Al Araby Al Jadeed

ديمقراطية ساخنة: النموذج التركي

- مدى الفاتح

مـــــن الــــســـ­ـهــــل عــــلــــ­ى اإلنــــــ­ســــــان أن يـــطـــال­ـــب بالديمقراط­ية واالحتكام لصوت الشعب حني يكون معارضا أو بعيدًا عن السلطة، أو حـني يعتقد أن الديمقراطي­ة يمكن أن تـكـون رافــعــة جـيـدة يستطيع مــن خاللها الـــوصـــ­ول إلـــى الــحــكــ­م. الــتــحــ­دي الحقيقي هــــو الـــحـــف­ـــاظ عـــلـــى هـــــذه الـــقـــن­ـــاعـــة عـنـدمـا تـكـون على رأس السلطة، وحــني تعلم أن مـن املمكن أن يـــؤدي هــذا الــنــزول لرغبات الناس إلى إبعادك أو استبدالك. ما حدث في االنتخابات البلدية واملحلية التركية أخــيــرًا مــثــال عـلـى مــا أسميتها «سخونة الـديـمـقـ­راطـيـة». ال يحتمل هــذه السخونة كـــثـــيـ­ــرون، ويـــكـــف­ـــي أن نـــتـــذك­ـــر كـــيـــف أنــهــا جعلت رئيس أكبر دولة ديمقراطية يأمر مناصريه بالخروج إلى الشوارع وإحداث شغب يعلنون من خالله رفضهم نتيجة االنــــتـ­ـــخــــاب­ــــات الــــتـــ­ـي أبــــعـــ­ـدتــــه عــــن كــرســي الـرئـاسـة. وقــد تـحـدث كثيرون عـن تراجع حزب العدالة والتنمية على خلفية فشله في الحصول على أصواتّ كافية للسيطرة عــلــى بــلــديــ­ات ومــــدن مــهــمــة، كـإسـطـنـب­ـول وأنقرة. ما لفتني كان ذلك القبول الهادىء للنتيجة املـــؤملـ­ــة، خــصــوصــ­ا إذا وضعنا فــــي االعــــتـ­ـــبــــار حـــجـــم مــــا قـــدمـــه «الـــعـــد­الـــة والـتـنـمـ­يـة» مــن دعــايــة كــانــت مـبـنـيـة على الثقة باستعادة ما خسره في االنتخابات السابقة. في تعليقه على النتيجة، اعتبر الـرئـيـس الـتـركـي رجــب طيب أردوغــــا­ن أن في هذه الخسارة رسالة من الشعب، وأن حزبه يجب أن يلتقطها وأن يستفيد منها، وأن يغير خطابه وبرنامجه وفقا لها. كان مـن معاني خطاب أردوغـــان أن سنن الله ال تجامل أحدًا، وأن أي حزب إذا لم يطور نفسه ويتماشى مع املتغيرات والتحديات الـــــجــ­ـــديـــــ­دة، فــــإنـــ­ـه لـــــن يـــلـــبـ­ــث أن يــــنــــ­زوي ويـتـالشـى، حتى يصبح بـال وزن، أو كما قــال بتعبير الفــت كثلج يـــذوب بالتدريج تحت أشعة الشمس. تسعد هذه الخسارة

أعداء الحزب، خصوصا في العالم الغربي، الــذي كانت نتيجة االنتخابات الرئاسية الــســابـ­ـقــة وإعـــــــ­ادة انـــتـــخ­ـــاب أردوغـــــ­ـــان قد أحبطت كثيرين من ساسته. اسـتـوقـقـ­ت الــكــاتـ­ـب عـــدة مـشـاهـد فــي هـذه االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات، مـنـهـا أن نـــزاعـــ­ا كــــان بـشـأن فوز حزب الديمقراطي­ة ومساواة الشعوب (الــــــكـ­ـــــردي)، املـــتـــ­هـــم بـــالـــت­ـــقـــارب مــــع حـــزب الـــعـــم­ـــال الـــكـــر­دســـتـــا­نـــي، بـــرئـــا­ســـة الـبـلـديـ­ة فــي واليــــة فــــان، أقــصــى شـــرق تــركــيــ­ا. بعد ســـاعـــا­ت طـويـلـة مـــن االضــــطـ­ـــراب، حسمت اللجنة القضائية العليا املستقلة املشرفة على االنتخابات األمـــر، لتعلن أن مرشح الــحــزب عـبـد الــلــه زيــــدان هــو الــفــائـ­ـز، وأنــه يتوجب بناء على ذلك تسليم إدارتها إليه. لم يعجب هذا اإلعالن كثيرين، خاصة من كــان منهم معترضا على السماح ملرشح هــــذا الـــحـــز­ب بـــخـــوض االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات، لكن منطق اللجنة كان مختلفا، فبغض النظر عــن أي شـــيء، فــإن زيــــدان، وهــو شخصية ســيــاســ­يــة مـــثـــيـ­ــرة لـــلـــجـ­ــدل، حـــصـــد الـــعـــد­د األكــبــر مــن األصــــوا­ت فــي املـديـنـة. تتضح، فــــي هـــــذا املــــثــ­ــال، ســـخـــون­ـــة الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة التي تسمح ملتعاطفني مـع حـزب يمارس اإلرهاب ضد الدولة بخوض االنتخابات، فــقــط بــشــرط الــتــحــ­لــي بــاملــسـ­ـؤولــيــة وعـــدم تبني منطق اإلرهابيني بشكل معلن. ليس هذا فقط، ولكن حتى حينما يحدث إشكال فني وتتاح فرصة إللغاء فوز ممثل الحزب املعارض وتنصيب منتم للحزب الحاكم، الذي يأتي في املرتبة الثانية، فإن اللجنة االنتخابية املستقلة تعود لتنصر األول وتؤكد فوزه ضد الثاني. فاز حزب الديمقراطي­ة ومساواة الشعوب بعشر واليات في جنوب شرق تركيا، حيث األغلبية الكردية، وفيما يرى بعضهم أن هــذا يعني أن خطابه كــان مقنعا ألولئك األكــــــ­ــراد، يــــرى آخــــــرو­ن أن الـــنـــا­س دعــمــوا الـــحـــز­ب اتـــقـــا­ء لـغـضـبـه أو غـضـب حليفه، «الــعــمــ­ال الـكـردسـت­ـانـي» الـــذي لــن يحتاج بعد الفوز للقيام بأي عمل انتقامي. بغض

ما حدث في االنتخابات البلدية والمحلية التركية مثال على «سخونة الديمقراطي­ة»

النظر عن هذا الجدل، ينفي الوصول إلى هــذه النتيجة أي حـديـث عــن التمييز، أو االضــــطـ­ـــهــــاد، أو عــــن حــــرمـــ­ـان األكــــــ­ــراد مـن ممارسة حقوقهم السياسية. على الجانب املـقـابـل، تـألـق حــزب الشعب الــــجـــ­ـمــــهـــ­ـوري، الـــــــذ­ي حـــصـــل عـــلـــى الـــجـــز­ء األهــم من الكعكة االنتخابية، لكن الالفت تـصـريـحـا­ت رمـــــوزه، الــتــي كــانــت أبــعــد ما تــكــون عـــن الـتـشـنـج واملــبــا­لــغــة فـــي الــفــرح. جعل هذا املسألة برمتها تعود إلى أصلها البسيط، املتمثل في التنافس على خدمة الـــشـــع­ـــب. وقـــــد قـــــال زعـــيـــم حـــــزب الــشــعــ­ب الجمهوري أوزكور أوزال، في تعليقه، إنه ال يوجد خاسر في هذه االنتخابات، فيما قــال منصور يـــاواش: «فـزنـا ولــم ننتصر، فـالـنـصـر يــكــون عــلــى األعــــــ­ـداء، ومــــن فـزنـا عليهم ليسوا أعداء نا بل منافسونا». يـــذكـــر هـــذا كـلـه بــعــبــا­رة مـنـسـوبـة للزعيم الـــســـو­دانـــي الــــراحـ­ـــل إســمــاعـ­ـيــل األزهـــــ­ـري: «الديمقراطي­ة نور ونار، فمن أراد نورها، فـلـيـصـطـ­ل بـــنـــار­هـــا». تـكـمـن املـشـكـلـ­ة حني يــتــعــا­مــل الـــنـــا­س مـــع الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة وفــق املصلحة، يدعمونها حينا، ويستعدون لوأدها بال رحمة، حني تتغير الظروف.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar