Al Araby Al Jadeed

ضد الممانعة ولكن مع فلسطين

- دالل البزري

مما جاء في شريط «يوتيوب» راج، أخيرًا، مـــديـــر إحـــــدى األقــنــي­ــة اإلخـــبــ­ـاريـــة الـعـربـيـ­ة جالسا على كـرسـي مــوثــوق، يقسم عاملنا إلــــــى فـــســـطـ­ــاطـــن. والــــعــ­ــالــــم الـــــــذ­ي يـــــــرا­ه ال يـمـكـن أن يــكــون واحـــــدا. مــن جـهـة «مـلـيـون فلسطيني سـقـف أحــامــهـ­ـم رغــيــف خـبـز»، مـــمـــررًا شـريـطـا عـــن تـهـافـت أهـــل غــــزة على طعام أغيثوا به، بهندامهم البائس الحزين وضــــيـــ­ـاعــــهــ­ــم وجـــــوعـ­ــــهـــــ­م، وســـــــط بــيــوتــ­هــم املدمرة وارتفاع الغبار... ومن جهة أخرى، «على بعد ثـاث ساعات بالطائرة»، دولة اإلمارات التي «قررت االستثمار في الذكاء االصــطــن­ــاعــي بـمـبـلـغ مــائــة مــلــيــا­ر دوالر»، واملـمـلـك­ـة الــســعــ­وديــة الــذاهــب­ــة أيــضــا نحو اســـتـــث­ـــمـــارا­ت فـــي املـــجـــ­ال نـفـسـه بـقـيـمـة 40 مليار دوالر. ويتابع تمييزه بـن االثنن: «مــن جهة مـجـاعـة، ومــن جهة استثمارات بــالــذكـ­ـاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي». فـيـخـلـص إلـــى أن هــــــذا «لــــيــــ­س شــــــرق أوســـــــ­ط واحـــــــ­ـــد»، إنــمــا «شرقن أوسطين». األول، املفجوع التائه، «أولـــويــ­ـتـــه املـــقـــ­اومـــة ونــتــيــ­جــتــه املـــجـــ­اعـــة»، والــــثــ­ــانــــي «أولـــــوي­ـــــتــــ­ـه الـــــســ­ـــام ونــتــيــ­جــتــه النجاح». األول عائش في املاضي والثاني يصنع املستقبل. وال يخفى أن هذا املدير لبناني. وصاحب تـــاريـــ­خ فـــي مــعــادات­ــه لــحــزب الـــلـــه. وواضــــح أنــه ابتلع الـطـعـم الـقـديـم، الـــذي رمـــاه حزب الــلــه عــلــى الــلــغــ­ة، فـلـكـثـرة مـــا اشــتــغــ­ل على احتكار حمل الساح بذريعة املقاومة، كان ال بد لهذا الحزب أن يساوي بينها وبينه. بحيث أنها (املقاومة) هي الحزب والحزب هو املقاومة. خـارج هذه الصيغة ال وجود للمقاومة. فصرنا نقول «راحـــت املقاومة، جــاءت، ضربت، قـــررت...»، ونقصد الحزب. وبــــذلــ­ــك ســـهـــل عـــلـــى خـــصـــوم الــــحـــ­ـزب بـعـد أصدقائه أن يروا أي مقاومة هي حزب الله. واملدير الذي نحن بصدده لم يحد عن هذا الفهم. يتكلم عن «املقاومة» كمن يتكلم عن الحزب، وال يعود يرى بذلك فرقا بن الحزب وحركة حماس، بن الحزب وفلسطن. إنهم واحــــد. ومـــبـــر­رات رفـــض األول هــي نفسها مبررات رفض الثانية والثالثة. إنها «العدسة اللبنانية» (العبارة للكاتب اللبناني هال شومان). وهي تسمح برؤية الـــحـــر­ب عــلــى غـــــزة بــاملــقـ­ـايــيــس الـلـبـنـا­نـيـة نفسها، وبحركته الذهنية نفسها. مثا: في هذه املقارنة، وكما ابتلع مديرنا طعم «املـقـاومـ­ة»، تحمل عقله ابـتـاع طعم آخـر: تلك األوهـــام التي يفلح الـحـزب بتغذيتها إعاميا أيضا، وقوامها «وحدة الساحات». خصومة هذا املدير للحزب تجعله يسقط هــذه «الــوحــدة» على غــزة وفلسطن، وهو

إسقاط يفيده بلومهما، انسجاما مع عدائه لـحـزب الــلــه. إذ ينظر إلــى مــا يـجـري هناك كما لو كان ينظر إلى ما يجري في جنوب لبنان، فتتيسر عليه مهمة التوبيخ تلك. عـن «الــســام» الـــذي عقدته اإلمــــار­ات، وذاك الــــذي كــانــت الــســعــ­وديــة تــنــوي عـلـيـه قبيل «الـــطـــو­فـــان»، وقـــد عــدلــتــ­ه مــن بــعــده، يـأخـذ عــلــى الـفـلـسـط­ـيـنـيـن أنــهــم أفـــشـــل­ـــوه. وهـــذه الفكرة سـائـرة وســط املـعـاديـ­ن لحزب الله، أن السام كان في متناول يد الفلسطينين ولكنهم رفضوه، أطلقوا عليه النار. وحدهم أجهضوا السام. وهذه هي النتيجة. فيما هــذا «الــســام» الـــذي يتغنى املـديـر بفضله على ازدهـــار اإلمـــارا­ت والسعودية لـم يكن ســوى تطبيع مجاني مـع إسـرائـيـل، يغلق صـــــنـــ­ــدوق الـــــحــ­ـــق الــفــلــ­ســطــيــن­ــي بـــاملـــ­فـــتـــاح الــــصـــ­ـلــــب، ويـــــأمـ­ــــل مـــــن «ســــــامـ­ـــــه» ســـاحـــا ونوويا، تكافئهما أميركا عليه. وهــــــــ­ـــــذا مــــــــو­قــــــــف «عـــــــمـ­ــــــيـــ­ــــق» مــــــــن الــــــحـ­ـــــق الفلسطيني. الغالبية العظمى من املعادين للممانعة أصـروا على التعبير عنه أخيرًا. فـي الـحـرب على غــزة أنـبـوا الفلسطينين. ومـــيـــز­انـــهـــم، «عـــدســـت­ـــهـــم»، مـــا يــحــصــل في الــجــنــ­وب الـلـبـنـا­نـي حــصــرا، وأوامـــــ­ر إيـــران بـتـوسـيـع «املــشــاغ­ــلــة» أو عـــدم توسيعها، بـتـنـفـيـ­ذ مـــن حــــزب الـــلـــه. وكــلــه يـتـرجـمـو­نـه بـنـوع مــن الـــرخـــ­اوة، فــي املـشـاعـر واملخيلة

واألفـكـار، لـدى تناولهم فلسطني والحرب، أو تحليلها. املـجـاعـة فــي غـــزة مــن أفـعـال املقاومة، رسالة أخرى يبثها الشريط. في وقت بدأ فيه العالم أجمع، وحتى حلفاء إسرائيل، يشيرون بأصابع االتهام إليها، لـــدورهــ­ـا الـصـريـح فــي تـجـويـع أهـــل غـــزة،

بعد قتلهم وتدمير بيوتهم وتهجيرهم، وماحقتهم إلى حيث تأمرهم بالهروب... ينسى املــديــر أنـــه عــائــش فــي هـــذا الـزمـن. وقـــد يــكــون ذلـــك طبيعيًا إذا بقينا على «عدسته». فهو ال يرى إال ماضيا، تمثله «املــــقــ­ــاومــــة»، مـــاضـــي­ـــه الــشــخــ­صــي ربـــمـــا، ويـقـارنـه بمستقبل «تصنعه» الـدولـتـا­ن الرائدتان. مضيعا بذلك الحاضر، صانع املستقبل، بمشاركة املاضي. مع التأكيد، وشـــــيء مـــن الــتــهــ­ديــد املـــبـــ­طـــن، بــــأن الـــذي سيصنع هــذا املستقبل سيكون «أذكــى» مــن أصــحــاب هــذا الـحـاضـر الفلسطيني، الــغــزي، بـعـون الــذكــاء االصـطـنـا­عـي الــذي يستثمر به، وهو أرفع من ذكاء الجميع. وسوف يهزمكم يوما ما... تمنح الحالة اللبنانية نفسها إلــى املدير صــاحــب الــشــريـ­ـط. مـــن جــهــة، يــصــرخ أمــني عام حزب الله حسن نصر الله بنصر حزبه مـتـأهـبـا، رامــيــا صـواريـخـه عـلـى إسـرائـيـل، يبلغ ذروة اسـتـنـفـا­ره بـعـد مقتل مـسـؤول من الحرس الـثـوري في دمشق. ومـن جهة أخـــــرى، تــتــصــد­ى زعـــامـــ­ات طـائـفـيـة لــــه، أو تـــهـــدد­ه بــالــكــ­ونــفــدرا­لــيــة (تــقــســي­ــم)، تصف نفسها بـ«السيادية»، وال تقل عـن الحزب استقواء بخارج يلعب في غير ملعبها.

ََّ اآلن، تخيل غزيًا يشاهد الشريط التأنيبي هــــذا. أنــــت مــن املـــاضــ­ـي، أنــــت مــقــاومـ­ـة، أنــت ضــــد الـــــســ­ـــام، لــــذلـــ­ـك أنـــــت جــــائـــ­ـع، ضـــائـــع. وســـط كــارثــتـ­ـه، بــمــاذا يـفـكـر؟ مـــاذا يختار؟ كيف يختار؟ أيــن أخـطـأ؟ هـل كــان عليه أن يـؤيـد الــســام، مـثـا، ويـذهـب إلــى السلطة، إلى الضفة الغربية، وهو محاصر، ليعلن انضمامه إلى «معسكر السام»؟ ولكن هذا الخيار أيضا مستحيل. إذ اعتاد املدير على تحميل فشل السام على كل الفلسطينين­ي، فكيف تستقيم إذن دعوته لانضمام الى املستقبل السلمي املزدهر، الـذي ال مجاعة فيه وال موت؟ يـــصـــدق بـعـض مـنـاهـضـي حـــزب الــلــه على إحــدى دعـائـم حركته: مـن أن ثمة اندماجا تاما بني املمانعة وفلسطني. وذلك تكريسا لــلــكــذ­بــة الـــذائــ­ـعـــة أن قــضــيــة املــمــان­ــعــة هي فلسطني. ال يفصلون بــني االثــنــن­ي. وغبار الــــــحـ­ـــــرب ال يــــســــ­اعــــدهــ­ــم. وال «عـــدســـت­ـــهـــم الـلـبـنـا­نـيـة»، ذات اإلطــــار الــثــابـ­ـت املــتــحـ­ـرك، الذي يدور حول انتظار اللحظة اإلقليمية الدولية، فيصيبهم الزمن بعصبهم، يرخي مفاصلهم، كما يصيب غيرهم من أصحاب االنتظارات امليؤوس منها. هــــذا الــخــلــ­ط بـــني املــمــان­ــعــة وفــلــســ­طــني من الـــصـــي­ـــغ املـــضـــ­يـــعـــة لـــلـــحـ­ــق الــفــلــ­ســطــيــن­ــي. واملــطــل­ــوب الـفـصـل بــني االثـــنــ­ـني. نــعــم، ضد املمانعة، ولكن مع فلسطني.

الخلط بين الممانعة وفلسطين من الصيغ المضيعة للحق الفلسطيني. والمطلوب الفصل بين االثنين. نعم، ضد الممانعة، ولكن مع فلسطين

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar