، عندما ادعت املندوبة األميركية ليندا توماس غرينفيلد فـي مداخلتها بعد االمـتـنـاع عـن التصويت والـــســـمـــاح بــتــمــريــر الــــقــــرار ،2728 أنـــــه غـيـر ملزم. وهـذا ادعــاء يزيد من إضعاف مجلس األمـــــن واالنـــقـــســـامـــات داخـــلـــه الـــتـــي لـــن تقف تبعاتها عند فلسطن، كما يرسخ ممارسات الواليات املتحدة والدول الغربية ومعاييرها املزدوجة. لكن يبقى عيب القرار ،2728 كونه ال يتمتع بـتـدابـيـر تنفيذية عـلـى الــرغــم من إلـــزامـــه، ألنـــه لــم يـتـم تبنيه تـحـت مــا يـعـرف بالبند السابع من ميثاق األمــم املتحدة، ما كـــان سيجبر مـجـلـس األمــــن عـلـى اسـتـخـدام الـقـوة أو سبل أخـــرى مـن أجــل تنفيذه. ومع ذلـــــــك، فــــإنــــه يــــزيــــد الـــضـــغـــط عـــلـــى إســـرائـــيـــل ويجعلها أكثر عرضة وحساسية للمقاضاة. هــــذا الــشــلــل فـــي مــجــلــس األمــــــن، يــتــمــثــل في «بــلــطــجــة» أمــيــركــيــة أكــثــر مــنــه انــقــســامــا في
فلسطين تبقى المثال األكثر فجاجة على سوء استخدام الفيتو
شكلت تقارير وتصريحات أممية ركيزة بدعوى جنوب أفريقيا
مواقف أغلب الدول، على األقل في ما يخص وقف إطـالق النار. إذ يدل اضطرار الواليات املتحدة إلى استخدام الفيتو على أن أغلبية الدول في املجلس متحدة على ضرورة وقف إطـــــالق الـــنـــار فـــي غــــزة وإدخـــــــال املـــســـاعـــدات وغــيــرهــا. وعــبــر دبـلـومـاسـيـون فــي أكــثــر من مناسبة عــن إحباطهم الـشـديـد مــن التعنت األميركي، وشلل مجلس األمـن وعـدم قدرته على القيام بمهمته الرئيسية «حفظ األمـن والسلم الدولين». منذ مدة تكثفت الجهود للعمل على إصالح نـــظـــام مــجــلــس األمــــــن، لــكــن هــــذه الــتــحــركــات الـــجـــاريـــة مــنــذ عـــقـــود تـسـيـر بـــبـــطء قـــاتـــل، ما يزيد من تهديد مصداقية املنظومة الدولية. وأظهرت حرب غزة األخيرة، أكثر من أي حرب أخــــــرى، مــــدى تــأثــيــر االنـــقـــســـام الـــداخـــلـــي في مجلس األمن، ودعم الواليات املتحدة األعمى إلســرائــيــل عسكريا ودبـلـومـاسـيـا، والتأثير القاتل لهذا الشلل في املجلس، وغياب اإلرادة األمــيــركــيــة عــلــى نــوعــيــة ومــســتــوى عمليات املساعدات اإلنسانية. وأصبح شبح املجاعة يحوم بسبب استمرار الحصار اإلسرائيلي ومـنـع دخـــول أغلبية املـسـاعـدات. صحيح أن الــحــروب عـمـومـا تشهد خــالفــات واسـتـغـالل قضايا املساعدات، بما فيها في السودان أو سورية مثال، إال أنه حتى في سورية تمكنت األمم املتحدة ولسنوات في وسط الحرب من إدخــــال املــســاعــدات للمناطق الــواقــعــة خــارج ســيــطــرة الـــنـــظـــام، عـــن طــريــق اآللـــيـــة الــعــابــرة للحدود، واضطرت روسيا ولسنوات بقبولها بــشــكــل أو بـــآخـــر عـــلـــى الــــرغــــم مــــن الــعــراقــيــل
والعقبات الكثيرة. عجز مجلس األمن خالل 6 أشهر من حرب غزة، قابلته جمعية عامة أكثر حسما في وجه انتهاكات االحتالل، إذ تبنت قــــــرارات مـشـابـهـة فـــي صـيـاغـتـهـا لـتـلـك الـتـي استخدمت الــواليــات املتحدة الفيتو ضدها في مجلس األمــن. وشملت الـقـرارات املطالبة بإدخال املساعدات اإلنسانية وعدم استهداف البنية التحتية وهدن إنسانية. وعلى الرغم مـن أنـهـا تعتبر توصيات وهــي غير ملزمة، إال أن تبنيها بأغلبية ساحقة شكل إحراجا شـــديـــدا لـــلـــواليـــات املـــتـــحـــدة وأظـــهـــرهـــا شبه منعزلة في موقفها من الجرائم اإلسرائيلية ودعمها لها. وصوتت الكثير من الــدول بما فـيـهـا دول غــربــيــة دعــمــا لـتـلـك الــــقــــرارات، ما أظهر شرخا في املوقف الغربي. آخرها القرار الـــذي تبنته الجمعية الـعـامـة فــي ديسمبر/ كـــانـــون األول املــــاضــــي، والــــــذي حــصــل على تأييد 153 دولــة (مـن أصـل 193 دولــة عضوا في الجمعية العامة) ومعارضة 10 دول على رأسها إسرائيل والـواليـات املتحدة وامتناع 23 دولــة. على الرغم من الضغوط والهجوم الـــشـــرس الـــــذي شــنــتــه إســـرائـــيـــل ضـــد األمـــن الـــعـــام لــأمــم املــتــحــدة أنــطــونــيــو غـوتـيـريـس بـدايـة الــحــرب، والـــذي استعر كلما اشتعلت الحرب، ووصل إلى حد مطالبته باالستقالة، واتــهــام األمـــم املـتـحـدة ومنظماتها املختلفة بـــمـــعـــاداة الــســامــيــة وغــيــرهــا مـــن االتــهــامــات الباطلة، إال أن الـدور الـذي لعبه األمـن العام كــــان أكــثــر تـعـقـيـدا مــمــا يـحـلـو إلســـرائـــيـــل أن تـــدعـــيـــه. فــغــوتــيــريــس اســتــمــر فـــي حـــــذره في مـا يخص انتقاد إسـرائـيـل، لكن حــال الواقع واالنتهاكات غير املسبوقة، بما فيها مقتل أكـــبـــر عــــدد مـــن مــوظــفــي األمـــــم املـــتـــحـــدة (مــن وكـــــالـــــة غــــــوث وتـــشـــغـــيـــل الــــالجــــئــــن أونـــــــروا وأغـلـبـهـم فلسطينيون) فــي تــاريــخ املنظمة وفي فترة زمنية قصيرة، أجبرته على اتخاذ
مـواقـف أكثر حسما. كما أنــه، حتى اآلن وإن كــــان أقــــل مـــن قـــبـــل، ال يــســتــخــدم نــفــس الـلـغـة فــي إدانــــة الـعـنـف واالنــتــهــاكــات اإلسـرائـيـلـيـة ضـــد الـفـلـسـطـيـنـيـن، فـــي حـــن ال يـــتـــورع عن وصــــف مـــمـــارســـات املــقــاتــلــن الفلسطينين باإلرهابية وإدانتها، في الوقت الذي ال يدين صــراحــة دائــمــا عـنـف املـسـتـوطـنـن والجيش وإرهـــاب الـدولـة واملــجــازر التي ترتكب بحق الــفــلــســطــيــنــيــن املـــدنـــيـــن، بــــل يــســتــخــدم فـي الـــغـــالـــب لـــغـــة «الـــتـــعـــاطـــف» و«الــــــحــــــزن»، وإن استخدم كلمة إدانـة في سياق الجرائم التي تـــرتـــكـــب ضــــد الــفــلــســطــيــنــيــن فـــإنـــه غـــالـــبـــا ال يسمي الفاعل. ال شــــــك أن وضــــــــع غــــوتــــيــــريــــس حـــــســـــاس، خصوصا أنه يحتاج لالستمرار والتفاوض مع إسرائيل حول إدخال املساعدات وغيرها، إال أن حـجـم املـــجـــزرة فــي غـــزة وطـــول تـاريـخ وأمــــد الــظــلــم للفلسطينين يــحــتــم عـلـيـه أن يتخذ مواقف أكثر وضوحا، وهو ما لم يقم بــه دائـــمـــا. مــثــال عـــدم إدراجـــــه إســرائــيــل على «قائمة العار» في أي من السنوات املاضية، عــلــى الـــرغـــم مـــن ارتــكــابــهــا واحـــــدة مـــن أعـلـى معدالت قتل وجــرح األطفال في الصراعات. وسيصدر تقرير هذا العام في شهر يونيو/ حزيران املقبل ويغطي العام املاضي، وسنرى إذا كان سيستمر في التستر على إسرائيل. ودان غوتيريس بشكل مباشر وال لبس فيه عملية الفصائل الفلسطينية فــي 7 أكتوبر (هــــجــــوم حـــركـــة حـــمـــاس عـــلـــى مــســتــوطــنــات غــــالف غــــــزة). وبـــعـــد يـــومـــن (فــــي 9 أكــتــوبــر) قــال إن «الهجمات لـم تــأت مـن فـــراغ»، مؤكدًا فــي الــوقــت ذاتــــه أن تـصـريـحـه ال يـعـنـي «أنــه يبررها»، وأن التاريخ لم يبدأ في أكتوبر. إال أن الحملة اإلسرائيلية ضـده تكثفت بعدها في أسبوعن عندما كــرر هـذه الجملة خالل إحاطة له في مجلس األمن الدولي. ولم يطالب