Al Araby Al Jadeed

وليمة مسرحية في كهف ال

ال يبدو الُمخرج اللبناني الُمطبِّع معنيًّا باإلبادة الصهيونية التي طاولت جنوب بالده ولم تقتصر على غزة، فها هو يعود إلى بيروت لتقديم أحد عروضه، بعد شراكات مع مؤَّسسات وُممثّلين إسرائيليين، وبعد تبنّيه سردية االحتالل حول عملية «طوفان األقصى»

- بيروت ـ أنس األسعد

«وليمة عرس عند سكان الكهف»، كـــان يـمـكـن لـهـذه املـسـرحـي­ـة املـقـرر عــرضــهــ­ا فـــي الــثــاثـ­ـن مـــن الـشـهـر الـــــجــ­ـــاري عـــلـــى خـــشـــبـ­ــة مــــســــ­رح «مـــــونــ­ـــو» فـي بـــيـــرو­ت، لـلـمـخـرج الـلـبـنـا­نـي الــكــنــ­دي وجـــدي مـــعـــوض ،)1968( أن تــكــون جــــزءًا مـــن رسـالـة املــــســ­ــرح الــحــقــ­يــقــيــة ودوره فــــي بـــلـــد مـــــأزوم كــلــبــن­ــان، أو عــلــى األقــــل أن يـلـتـقـط صـاحـبـهـا بحساسيته الفنية إشارات بيروت، التي تكاد تكون املدينة العربية الوحيدة التي لم تنقطع فيها تظاهرات االحتجاج ووقفات املناصرة لـــغـــزة وأهـــلـــ­هـــا، خــــال نــصــف عــــام مـــن حــرب اإلبادة املفتوحة، فضا عما يشهده الجنوب

ُّ الـلـبـنـا­نـي مــن عـــــدوان إســرائــي­ــلــي يـــومـــي ضـد أبناء وطنه. لكن املخرج املطبع اختار الجانب املـظـلـم مـن الـتـاريـخ، اخـتـار أن يجر «والئـمـه» إلى الكهف الصهيوني.

فــــي الـــتـــا­ســـع مــــن تـــشـــري­ـــن الـــثـــا­نـــي/ نـوفـمـبـر املــــاضـ­ـــي، كـــتـــب مـــعـــوض مـــقـــاا­ل فـــي «جـــريـــد­ة لـيـبـراسـ­يـون» (الصحيفة الفرنسية الـتـي لم تـتـورع مــؤخــرًا عـن نشر كاريكاتير عنصري حـــقـــيـ­ــر يـــشـــمـ­ــت بـــتـــجـ­ــويـــع الـــفـــل­ـــســـطــ­ـيـــنـــي­ـــن، وبـــــــر­رت الـــرســـ­امـــة «كــــوكـــ­ـو» ذلــــك بــــادعــ­ــاء ات إســـامـــ­وفـــوبـــ­يـــة)، أي بــعــد مـــضـــي شــهــر على الــــــعـ­ـــــدوان، عـــنـــون­ـــه بـــــ «الــــصـــ­ـراع بــــن حــمــاس وإسرائيل: لن تحظى بكراهيتنا»، استرجع فيه أجـــواء الـكـراهـي­ـة الـتـي أحــاطــت بطفولته إبان الحرب األهلية اللبنانية 1975( - ،)1990 وكـــيـــف «رقــــــــ­ص» عـــنـــد إعــــــان اغـــتـــي­ـــال كــمــال جــنــبــا­ط عـــام ،1977 وكــيــف اعــتــبــ­ر «مــجــزرة صـبـرا وشـاتـيـا» جـــزاء عـــادال للفلسطينين حــيــنــه­ــا، وردًا عــلــى اغـــتـــي­ـــال بــشــيــر الـجـمـيـل .)1982( يريد معوض أن يتجاوز «عبوديته» لتلك األجواء، كما يكتب، وأن يثبت أنه اليوم بات على النقيض معها، وأن خاصه املزعوم منها لم يـأت إال بعد هجرة ودروس حياتية وتعلم طويل. لكن هل نجده، بعد هذا اإلطناب الفارغ على ذاتـه، يجأر بموقف شجاع مندد بــاإلبــا­دة الصهيونية، وهــي التمثيل األبشع والـراهـن ملا يتقوله عن الكراهية، وهل نجده «يمنع املستنقع من الفيضان»؟، كما يكرر. نـتـابـع املـقـال لـنـرى الــرجــل ينتفض انتصارًا للسردية الغربية بتفرعاتها الليبرالية، التي تستطيع أن تبتذل موقفًا «أخاقيًا» وتدعي أنــهــا أيــضــًا ضـــد اإلســامــ­وفــوبــيـ­ـا أو كـراهـيـة السود واملثلين كل هذا معًا،ّلكن مع حرٍص شديد في املقام األول، على أن الكراهية التي يـجـب أن نـخـشـاهـا جميعًا لـيـسـت تـلـك التي توجه قاذفات الصواريخ «الذكية» إلى صدور ورؤوس األطـفـال والـنـسـاء الــعــزل فـي باحات املستشفيات بغزة، بل هي «معاداة السامية»، ومـــعـــا­دو الـسـامـيـ­ة بـرأيـه ُِّ لـيـسـوااأ­لوروبـــيـ­ــن، بــــعــــ­ارهــــم الـــتـــا­ريـــخـــي املـــتـــ­مـــثـــل فــــي املـــحـــ­ارق والـغـيـتـ­ويـات، بـل «روح حـمـاس التدميرية»، وبـــاألخـ­ــص مــا حـــدث فــي الـسـابـع مــن تشرين األول/ أكتوبر .2023 إذًا تحقق خاص معوض من بشاعات الحرب األهلية اللبنانية، بمجرد أن رطــن بتعويذة «مــجــانــ­ن الــــحـــ­ـرب»، الـــتـــي تــــــوزع املــســؤو­لــيــة عـلـى طــرفــن «مــتــطــر­فــن» مــتــســا­ويــن، ال بن مـسـتـعـمـ­ر ومــســتــ­عــمــر، وال كـلـمـة واحـــــدة عن االسـتـعـم­ـار االستيطاني اإلحــالــ­ي. وهــا هو صاحب الثاثية املسرحية «نـسـاء» ،)2011( يتطهر مـن آثـــام الكراهية فـي ذروة السقوط األخـاقـي للغرب بحكوماته جمعاء يمينية كـــانـــت أم يـــســـار­يـــة، فــــكــــ­ا الـــفـــر­يـــقـــن يـــتـــدا­ول األدوار اإلمبريالي­ة ضــد شعوب الـعـالـم، بما فيها شعوبهم التي نراها تمأل الساحات، ال ألجل فلسطن في ذاتها فقط، بل ألنها وجدت فـــرصـــة لــلــعــو­دة إلــــى الــحــيــ­ز الـــعـــا­م مـــن خــال القضية الفلسطينية.

كل هذا ال يعني املخرج املطبع، ومدير مسرح «ال كـــولـــن» الــوطــنـ­ـي الــفــرنـ­ـســي الـــيـــو­م، حيث احـتـفـت بــعــض الـصـحـافـ­ة الـثـقـافـ­يـة الـعـربـيـ­ة بالتجديد له الشهر املاضي، كما لم يعنه عام 2017 عندما قدم عمله «الكل عصافير»، الذي حظي بدعم من سفارة االحتال الصهيوني في باريس، ومن «مسرح كاميري» في تل أبيب، حـيـث عــرضــت املـسـرحـي­ـة عـــام ،2018 وشـــارك فـيـهـا مــمــثــل­ــون إســرائــي­ــلــيــون. بـــل إن انـــعـــد­ام الـحـسـاسـ­يـة اإلنـسـانـ­يـة والـفـنـيـ­ة تــبــدو صفة الزمة ملعوض، حن نعلم أن جزءًا من ثاثيته املسرحية «نـسـاء»، املعنون بـ«أنتيغون»، قد شــــارك فـيـه مــغــنــي الـــــروك الـفـرنـسـ­ي بـيـرتـران كــانــتــ­ا ،)1964( الـــــذي قـــتـــل شــريــكــ­تــه املــمــثـ­ـلــة املـسـرحـي­ـة مـــاري ترنتينيان عـــام ،2003 قبل أن يحكم بثماني سنوات سجن، وبهذا يكون مــعــوض مـتـمـرسـًا فــي «الـتـطـبـي­ـع» مــع القتلة وإعادة تأهيلهم وتقديمهم للرأي العام سواء أكانوا أشخاصًا أم كيانات استعمارية. ومن املفارقات أيضًا، أن املخرج كان قد وجه رســــالــ­ــة بــالــفــ­رنــســيــ­ة فـــي إحـــــدى الــتــظــ­اهــرات الـفـنـيـة عـــام ،2020 وعــلــى أثـــر انــفــجــ­ار «مـرفـأ

بـــيـــرو­ت»، تــحــدث فيها عــن ضــــرورة أن يكون اللبنانيون معًا، خاصة الجيل الجديد منهم، وأن هـــذا «الــــوجــ­ــود مــعــًا» فـــي عـــــرف السلطة قد يكون جريمة أفــدح وأخطر من القتل. في رســالــتـ­ـه تــلــك، تـــســـاء­ل مـــعـــوض عـــن إمـكـانـيـ­ة الغضب وقـولـه، وهـو الــذي نسي العربية في املنفى، واستعصت عليه حروفها الثقيلة، كما كتب، ونراه يعبر عن مقته أولئك البرجوازين الـذيـن يرطنون بلغات غير لغتهم األم، فهل يعقل أن يكون صاحب تلك الرسالة «املؤثرة» قـــد انـقـلـب عـلـى مـــا كـــان يـــنـــاد­ي بـــه قـبـل أربـــع سنوات فقط؟ أليس «الوجود معًا» بعد أكثر مـن أربـعـن ألــف شهيد ومفقود هـو املطلوب اليوم قبل أي شيء آخر؟ وإذا كان قد أسي على نفسه لنسيانه حروف العربية، فاألجدر أال يكون قد نسي ضميره اإلنساني، وليتكلم بعدها باللغة التي يريد، شــــرط أال يـتـلـعـثـ­م أمـــــام اإلبــــــ­ادة ومــرتــكـ­ـبــهــا الـــــذي ال يــخــفــي نــفــســه. أي لـــغـــة تــتــكــل­ــم آنــي إرنو وإدغار موران وجان لوك ميلنشون، يا مخرجنا الـعـاملـي، ومـئـات آالف املتظاهرين الداعمن قضية فلسطن في باريس واملـدن الفرنسية؟ وأي لغة يتكلم «أبطال» اإلنزاالت

نصُف عام من اإلبادة في غّزة لم تمس ضميره اإلنسانوي

 ?? )Getty( ?? وجدي معّوض على يمين ماكرون وميركل أثناء افتتاح «معرض فرانكفورت للكتاب»، 10 تشرين األول/ أكتوبر 2017
)Getty( وجدي معّوض على يمين ماكرون وميركل أثناء افتتاح «معرض فرانكفورت للكتاب»، 10 تشرين األول/ أكتوبر 2017

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar