Al Araby Al Jadeed

لتستمّر المقاطعة

- حسن مدن

نستعيد هنا السجال الذي دار بني زعيم الهند التاريخي وبطل استقاللها، املهاتما غـانـدي، وشـاعـرهـا الكبير طـاغـور، فـي ذروة املـقـاومـ­ة املـدنـيـة الـواسـعـة لالستعمار البريطاني للهند، يــوم ســـادت حملة إلحـــراق األقـمـشـة األجنبية صـيـانـة لألقمشة الهندية، حيث دعا غاندي إلى عودة الهنود إلى مغزلهم اليدوي ليصنعوا مالبسهم بأنفسهم، حتى أنه استهجن موقف صديقه طاغور وخاطبه بالقول: «عندما فقدنا مغزلنا فقدنا رئتنا اليسرى، ولذلك نحن نشكو اآلن مـرض الـسـل، ولـن نستطيع وقـف هـذا املــرض حتى نعيد املـغـزل» . قـال غاندي شيئًا آخـر مهمًا: «مـن الخطيئة أن أشتري القمح األميركي في حني أن جـاري الـذي يبيع القمح الهندي ال يجد من يشتريه منه. كما أني أذنـب إذا اشتريت األقمشة اإلنكليزية الغالية، مع أني أعرف أنــي لـو اشتريت القماش الــذي غزله ونسجه عـمـال هنود فإني استطيع أن أكسو نفسي وأكسوهم. ولذلك، عندما يتحقق لي ذنبي، وتفتضح أمـام عيني خطيئتي، يجب أن أعمد إلى ما أملكه من مالبس أجنبية فألقيها في النار وأطهر بذلك نفسي، ثم أقنع بأن ألبس القماش الهندي الذي ينسجه أبناء الهند حولي، وإذا لم أجد هنودًا يغزلون، فإني أرى أن علي أنا نفسي أن أقوم بالغزل، حتى يقتدي بي الناس». وفي تلخيص بليغ لرأيه، قال وهو يخاطب الشاعر طاغور: «ماليني الهنود تطلب قصيدة واحدة من الشعر، هي الطعام املقوي، ولن ينالوه إال بالعمل الذي نقدمه لهم» . نشأ هـذا النهج لـدى غاندي عندما كـان مقيمًا في جنوب أفريقيا، في مسعى منه إلى الــوقــوف مـع الـعـّمـال اآلسـيـويـ­ني املقيمن فيها، حـني دعـاهـم إلــى سـلـوٍك مـشـابـٍه في مقاطعة بضائع من يستغلونهم، ثم نقل تجربته هذه إلى وطنه الهند، وقاد شعبها في معركة االستقالل متجنبًا استخدام العنف وسيلة لبلوغ هذا الهدف، وبدأ الحملة بتعبئة الناس لالعتراض على ضريبة امللح املغالى فيها، وسيلة من وسائل التصدي لالحتالل البريطاني، عبر حرمانه من كل ما من شأنه أن يمده باملال وقوة العمل، وهو النهج الذي أثبت فاعليته في حمل املستعمر على إعادة حساباته، واضطراره الحقًا للتخلي عن هيمنته. وتذكيرنا بدعوة غاندي إلى مقاطعة األقمشة األجنبية مرتبط بحملة مقاطعة منتجات الشركات األجنبية التي تجاهر بدعمها إسرائيل في عدوانها الوحشي على قطاع غزة وعلى كل األراضي الفلسطينية املحتلة، وهي الحملة التي انطلقت غداة العدوان على غزة، الذي دمرالقطاع وقتل عشرات اآلالف من سكانه في حرب إبادة لم يعلم العالم مثيال لها منذ زمن طويل، فضال عن أضعاف هؤالء من املصابني والجرحى، وعن حمالت التهجير املتواصلة. لـعـل الــشــرار­ة الـتـي أشعلت حملة مقاطعة الـشـركـات الـداعـمـة لـلـعـدوان فــي البلدان العربية وكذلك اإلسالمية أو ذات األغلبية املسلمة، ولدى جالياٍت كثيرة في البلدان الغربية أيـضـًا، كـانـت الـخـطـوة االسـتـفـز­ازيـة الـتـي قــام بها صـاحـب امـتـيـاز سلسلة مطاعم ماكدونالد في إسرائيل، ألونيال، بتوزيع آالف الوجبات املجانية على الجنود اإلسرائيلي­ني، غــداة بـدء الـعـدوان، إذ أصبحت ال «ماكدونالد» وحـدهـا، وإنما ايضًا عشرات الشركات ذات املصالح املشتركة مع إسرائيل، هدفًا لحملة املقاطعة. وتشير املعطيات إلى تراجع مبيعات كثير من هذه الشركات، وفي مقدمتها «ماكدونالد» بالذات، وهو األمر الذي حمل الشركة األم على إعادة 225 متجرًا يحمل اسمها في إسرائيل إلى ملكيتها، ويعمل فيها قرابة خمسة آالفً شخص، ومن دون املبالغة في مدى أهمية هذه الخطوة، فإنها بالتأكيد تحمل مغزى معنويًا مهمًا، كأن الشركة أرادت «البراءة» من وكيلها في إسرائيل، ملحاولة تحسني صورتها، واإليحاء برفض ما قام به، بعد اعتراف السلسلة باآلثار السلبية للمقاطعة على مبيعاتها، مشيرة إلى أن تجارتها في الشرق األوسط كانت األكثر تضّررًا، وتراجعت مبيعات الشركة خـالل الربع األول من العام إلـى أدنــى مستوياتها، منذ ما يقرب من أربــع سنوات، وانخفضت أسهمها بنحو %4 بعد اإلعـــالن عـن نتائج املبيعات، واعـتـرف رئيس الشركة بأنه ما دامت الحرب مستمرة في غزة «ال نتوقع أن نرى أي تحسن كبير في هذه األسواق». ما «ماكدونالد» إال نموذج من نماذج الشركات التي أوجعتها حملة املقاطعة، التي يجب أن تتحول إلــى نهج دائــم فـي سلوكنا، وأال تكون مرهونة فقط باستمرار الحرب الحالية على غزة، خاصة مع توفرالبدائ­ل، وفي مقدمتها املنتوجات الوطنية في كل بلد.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar