Al Araby Al Jadeed

الوطن حينما يكون حبيبًا

- عبد الحكيم حيدر

للشاعر األملاني هاينرش هاينه مقولة مفادها: «في ما مضىٌ كان لي وطن حبيب». وتقول الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان «البيت وطن». البيوت تلك املساحات القليلة التي بالكاد نعيش فيها، ونمشي بجوار الحائط أو أكثر

ُّ من ذلك، كي يمر بسالمة يومنا من غير نكد أو مضايقات، لنا أو لغيرنا. ما عالقة هذا كله بذلك الحب املفقود؟ وكيف لم نحافظ على مودة ذلك الحبيب/ الوطن؟ وهل كل الذنب يلقى على املواطن الوحيد، سواء ظل في وطنه أو تركه مغلوبًا أو مهاجرًا أو معتزال أو حتى وهو يعيش على حافته في ضياع أو في سكون واكتفاء؟ ما الذي يوصل الحب وما أسباب ذبوله أو نقصانه؟

ُّ ال أحب األغاني التي تحرض على املحبة، فاملحبة ال يحرض عليها، وال أحب األناشيد في املحبة، خاصة تحت تأثير التوجه السياسي، فكلها أشياء ال تخدم سوى السلطة. ومع ذلك، ال مانع أن تشعر بالحنو تجاه شجرة «نبق» في شارعك القديم أو خياط أعمى يعمل باإلبرة على «عـراوي الجالليبب» ليل نهار أو ذلك «الغيط» الذي عملت به صغيرًا أو ذلك القمر السهران الذي كان ال يفارق سطح منزلك أو تلك «الترعة»

ُّ الصغيرة التي عمت فيها واصطدت األسماك من مياهها أو ذلك القطار الذي يحمل عيدان قصب السكر وكنت تعرف صوته وتحن اآلن ألن تراه وهو يتهادى بالقصب من بعيد في بلدتك الصغيرة، بعدما رفعوا قضبانه وباعوا أرضه دكاكي، وباعوا الخردة أيضًا للمصانع. فالوطن أشياء حميمة كنت تنظر إليها من على القنطرة كأحالم جميلة، كعبور بنت صغيرة جميلة وراء «الجاموسة» وفي يدها عكاز من شجر السنط، وكنت تبتسم على يدها الصغيرة وهي متحكمة في العكاز كنمر، ومنتبهة لرسن «الجاموسة» في ساعات العصارى، وهي ذاهبة بها إلى «الترعة» كي ترعى نبات الحلفاء على الجرف. أما عيونها الزرقاء فتلك حكاية أخـرى، وخاصة حينما ترفع عكازها للعيال، وتخطف عود القصب الساقط من القطار. محبة الوطن هي أال أنسى ما حييت ليلة جميلة نمت فيها على محطة الجيزة، ولم يكن في جيبي أزيد من جنيه واحد. وبعد الفجر بقليل، خرجت فتاة جميلة ونفضت «الكليم»، ثم سقت صبارتي على «البلكونة»، وما زلت كلما مررت بمحطة الجيزة أحس أنه كان لي ذلك الوطن الذي كان في «بلكونة» قديمة لم أعد أراها. الوطن هو تلك الهواجس التي تكونت في داخلنا مع عذاباتنا، وليست تلك األغنيات التي أنطقتها السلطات بالسوط، فخرجت من أفواه املطربي واملطربات. الوطن الذي نحب هو تلك األحالم واألشياء الجميلة التي عاشت معنا ولم نفرط فيها، حاضرة أم غائبة، أم جرى تغييبها عنا بفعل فاعل. الوطن نائم تحت ضلوعنا من غير سلطة أو خـوف أو نـفـاق، فهو يشبه دموعنا تمامًا، ونحن نبكي فقط من أجلنا نحن، ال من أجل «كارنيه» الحزب أو بعثة الحزب أو مكاسب اللجان أو السفر أو الجوائز أو الشلة أو الثناء،... إلى آخره، نحن نحب وطن أرواحنا الذي تعبنا فيه وحرسناه في داخلنا، حرسناه من أخطائنا وخطايانا ونزقنا من أجل أنفسنا، وليس من أجل أحد كـان، أي أحـد، وذلـك هو الـذي أظنه يبقى لنا من محبة الوطن. ذلك الوطن الذي نراه في لحظات الصدق، ونراه في رائحة أوالدنا حتى وإن قسوا علينا، ونراه أيضًا في حبيباتنا ونراه في الشجر الذي كان نابتًا بإهمال على حواف «الترع» ومحمال بالزهر الجميل الذي ليس له رائحة كشجر السنط أو السيسبان أو الكافور، وكان ذلك الزهر يشبه تمامًا أحالمنا ويشبه بيوتنا البسيطة وصحبتنا. الوطن هو سّرنا الحميم، سّر أن نواصل الحياة، ونتسامح وننظر إلى السماء فنرى طيوَرنا التي تحنو على ما صبرنا عليه وما سوف نصبر عليه في أيامنا، لم نطلب من الوطن أي شيء، سوى أن يحافظ على حسن مودتنا، ال نريد منه أي شيء آخر، سوى أن يتركنا في راحة قبورنا أو عزلتنا، ال نريد مسالته، وال صولجانه، وال دباباته، وال طائراته، وال أغنياته. فقط، أن يتركنا ألحوالنا وحرياتنا وكرامتنا وجنوننا وقبورنا وطيورنا وكتبنا وأقالمنا وشبابيكنا القديمة. ال نحب هؤالء العواذل الذين يقفون ما بي املرء ووطنه، ما بي القلب ونبضه، وما بي السّر وصاحب السّر.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar