Al Araby Al Jadeed

كوكب حمزة...

عبور القنطرة األخير

- علي موره لي

اتــســم امللحن الـعـراقـي كـوكـب حـمـزة 1944( - )2024 الــــذي رحـــل فــي الــثــانـ­ـي مــن الشهر الحالي بتواضع الفــت، تحديدًا بـن أقرانه ونـــظـــر­ائـــه مـــن املـلـحـنـ­ن واملـــغــ­ـنـــن، إلــــى حــد نأى بشخصيته عن عالم الفن الجماهيري مــــن أحـــــادي­ـــــث الــــعـــ­ـاقــــات الـــعـــا­مـــة وإنـــــــ­ارات اإلعـــام، ودنــا بها أكثر من نورانية الزهاد واملــتــص­ــوفــة. فـفـي مقابلة نــــادرة تـعـود إلـى منتصف الثمانينيا­ت، كـان الفنان الراحل قـد حــذر املذيعة واملمثلة اللبنانية مادلن طـبـر مــن أنـــه ال يـجـيـد األداء، ال الــغــنــ­اء وال حتى العزف على العود، وأصر على االكتفاء بتقديمه ضمن ضيوف البرنامج كملحن. حـــتـــى مـــســـيـ­ــرة الــتــلــ­حــن اعـــتـــب­ـــرهـــا ورطــــــة. خال مقابلة أجرتها معه صحيفة «العراق الــــــيـ­ـــــوم» ســـنـــة ،2021 يـــحـــكـ­ــي حــــمــــ­زة عــن الـــبـــد­ايـــات، كـيـف أنـــه لــم يـكـن ليخطر يومًا في باله أن يغدو ملحنًا، وأن زمــاء له في املـــدرسـ­ــة الــتــي عــــن فـيـهـا ذات مـــرة معلمًا للموسيقى في محافظة البصرة في العراق قد ألحوا عليه، معتبرين أن كـل من تخرج من املعهد املوسيقي ينبغي أن يصبح في مقدوره التلحن. هكذا، وبمحض الصدفة، أو الورطة على حد تعبيره، ولد لحنه األول منذ أن سجل في اإلذاعة سنة .1969 لــــذلـــ­ـك، لــــم يــنــتــظ­ــر أحـــــد مــــن صـــاحـــب لـحـن «الـطـيـور الــطــايـ­ـرة» أن يــقــر بــأنــه، وبحسب موثقن ومؤرخن، هو الذي اكتشف املغني الــعــراق­ــي، ذائـــع الـصـيـت زمـــن الثمانينيا­ت والتسعينيا­ت، سعدون جابر، وقدمه على الساحة الفنية. بعد أن تم التعارف بينهما

بــــواســ­ــطــــة صــــديـــ­ـق مــــشــــ­تــــرك، بــــــدأ االثــــنـ­ـــان بــــأواصـ­ـــر رابـــطـــ­ة صـــداقـــ­ة مــثــمــر­ة ومــســيــ­رة تعاون مديد، تقوت بفضل قضائهما فترة مـــن مـهـجـرهـم­ـا الــقــســ­ري مــعــًا فـــي ســوريــة، فتمخضت عن تلك العاقة التشاركية عدة أغــــان، اسـتـمـرت بالعيش طــويــا فــي األذن الجمعية العربية، على األخص في العراق ومنطقة الخليج العربي. مع ذلــك، انتهى بهما املطاف إلـى الخاف، كـمـا روى ســعــدون جــابــر لــوســائـ­ـل اإلعـــام ذات مرة. إذ ملا كانت وزارة الثقافة العراقية بـــصـــدد افـــتـــت­ـــاح املــــســ­ــرح الـــوطـــ­نـــي، طـلـبـت عرفت ألحانه من خالل صوت الفنان العراقي سعدون جابر

مـن املـطـرب الـعـراقـي النجم أن يـقـدم أغنية ألجـــل املـنـاسـب­ـة، فــأصــر عـلـى تـقـديـم أغنية «هـــوى الــنــاس» الـتـي كـــان كـوكـب قــد وضـع لها األلحان قبيل لجوئه إلى خارج العراق منتصف السبعينيات، وبـمـا أن حـظـرًا قد طاول في حينه جميع ألحانه، آثر سعدون أن يسجل األغنية باسم ملحن آخــر، األمـر الـذي أثـار عتب كوكب واستيائه، الـذي دام مدة من الزمن. قد ذكر سعدون أنه حن بدأت الفرقة بقيادة املايسترو العراقي حسن الشكرجي بقراءة نـــوتـــة «هــــــوى الــــنـــ­ـاس» ألول مــــــرة، حـــــزروا على الـفـور أن اللحن لكوكب حـمـزة، ولعل ذلــك أكثر مـا يميز امللحن الفنان. إذ مهما اخــتــلــ­فــت اآلراء واألذواق حـــيـــال مــؤلــفــ­ات مـلـحـن مـــا، ثـمـة دومـــًا مــا يجمعها ويـوحـد بينها، أال وهي بصمته الخاصة به وحده، نتاج سيرته وتجربته ورؤياه، ونزوعه إلى تجسيد أناه في إبداعه والنأي عن تقمص أنوات اآلخرين باالستياء على إنتاجاتهم، وإن ليس هناك مـا يمنع فـي املحصلة من استلهامهم واالقــتــ­بــاس عنهم، بــل إن ذلك سيفيده ويغنيه، ويزيد من تفرده وتميزه. أكثر ما يميز «هـوى الناس»، وبالتالي ما يــمــيــز أســـلـــو­ب كـــوكـــب حـــمـــزة وشخصيته التلحينية، هو االهتمام البالغ بالصياغة املوسيقية، أي كتابة الجمل اللحنية، لكي تنفذها اآلالت منفردة أو مجتمعة من دون صــــوت املـــغـــ­نـــي. غــالــبــًا مـــا يــتــضــح ذلــــك من خال املقدمات التي تسبق دخول الحنجرة حلبة األغــنــي­ــة. إذ تـحـلـق الــكــمــ­انــات، بعيد فاتحة القانون في مدار املقام الرئيسي، أال وهــو الــهــزام، مــن دون أن تحط فـيـه. وعلى الرغم من أن التحليق لن يـدوم طويا، فإن كثافة التنقات املقامية لها أن تحفز األذن بـمـوجـب عـامـل الــتــرقـ­ـب واملــفــا­جــأة، ليخلق دخــــول إيـــقـــا­ع الــبــلــ­دي مــرتــكــ­زًا عـلـى الــهــزام وعـــلـــى وقــــع صـــنـــوج الـــــرق شـــعـــورًا بــاأللــف­ــة والراحة. يــتــجــل­ــى االهـــتــ­ـمـــام بــاملــوس­ــيــقــى اآللـــيــ­ـة في أغــنــيــ­ة أطــلــقــ­ت الـــعـــن­ـــان لــــتــــ­أوالت دالالتـــه­ـــا املـــرتــ­ـبـــطـــة بـــكـــوك­ـــب حــــمــــ­زة كـــفـــنـ­ــان عـــراقـــ­ي تكثف فيه، لفرط حساسيته، تاريخ العراق وتاريخ عاقته بأبنائه، أال وهي «القنطرة بعيدة». إال أن الحضور اآللي ههنا قد انفرد به العود، ليضاف داللة أخرى من بن عديد الــدالالت، ال لشعريته وحسب ولون صوته املـــيـــ­انـــكـــو­لـــي، وال لــكــونــ­ه اآللـــــة الـــوحـــ­يـــدة، فيتماهى مع صورة الذات الوحيدة، وإنما أيضًا لجذوره الضاربة في أرض الرافدين مــنــذ حـــضـــار­اتـــهـــا األولـــــ­ــى، مــــــرورًا بـالـعـهـد الـعـبـاسـ­ي فــي الـعـصـور الــوســطـ­ـى، وصـــوال إلى املدرسة الحيدرية، نسبة إلى الشريف مـحـيـي الـــديـــ­ن حـــيـــدر، ومــــن ثـــم الـبـشـيـر­يـة، نسبة إلـى كـل من جميل ومنير بشير، أول القرن العشرين. بحسب مقالة للكاتب سامر مــشــعــل نــــشــــ­رت فــــي جــــريـــ­ـدة الـــصـــب­ـــاح سـنـة ،2019 فـإن «القنطرة بعيدة» التي نظم لها الكلمات الشاعر ذيــاب كــزار، املشهور بلقب «أبـــــو ســــرحـــ­ـان»، قـــد ظـــلـــت حـبـيـسـة األدراج زمنًا طـويـا، بعد أن تــردد حمزة كثيرًا إزاء عرضها على أي من نجوم الغناء املعاصرين زمـــــن مـنـتـصـف الــســبــ­عــيــنــي­ــات، عـــــاوة على صعوبتها. يدل ذلك على خصوصية األغنية لحنًا وكلمة، والسمة الحميمية للصلة التي تصلها بامللحن.

 ?? (فيسبوك) ?? رحل مساء الثالثاء الماضي في الدنمارك
(فيسبوك) رحل مساء الثالثاء الماضي في الدنمارك

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar