Al Araby Al Jadeed

الهارب إلى الموسيقى

ليس صعبًا على المهتم أن يدرك موقع عبد العظيم عبد الحق على خريطة الملحنين المصريين، إذ يقف في المنطقة المعلقة جماهيريًا، التي لم تصل مكانة أصحابها إلى رتبة األعالم من أمثال عبد الوهاب والسنباطي، وال نال رموزها شهرة المجربين الجدد

- هيثم أبوزيد

لـــــعـــ­ــل قـــــصـــ­ــة املـــــلـ­ــــحـــــ­ن واملــــمـ­ـــثــــل املصري عبد العظيم عبد الحق 1906( - )1993 مـن أبــرز قصص املــــعــ­ــانــــاة فـــــي ســـبـــيـ­ــل الـــــفــ­ـــن، إذ اســـتـــه­ـــواه التلحني والتمثيل مبكرًا، فكانت العقبات أمامه بالغة التعقيد، حيث االنتماء ألسرة صــــعــــ­يــــديـــ­ـة، تـــحـــظـ­ــى بـــمـــكـ­ــانـــة اجـــتـــم­ـــاعـــيـ­ــة وسياسية، ليس في معقلهم بأبي قرقاص في املنيا فحسب، بل على مستوى العاصمة والــقــطـ­ـر املـــصـــ­ري كــلــه. شـقـيـقـاه عـلـمـان من أعــام املجتمع والسياسة، ورمـــزان بــارزان مـن رمـــوز حــزب الــوفــد. األول، عبد الحميد بـــاشـــا عــبــد الـــحـــق، عــضــو مــجــلــس الـــنـــو­اب عدة دورات، ووزير الشؤون االجتماعية ثم األوقاف في حكومة النحاس باشا، ثم وزير التموين فـي حكومة إبراهيم عبد الهادي بـاشـا، انتخب عــام 1942 نقيبًا للمحامني. بلغت مكانته أن يلحن محمد عبد الوهاب ويغني لتأييده في االنتخابات البرملانية. والـثـانـي، عبد املجيد بـك عبد الـحـق، وزيـر االقــــتـ­ـــصــــاد املـــنـــ­تـــدب فــــي وزارة الـــنـــح­ـــاس الـــســـا­بـــعـــة. ووالــــــ­ـد يـــــرى أن مــــن واجــــبــ­ــه أن يفرض على ابنه دراسـة الحقوق، كي ينال تلك املكانة االجتماعية التي نالها شقيقاه، متمثلة في رتبة الباشوية، أو البكوية، ثم تــولــي الــــــوز­ارة، وأن عـلـيـه أن يـسـتـخـدم كل الوسائل بما فيها الضرب والتعنيف ملنع ابـنـه مـن الــوقــوع فـي «طـريـق الـضـيـاع»؛ أي املوسيقى والتمثيل. وهما في هذا التوقيت مجلبة لــــازدرا­ء فـي األريــــا­ف عـمـومـًا، وفي الصعيد خصوصًا، وعند العائات الكبيرة املـــرمــ­ـوقـــة بــــاألخـ­ـــص. تــحــالــ­فــت الــجــغــ­رافــيــا والـــتـــ­اريـــخ ملــنــع عــبــد الـعـظـيـم مـــن احــتــراف هــــوايــ­ــتــــه، لـــكـــن الـــفـــن كـــــان قــــد امـــتـــل­ـــك قـلـبـه وروحـــه، فلم يكن باستطاعة أحــد أن يقف في طريقه، ولو توقفت األرض عن الدوران. لـــيـــس مــــن الـــصـــع­ـــب عـــلـــى املـــهـــ­تـــم أن يــــدرك موقع عبد العظيم عبد الحق على خريطة املـلـحـنـ­ني املـصـريـن­ي خـــال الـنـصـف الثاني من القرن العشرين، إذ يقف في تلك املنطقة املـعـلـقـ­ة جــمــاهــ­يــريــًا، الــتــي لـــم تــصــل مكانة أصحابها إلى رتبة األعام الرواد من أمثال عبد الوهاب والسنباطي، وال نال رموزها شهرة املجربني الجدد، من أمثال منير مراد وبليغ حمدي وكمال الطويل. إنه يقف في تلك املنطقة الـهـادئـة القريبة مـن الطبقات الـشـعـبـي­ـة، الــتــي تــضــم بـــني رمـــوزهــ­ـا أحـمـد

