«الجمهورية الديمقراطية الفلسطينية» أو فلسطين علال الفاسي
ليس معروفًا لكثيرين أن اهتمام الزعيم املـــــغـــــربـــــي، مـــــؤســـــس حــــــــزب االســـــتـــــقـــــال، عـــال الـفـاسـي 1910( – ،)1974 بالقضية الفلسطينية يعود إلى الفترات األولى التي تــجــنــدت فـيـهـا نـخـب مـديـنـيـة مـغـربـيـة في املـــدن التقليدية، وأســاســًا فـي فــاس وسا وغيرهما، لنصرة ثورة 1936 في فلسطني مــــن خـــــال الــتــعــبــيــر الـــديـــنـــي عــــن صــافــة االسـتـعـمـار اإلنـكـلـيـزي ومـظـاهـر االنــتــداب الــــتــــي كــــــان يــســيــطــر بـــهـــا عـــلـــى األوضـــــــاع الفلسطينية بــعــامــة، وتــعــديــه كــذلــك على سيادة الشعب حني مكن اليهود، باستبداد مـكـشـوف وتـــجـــاوز مــفــضــوح، مـــن تحقيق مـــشـــروع وطــــن قـــومـــي لـــهـــم. وســيــتــواصــل اهــتــمــام الــفــاســي بـالـقـضـيـة الفلسطينية عــنــدمــا اســتــقــر فـــي الـــقـــاهـــرة، بــــالــــذات في الـــفـــتـــرة الـــتـــي قــــــررت فــيــهــا األمـــــم املــتــحــدة تـقـسـيـم فـلـسـطـني ،)1947( ومـــا تــاهــا من أحداث تميزت بالتهجير والتقتيل. ولهذا عــــدهــــا، فـــي تـحـلـيـاتـه ومـــواقـــفـــه الـحـزبـيـة والــشــخــصــيــة، نـكـبـة «لــــم يــمــر بــهــا الــعــرب مـــن قـــبـــل»، ولـــذلـــك هـــي «قــضــيــة كـــفـــاح من أجل تحرير األراضـي املقدسة املغتصبة». وملـا أقبلت سنة ،1968 سنة بعد الهزيمة تقريبًا، فتقرر عقد املؤتمر الثامن لحزب االســــتــــقــــال فــــي مــــنــــاخ مـــضـــطـــرب تــخــيــم عليه حالة االستثناء ،)1965( أخرج عال الفاسي، بعد مـرض أقعده فتأجل انعقاد املؤتمر بسبب ذلــك، موقفًا جريئًا عرضه عــلــى املــؤتــمــر فـــي حــــال مـــن االنـــفـــعـــال بما كـانـت تجتازه القضية الفلسطينية على مــســتــويــني: مـــن حــيــث الــنــهــوض، إذ بـــدأت بالبروز بذلك بوادر الحركة املسلحة التي صـارت تحقق بعض االنتصارات (معركة الــــكــــرامــــة، ،)1968 ولـــــو أنـــهـــا مــــحــــدودة ال تؤثر في األلـة العسكرية الصهيونية، وال تــحــد مـــن أطــمــاعــهــا وجـــبـــروت سيطرتها واحتالها األرض الفلسطينية. والثانية تـتـعـلـق بـتـنـامـي الـفـعـل املــغــربــي، الـحـزبـي والشعبي، ذي الطبيعة املعارضة، لفائدة الــقــضــيــة الـفـلـسـطـيـنـيـة نـفـسـهـا مـــن خــال الــدعــم املــالــي، وجـمـع الــتــبــرعــات، وتكوين املـــنـــظـــمـــات املـــدنـــيـــة الــــداعــــمــــة (الــجــمــعــيــة املــغــربــيــة ملـــســـانـــدة الـــكـــفـــاح الـفـلـسـطـيـنـي، ،)1968 واعــتــبــار الــقــضــيــة، بـشـكـل حـاسـم قضية وطنية، تستوجب النضال، مثلها فـــي ذلــــك، مـــع بــعــض الـــتـــجـــاوز، مــثــل بـاقـي الـــقـــضـــايـــا املـــغـــربـــيـــة الــــتــــي كــــانــــت الـــقـــوى السياسية (الوطنية والتقدمية) فـي ذلك اإلبان، في ظل «حالة االستثناء» املذكورة، تناضل مـن أجـل تحقيقها بعد أن أبطلت الــعــمــل بــالــديــمــقــراطــيــة الـــولـــيـــدة (دســـتـــور .)1962 والــــــذي يــجــب اإللــــحــــاح عــلــيــه، أن الــقــضــيــة الـفـلـسـطـيـنـيـة، فـــي تـفـكـيـر عـــال الـــفـــاســـي، كــانــت قـضـيـة تـــحـــرر مــــركــــب من سـيـاقـني مـتـرابـطـني وقـــف ضـدهـمـا بعنف لفظي وصــرامــة تفكير، بــل واعـتـبـر نفسه بـانـفـعـال عـاطـفـي ظــاهــر، وخـصـوصـًا بعد إعدام سيد قطب في مصر، ناطقًا باسمهما مدافعًا عن االخـتـيـارات التي كانت مقررة تاريخيًا فيهما: أعني ضد القومية العربية ومـع الخافة اإلسامية، والسياق الثاني له عاقة بالزعامة التاريخية في العموم، مناصرًا للفرد املصلح والـهـدايـة للشعب، أي ضد الدولة الوطنية وسلطتها املتنفذة
في التجارب الطليعية التي كانت سائدة في بعض دول املشرق أيضًا. وإذا جـــاز الــقــول إن عـــال الـفـاسـي عــارض بذلك مختلف املواقف التي كانت متبلورة، أو في طريق التبلور، في ارتباط بعقيدتني إيـديـولـوجـيـتـني: الـقـومـيـة الـعـربـيـة، تحت تــأثــيــر املـــــد الـــنـــاصـــري والــبــعــثــي بــصــورة خـــاصـــة، والــعــقــيــدة املــاركــســيــة، بمختلف تجلياتها وصورها التقدمية، التي كانت أسـاسـًا لبعض الـحـركـات التحريرية، فإن تلك املعارضة، وهي علنية وقوية، سقطت مـن الـوجـهـة الدينية فـي الــدعــوة املجانية لـقـضـيـة الــخــافــة، أي اســتــخــاف «زعــيــم» مـسـلـم (يــخــلــف رســـــول الـــلـــه) عــلــى الـــدولـــة اإلسامية ليحكم فيها بالشريعة، فجعلت كــــل مـــحـــاولـــة لــلــتــفــســيــر أو لــلــتــحــلــيــل أو لاقتراح ضربًا من التعليل امليتافيزيقي املجرد للقضايا املبحوثة. ومع هذا التعليل إحياء مفهوم الخافة كمفهوم إمبراطوري بـالـصـيـغـة الــعــثــمــانــيــة الـــتـــي ســقــطــت، في خــضــم تـــطـــور تــاريــخــي مـثـيـر مــنــذ نـهـايـة الـقـرن التاسع عشر، فـي أجـــواء كالحة من الهزائم السياسية والعسكرية والضربات القومية في الربع األول من القرن العشرين .)1924( من املهم اإلشارة إلى أنه، استنادًا إلـــى هــــذا، أمــكــن لـــعـــال الــفــاســي أن يبلور سلسلة من األحكام املبنية على تصورات دينية اتصلت من الناحية اإليديولوجية بما كان يناظرها، أو يناظر بعضها على األقـــل، مـن توجهات مبتدعة فـي األدبـيـات الوهابية واإلخوانية بخصوص القضية الفلسطينية نفسها. واملعنى هنا أن ظهور القضية الفلسطينية قضية احتال ألرض «إســــامــــيــــة» والـــشـــعـــور الـــديـــنـــي املــرتــبــط بفعلها وتـفـاعـاتـهـا، فــي بــدايــة ظهورها وتــحــولــهــا إلــــى عــنــصــر جـــــاذب لـاهـتـمـام واملـشـاركـة، حولها إلــى قضية «مـقـدسـة»، مع االرتباط الذي لهذا التقديس بالقدس، وإلــــــى أفـــــق مـــشـــتـــرك لـــلـــنـــضـــال فــــي سـبـيـل افتدائها من الغاصب املحتل. وعــلــى هـــذا األســـــاس، انـقـلـب كــل شـــيء في تـــصـــور عــــــال الـــفـــاســـي إلـــــى مــــا يــنــاقــض، بــاملــخــالــفــة الـــجـــذريـــة والـــتـــطـــرف الـلـفـظـي، التصورات الكبرى في الخطط السياسية املـــعـــروضـــة لـــحـــل الــقــضــيــة الـفـلـسـطـيـنـيـة. فـــجـــاء فـــي تــــصــــوره، أســـاســـًا لـــذلـــك، قــولــه: إن الــقــومــيــة الــعــربــيــة بـــدعـــة غـــربـــيـــة، وإن االســـتـــعـــمـــار الــــغــــربــــي هــــو «الــــــــذي أوحــــى لدعاتها في العالم العربي بوجوب إنهاء وجود الخافة»، فضا عن أنها كانت، كما يقول، أسلوب تفرقة بني العرب واملسلمني. وفــي املـقـابـل، تـجـاوز هــذه األوضــــاع، بناء عـــلـــى األســــــــاس الـــفـــكـــري والــــعــــقــــدي الــــذي افترض مقوماته التامة بتجريد الهوتي متخيل، لن يتم إال من خال «إعان وحدة املسلمني، وتوعيتهم بما هم عليه، واتباع العقيدة اإللهية التي ال بديل منها لنهضة املسلمني وتـحـريـر فلسطني». والخاصة فـي ذلــك كله يمكن صياغتها على النحو اآلتـي: أسباب الهزيمة كامنة في القومية، والـــنـــصـــر مـــضـــمـــون بـــالـــخـــافـــة. ســيــكــون الــــحــــل املـــقـــتـــرح فــــي نـــظـــر عـــــال الـــفـــاســـي، بــنــاء على هــذه املنطلقات جميعها، على مستويني: التمهيدي، املرتبط بـ«حقائق الـــــوجـــــود» املــســتــخــلــصــة، فــــي نــــظــــره، مـن التجارب والتاريخ. من ذلـك مثا: أن بقاء إسرائيل «دولة دينية سالية» ال يمكن أن
القضية الفلسطينية، في تفكير علال الفاسي، كانت قضية تح ّرر ُم َر ّكب من سياقين مترابطين وقف ضدهما بعنف لفظي وصرامة تفكير
يقبله الــعــرب واملـسـلـمـون، وأن الــعــرب في وضعهم الحالي )1968( ال «يـقـدرون على سحق إسرائيل وإجــاء اإلسرائيليني عن الــشــرق األوســــــط»، وأن الــعــرب واملسلمني ال يـحـمـلـون أي عــــداء لــلــيــهــود، «فــهــم أهــل الــــكــــتــــاب جــــــديــــــرون بـــالـــتـــمـــتـــع بـــالـــكـــرامـــة اإلنـسـانـيـة»، ولكنهم ال يـــرون مـوجـبـًا ألن تـتـكـون «دولـــة يـهـوديـة مبنية على الدين والـسـالـة»، وأن على العرب واليهود معًا أن يفكروا في الواقع وأن يعلموا أنه «ليس بــاســتــطــاعــة أحــــد الـــطـــرفـــني الـــقـــضـــاء على اآلخــر نهائيًا». أمــا املستوى الفعلي، فهو الـــذي يـجـسـده الـحـل الــخــاص الـــذي انتهى إلــيــه عــــال الـــفـــاســـي، عــنــدمــا اقــتــرحــه على أعضاء املؤتمر الثامن لحزبه، وعلى العرب واملسلمني، وعلى الرأي العام، وعلى الرأي اليهودي املتحرر جميعًا، فكانت النشوة الـفـكـريـة والــديــنــيــة الــتــي صـاحـبـت مقترح الحل في غاية االبتداع، أي إنه لم يأت على أي مـثـال سـابـق، رغــم أن الحبيب بورقيبة كــــان قـــد جــهــر فـــي 1966 مـعـتـرفـًا بـالـكـيـان الصهيوني وحقه في الـوجـود. ومـن الظن أنه على درجة عالية من االستحالة بالنظر إلى األطماع الصهيونية التي ابتلعت على امتداد مرحلة تاريخية مطبوعة بالتهجير والــتــقــتــيــل، ولـــم يــكــن عـــال الــفــاســي غــافــا عـــن ذلــــك، كــامــل الـــتـــراب الـفـلـسـطـيـنـي. فهل بمقدور اليهود، في هذا الحل، أن يتخلوا عــــن الـــصـــيـــغـــة الـــديـــنـــيـــة والـــســـالـــيـــة الــتــي أعطوها لدولتهم؟ علمًا أن الـعـرب تخلوا عـن فـكـرة إجـــاء الـيـهـود الـذيـن استوطنوا فـــلـــســـطـــني، وأن الــــجــــيــــوش اإلســـرائـــيـــلـــيـــة نفسها لــم تـعـد تـحـتـل األراضـــــي الـعـربـيـة. وهــل تقبل إسـرائـيـل بـعـودة الـاجـئـني إلى ديــارهــم، وتعويضهم عما فـقـدوه مـن مال بــســبــب تـــشـــردهـــم؟ وهــــل مـــن املــمــكــن قــيــام دولـة الدينية يمكن تسميتها الجمهورية الديمقراطية الفلسطينية، ووضع دستور لها يقرره املؤتمر التأسيسي على أساس وفاقي بني الديانات والطوائف، وأن توزع السلطة بصفة عادلة بينها، مع االعتراف لها بكامل حريتها الدينية؟ على أن يتوج ذلك كله، وهي الحلقة األسهل مناال، بقبول الــجــمــهــوريــة املـــذكـــورة عــضــوًا فـــي جامعة الدول العربية.