توثيٌق للذاكرة... الحياة قبل اإلبادة وبعدها
تـــجـــاوزت حـــرب اإلبـــــادة الــتــي تـشـنـهـا قـــوات االحـــتـــالل اإلســرائــيــلــي عـلـى غـــزة 180 يـومـًا. الدمار الـذي يشهده القطاع لم يعد يوصف (وكــــــالــــــة األمــــــــم املــــتــــحــــدة لــــغــــوث وتــشــغــيــل الـــالجـــئـــن الــفــلــســطــيــنــيــن أعـــلـــنـــت الــجــمــعــة أن الــحــرب اإلسـرائـيـلـيـة املـسـتـمـرة عـلـى غـزة تـسـبـبـت فـــي تــدمــيــر نــحــو %62 مـــن املـــنـــازل في القطاع، ولفتت إلى أن أكثر من %75 من الـفـلـسـطـيـنـيـن قـــطـــاع غــــزة نـــازحـــون بسبب الحرب، وغالبيتهم نزحوا عدة مرات)، وهذا الـعـجـز الــلــغــوي سـبـبـه اإلبـــــادة نفسها التي تهدد الوصف والـكـالم، ما حـول الصور إلى وثائق تاريخية، ال فقط لإلدانة، بل للذاكرة، وأكــثــرهــا إثــــارة لـلـقـشـعـريـرة صــــورة األقــمــار الصناعية الـتـي تـصـور أحــيــاء الـقـطـاع قبل وبــعــد. صـــور األقـــمـــار الـصـنـاعـيـة مـهـمـا كـان مـــصـــدرهـــا ال تــلــتــقــط «الـــحـــيـــاة» بـــل تكشف الــوحــشــيــة الــتــي يــمــارســهــا جــيــش االحــتــالل اإلسرائيلي ضد قطاع غزة، وتوثق ملا يسمى «إبـــــــادة املـــــنـــــازل»، املــصــطــلــح الـــــذي اقــتــرحــه الـــصـــحـــافـــي الـــبـــريـــطـــانـــي بـــاتـــريـــك ويـــنـــتـــور، لوصف الدمار الهائل الذي تباد إثره البنية الــتــحــتــيــة فــــي غــــــزة، لــجــعــلــهــا عـــصـــيـــة عـلـى االستقرار واستمرار الحياة. أمام إبادة األجساد واملنازل، يقاوم الغزيون عــبــر هــواتــفــهــم إبـــــادة الــــذاكــــرة. إذ اسـتـعـاد الــــكــــثــــيــــرون صــــــور قـــبـــل الـــــحـــــرب وبـــعـــدهـــا ملـــنـــازلـــهـــم وحـــيـــاتـــهـــم وحــمــيــمــيــتــهــم الــتــي يـنـتـهـكـهـا الــجــيــش اإلســـرائـــيـــلـــي. الـنـاشـطـة الــصــحــافــيــة بـلـسـتـيـا الــعــقــاد مـــثـــال جمعت فـي منشور صـــورًا لـغـزة قبل وبـعـد الـدمـار.
نــشــر آخــــــرون صـــــورًا لــبــيــوتــهــم، تــلــك الــتــي اعـــتـــنـــوا بـــهـــا وأثــــثــــوهــــا، ثــــم نــــشــــروا صــــورًا أخـــرى ملـا تبقى منها بعد تدميرها بشكل شــبــه كـــامـــل. الـــصـــور هــنــا تــتــجــاوز قيمتها كــدلــيــل قـــانـــونـــي، نــحــو لــعــب دور كـوسـيـلـة لحفظ الذاكرة واالستمرار في وجه ماكينة الحرب اإلسرائيلية. هـذا املحتوى حميمي وقـاٍس في الوقت نفسه، فنحنّنشهد بدقة كيف تعمل آلة القتل اإلسرائيلية، في نفس اللحظة الـتـي نشاهد فيها كيف يواجهها الــــغــــزيــــون الـــــعـــــزل، ولــــــو بـــــصـــــورة سـتـبـقـى محفوظة في الذاكرة الجمعية، تدين القاتل بدقة ومن دون لبس. تساهم هذه الصورة في كشف شدة انتهاك الـجـيـش اإلســرائــيــلــي لـحـيـاة الــغــزيــن، كـون الجنود أنفسهم يبثون عبر الكاميرات املوثقة على أجـسـادهـم صــور االقـتـحـام واالشـتـبـاك داخل بيوت الغزين، تلك التي حولوها إلى «ساحة معركة» في محاولة لسلب الغزين مدنيتهم. هنا تأتي صـور الغزين أنفسهم لنفي هذه البروباغندا الصهيونية، والتأكيد أن هــذه مساحة للحياة، مليئة بالذكريات والكد والفرح والخوف. صور الغزين تقول ببساطة إن البيوت ليست مـتـاريـس. كشف
خلق جيش االحتالل في قطاع غزة ما يسمى «مساحة القتل»
تقرير لصحيفة هآرتس أن جيش االحتالل خـــلـــق فــــي قـــطـــاع غـــــزة مــــا يـــســـمـــى «مــســاحــة الــقــتــل»، وهـــو مصطلح عـسـكـري يـشـيـر إلـى مـسـاحـة يـمـكـن قـتـل كــل مــا فـيـهـا وتـدمـيـرهـا كـلـيـًا، عـلـمـًا أن حــــدود هـــذه املــســاحــة تتغير بصورة دائمة من أجـل توسيع رقعة القتل. هذه املساحات تكشفت بعدما انتشرت صور ألربــعــة شــبــان غــزيــن عــــزل قتلهم االحــتــالل ملــجــرد مــرورهــم فــي شـــارع مــدمــر. هـنـا نحن أمـــــام مـــفـــارقـــة تــكــشــف عـــن طـبـيـعـة الـــصـــراع، الجيش اإلسرائيلي يرسم «مساحات القتل» إلبـــــادة الــحــيــاة واملــــنــــازل ويــبــث الـــصـــور من أعـــلـــى، والـــغـــزيـــون يــوثــقــون مـــن بـــن الــخــراب «مـــســـاحـــات الـــحـــيـــاة» والــــذاكــــرة الــتــي تــقــاوم ماكينة املوت. بالعودة إلى التوثيق بن قبل الدمار وبعده، نكتشف ال فقط زيف االدعاء ات اإلسرائيلية، بــــل أيــــضــــًا انـــهـــيـــار حـــجـــة «الـــــحـــــرب قــاســيــة وسقوط الضحايا عادي» التي تتردد دائمًا، سـواء على لسان رئيس الــوزراء اإلسرائيلي بنيامن نتنياهو أو أنصار إسرائيل. فنحن لـــســـان أمـــــام حـــــرب، مـــن يـــضـــرب مـــن الــســمــاء ويـقـصـف بــالــصــواريــخ املــوجــهــة ويستخدم الذكاء االصطناعي لم يدمر حتى اآلن سوى منازل مدنين. نحن أمام كم هائل من األدلة التي تكشفها صور (قبل وبعد)، ترسخ أننا أمـــام نية لنفي كـل أشـكـال الـحـيـاة مـن قطاع غـــزة وتـحـويـلـه بـأكـمـلـه إلـــى «مـسـاحـة قـتـل». لــكــن، يــعــود الـــغـــزيـــون إلــــى حــطــام مـنـازلـهـم، ويـلـتـقـطـون الـــصـــور، ويـبـحـثـون بـــن الــركــام عما تبقى من ذكريات أو جثث، يوثقون «كل شـــيء»، فــ«املـا بعد» ليس حطامًا، بـل يقنيًا باستمرار الحياة وإعادة بناء ما تدمر.