صـدقـي، ومحمود الشريف، وعبد العظيم محمد. بـني هـــؤالء، يجد عبد الحق لنفسه مكانًا رحيبًا ومكانة مقدرة. لــكــن شــهــرة عــبــد الــحــق املــمــثـ­ـل كــانــت أكـبـر مـــن شــهــرتــ­ه مــلــحــن­ــًا، بـــل إن شـــهـــرة وجـهـه بقيت أوسع كثيرًا من شهرة اسمه. اشترك الرجل بالتمثيل في عدد كبير من األعمال الـسـيـنـم­ـائـيـة والــتــلـ­ـفــزيــون­ــيــة، وكـــــان يـتـرك أثره في املشاهد، حتى لو كان حجم الدور محدودًا. وبينما اعـتـزل التلحني لـعـدة سـنـوات قبل رحيله، استمر في قبول األدوار السينمائية حتى آخــر حـيـاتـه. وقـبـل رحيله بأسابيع، اشترك بالتمثيل في فيلم «لصوص خمس نجوم» عـام ،1993 وتحديدًا بــدور عم عبد الله املسكني. وقبلها بعام اشترك في فيلم «اإلرهاب والكباب» بمشهد واحد، مع عادل إمام، لم ينمح من ذاكرة املشاهدين، لراكب األتـوبـيـ­س الــهــرم، والـسـاخـط على السلوك الشعبي السلبي. ومــــــــ­ـن أدواره املــــــح­ــــــفـــ­ـــورة فـــــــي الـــــــذ­اكـــــــر­ة الــجــمــ­اهــيــريـ­ـة، تــجــســي­ــده لـشـخـصـيـ­ة الـعـم الــثــانـ­ـي لــونــيــ­س فـــي فـيـلـم «املـــومــ­ـيـــاء»، من إخــــــــ­راج شـــــــاد­ي عـــبـــد الــــســـ­ـام عــــــام ،1969 وكذلك تمثيله شخصية النجاشي في فيلم الــرســال­ــة، مــن إخــــراج مصطفى الـعـقـاد عـام .1976 وكان للرجل نصيب وافر من الدراما التلفزيوني­ة، ومنها اشتراكه فـي مسلسل «ليالي الحلمية»، بشخصية أبو شعيشع. وقد بدأ عبد الحق مسيرته الفنية بالتمثيل، الذي سبق ممارسته التلحني لإلذاعة بنحو عـقـديــن مـــن الـــزمـــ­ان. الـتـحــق بـــكـــور­س فـرقـة أمـــني صـدقـي املـسـرحـي­ـة عـــام ،1928 بعدما هــرب مـن بلدته إلــى الـقـاهـرة، لتبدأ وقائع الـصـدام مـع والـــده وأســرتــه. يتكرر الهروب فيتكرر الصدام والضرب املبرح، من دون أن يتزعزع الشاب عن موقفه. في العام ،1938 يشترك بالتمثيل فـي فيلم «يحيا الحب»، مــع محمد عـبـد الـــوهـــ­اب، لـتـبـدأ رحـلـتـه مع السينما، والتي بلغت 55 عامًا. بدأت رحلة عبد الحق مع التلحني بكلمات ملأمون الشناوي، عن «الصيادين»، ليغنيها كـــارم محمود، فتحقق نجاحًا كبيرًا: «هو هــو الــــرزق بــإيــده. هــو يفعل مــا يــريــده. هو الـكـل عـبـيـده». ثـم تـوالـت األعــمــا­ل بـأصـوات نـجـوم الـغـنـاء ومـنـهـم، نـجـاة عـلـي، ومحمد قـــنـــدي­ـــل، وســـعـــا­د مــحــمــد، وعـــائـــ­شـــة حـسـن، وعبد املطلب، وإسماعيل شبانة، وحورية حـــســـن، وســـيـــد إســـمـــا­عـــيـــل، وفــــايــ­ــدة كــامــل،

حققت ألحانه شهرة من دون أن تحقق له نفس القدر من الجماهيرية

انحاز عبد الحق دائمًا إلى الطابع الشرقي للموسيقى

ونـــجـــا­ح ســـــام، وعـــبـــد الــلــطــ­يــف الـتـلـبـا­نـي، وليلى حلمي، وأحمد سامي. حــقــق بـعـض ألــحــان الــرجــل شــهــرة مــدويــة، مـــــن دون أن تـــحـــقـ­ــق لـــــه نـــفـــس الـــــقــ­ـــدر مــن الجماهيرية، واملــثــا­ل األبـــرز لتلك األعـمـال هـو أغنية «تـحـت الشجر يـا وهـيـبـة» التي كـتـبـهـا عــبــد الـــرحـــ­مـــن األبـــــن­ـــــودي، وغــنــاهـ­ـا محمد رشـــدي، فكانت -فــي حينها- قنبلة غــنــائــ­يــة شــعــبــي­ــة، تــغــنــت بــهــا مــصــر كـلـهـا، ومــثــلــ­ت نــقــطــة فـــارقـــ­ة فـــي مــســيــر­ة رشــــدي. كما أنها عاشت لسنوات وعقود، تتذكرها الجماهير وتستعيدها. ومـــن مــشــهــو­راتــه كـــذلـــك، طـقـطـوقـة «سـحـب رمــــشـــ­ـه» الـــتـــي غـــنـــاه­ـــا مــحــمــد قـــنـــدي­ـــل، مـن كـــلـــمـ­ــات الـــشـــا­عـــر عـــبـــد الـــفـــت­ـــاح مــصــطــف­ــى: «ســـحـــب رمـــشـــه ورد الــــبـــ­ـاب. نــســيــت أعــمــل لــقــلــب­ــي حــــجــــ­اب». ويـــعـــد قـــنـــدي­ـــل مــــن أكــثــر املطربني الذين تعاونوا مع عبد الحق، ومن ثمرات هـذا التعاون أغنيات: «ألفني صاة ع الـــنـــب­ـــي»، مـــن كــلــمــا­ت إمـــــام الــصــفــ­طــاوي، و«حـل السواقي» من كلمات علي سليمان، وقصيدة «يا علي القدر» و«اللي بنى مصر كان في األصل حلواني»، وكاهما للشاعر عـــبـــد الـــفـــت­ـــاح مـــصـــطـ­ــفـــى، و«الــــفـــ­ـرحــــة تـمـت علينا» وهو دويتو لقنديل مع فايزة أحمد، من كلمات زين العابدين عبد الله، و«اتمد يــــا عــــمــــ­ري» مــــن كـــلـــمـ­ــات األبـــــن­ـــــودي أيـــضـــًا، وكانت بمناسبة بناء السد العالي، و«هدي الخطاوي» من كلمات محمد إسماعيل. لكن تظل أغنية «وحــدة ما يغلبها غـاب» التي كتبها بـيـرم الـتـونـسـ­ي هــي أشـهـر مــا لحن عـبـد الــحــق لـقـنـديـل، وربـــمـــ­ا أشــهــر ألـحـانـه على اإلطـــاق، وهــي شـهـرة كـانـت أسبابها السياسية أكبر كثيرًا من األسباب الفنية. مـــر عـبــد الــحــق بــمــراحـ­ـل تـأسـيـسـي­ـة مهمة، بدأت بريادته لفريق املوسيقى املدرسية، ثم حفظ كثيرًا من ألحان سيد درويـش. وبعد هروبه إلى القاهرة، التحق بجوقة الشيخ مـــحـــمـ­ــود صـــبـــح ألربــــــ­ع ســـــنـــ­ــوات، فـصـقـلـت

مـــهـــار­اتـــه فــــي الـــتـــل­ـــحـــني، وفـــــي فـــهـــم أصــــول الغناء، ثم تتلمذ على الشيخ زكريا أحمد أربـع سنوات أخـرى، وتشرب منه ما سماه «فــقــه املـوسـيـق­ـى الــشــرقـ­ـيــة». لكنه قــبــل عـام 1948 نصيحة من العالم املوسيقي محمود أحمد الحفني بـضـرورة االلتحاق باملعهد العالي للموسيقى املسرحية، فـزامـل على كـــبـــر ســـنـــه كـــــا مـــــن عـــبـــد الـــحـــل­ـــيـــم حـــافـــظ، وإسماعيل شبانة، وكمال الطويل، وفـؤاد حلمي، وسيد إسماعيل، قبل أن يتخرج من املعهد عام ،1953 وكان يعمل حينها مديرًا ملكتب وزير التموين، وظل لفترة طويلة من حياته محافظًا على الوظيفة الحكومية، مستغنيًا بـهـا عــن أي تــنــازل فـنـي تفرضه ضغوط الحياة. ومع تلحينه لكبار املطربني، لم يتوقف عبد الحق عن تلحني األوبريتات اإلذاعية، مثل «صــفــحــا­ت املـــجـــ­د»، و«األســــتـ­ـــاذ رمـــضـــا­ن»، و«املـــســـ­امـــح كـــريـــم». كــمــا وضــــع املـوسـيـق­ـى الـتـصـويـ­ريـة أو املــقــدم­ــات الـغـنـائـ­يـة لكثير مــــن املـــســـ­لـــســـات الـــتـــل­ـــفـــزيـ­ــونـــيــ­ـة، واألفـــــ­ــام السينمائية. انحاز عبد الحق دائما إلى الطابع الشرقي لــلــمــو­ســيــقــى، واســـتـــ­عـــلـــن بـــرفـــض­ـــه أللـــحـــ­ان عــبــد الــــوهــ­ــاب املـــتـــ­أخـــرة، كــمــا رفــــض فـكـرة «االقـتـبـا­س» بالكلية، ســـواء عـن املوسيقى الــغــربـ­ـيــة، أم عــن مـلـحـن شــرقــي آخــــر، ورأى أنها سرقة، وأبدى أسفه لدفاع عبد الوهاب عـن هــذا الـتـصـرف، كما اتهمه بـأخـذ جملة مــن أغنية لحنها للمطربة حــوريــة حسن، تـــقـــول: «والـــلـــ­ه عـلـيـا ديــــن، ونــــدر شمعتني، شمعة ألم هاشم، وشمعة للحسني، ونقلها إلى أغنيته «أنا والعذاب وهواك»، وتحديدًا في مقطع: «أهــل الهوى مساكني، صابرين ومـــــش صــــابـــ­ـريــــن، وبـــيـــح­ـــســـدوا الـــخـــا­لـــي». واعتبر أن «تطوير» عبد الوهاب كان خارج روح املوسيقى الـشـرقـيـ­ة، وأنـــه جبل يهدم نفسه. لخص عاقته بعبد الـوهـاب قائا: «أحبه شخصيًا، وأعاديه فنيًا».

 ?? (فيسبوك) ?? لحن طقطوقة «سحب رمشه» لمحمد قنديل
(فيسبوك) لحن طقطوقة «سحب رمشه» لمحمد قنديل

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar