Al Araby Al Jadeed

أسئلة اإلنسان واندهاشاته

- عبد الحكيم حيدر

هـل كـل مـا كتب ومــا ســوف يكتب ال يخرج عـن ذلــك الحيز التأملي والحيرة في الكون ابتغاء الخروج بأي تصور عن الحياة في شكل لوحة، أو نغمة موسيقية، أو قصة، أو قصيدة، أو خرافية، أو روايـــة، أو عمل مسرحي، أو فيلم سينمائي، أو بحث علمي. كلها تعبر عن ذلـك السؤال الــذي ال يشفي غليال، بحثًا عن فرح إيجاد املعنى أو تالمسه أو غرور اإلمساك به في ذلك الكون الذي ما زال يحيرنا باندهاشاته وفتوحاته أيضًا بعد تعب األسئلة. وتأتي أسئلة أخـرى أكثر حيرة من األولى حول الحروب وغايتها وتبريرات الزعماء واألحزاب، وصناعات الحروب بأسلحتها الفتاكة، سواء كانت من أجل تعزيز سلطة اقتربت من الزوال أو من أجل حب إمبراطوري مستحيل أو سبي أو فاقة أو كبحث عن زعامة متوهمة تسويقا لإلمبراطور­ية أو العائلة يقف الكهنة وراء صناعة أسبابها ومبرراتها ودفع الجموع دفعًا وراء تلك األوهـام املصنوعة بحرفية، وقد تدخل القداسة على خط الحروب وفي القلب من الصفوف، كي يكون الدم طاهرًا، وتستمر الصناعة قرونًا فخورة بالقتل من الطرفني. دائمًا هناك في الكون وخلف األفـق لإلنسان غمامة، غمامة تحرك خطاياه وأطماعه، غمامة تخايله، كي يجعل من الدم مسوغًا ألختام ملكه املتوهم، غمامة مثل تلك أراها اآلن تتشكل على مهل، ثم تذوب أو ترحل، غمامة مثل حرب ما بني بلدين، أو مثل تلك املرأة التي هجرت بال سبب، غمامة مثل ذلك الجبل الذي تظن أنه يرحل في الليل بهمومه عنا ومنا رغم أنك تراه ثابتا، غمامة تمشي من بعيد في الصحراء، مثل ذلك الجمل البعيد الذي يمشي هناك تائهًا بعد ما كره صاحبه وشرد، بعد ما احتمل كثيرًا من أذاه وصبر. إلـى متى يصبر اإلنـسـان ويتأمل حاله مندهشًا، حتى وهـو يبحث عن رزقــه، أو سهره، أو نجمة أو هالل، أو عيد، أو محصول، أو محبة ال تطاوع قلبه أبدًا. هذا اإلنسان الذي يعرف جيدًا أنه عابر مثل أي غمامة سوف ترحل، ألن الحركة مكتوبة عليها، مثل تلك الشمس هي األخـــرى، والتي ترحل دائـمـًا، والقمر كذلك الــذي يكتمل ويختفي، شمس هناك ينتظرها غيرنا بعد ما رحلت عنا، شمس يحتاجها املرضى هناك، وتنتظرها العصافير وهـي في بــرودة أعشاشها ليال، شمس لغيرنا ولن تكون معنا ومن أجلنا طوال النهار وحدنا، شمس تسعد غيرنا كما أسعدتنا، كي تنبت ورود غيرنا وأزهارهم، وتدخل عنابر مستشفيات غيرنا وسجون غيرنا وتحت أجنحة حمام غير حمامنا، شمس مثل التي كانت، هنا، معنا وودعتنا من دقيقة. شمس كانت هنا تطبطب على أحزان نهارنا، وراحت اآلن إلى أحـزان غيرنا ببساطة، كما أن هذا البحر كله ليس لنا وحدنا، فهناك آخرون وراءه غيرنا، حمر وصفر وسـود وبيض، ولهم أيضًا انتظاراتهم واندهاشاته­م أمام قمرهم وشمسهم، ولهم مرضاهم وغرفهم وصلواتهم ووداعاتهم ودموعهم وأحزانهم أيضًا، لهم الحق في تلك الشمس وفي النجوم وفي القمر واألزهار مثلنا، فما هذا الغرور الذي نبت لألسف، رغم كل الفلسفات، تحت جلودنا؟ شمس ذاهبة إلى أحـواض نعناع غيرنا وإلى أشجار زيتون وليمون غيرنا، وإلى أعناب غيرنا، وإلى صوامع أقماح غيرنا، وإلى بساتني غيرنا، وإلى ثعابني غيرنا. شمس لذلك العائد من غربة بال سبب، غربة عمل، أو غربة سجن، أو غربة اعتقال، أو غربة جــرح، أو غربة بحٍث عن رزٍق تعثر، أو رزق انعدم، أو غربة ضياع وطن كامل، أو ضياع أوالد وضياع بيت. هذه الشمس للجميع كما الدم، كما امليالد، كما البصر للعني، كما امللح للبحر، كما السكر في العنب، شمس هناك تدخل في روح الكون ونسيجه، حتى في عود الغاب الذي يلمسه ذلك الفالح أمام حقله وينفخ فيه، فيكون نغمًا وأغنية يغنيها حسن أو حسني أو نعناعة، وتصير سامرًا للناس بجوار األحجار والبوص والقصب والحوائط القديمة. الشمس لغيرنا والطني أيضا لغيرنا والعصافير كذلك، وكذلك األسباب. ننحت كلنا من قديم الزمان في ذلك الكون، ونحاول أن نجعله جميال ملن سوف يأتي بعدنا، كما يقال، نبحث دائما كمساكني عن املعنى، واملعنى دائما يراوغ، علنا نحن الذين نراوغ املعنى، كي نطمسه، أو نغرقه في البحر، أو نقتله مع القتلى. وفي الصباح، نشيد دور العبادة على أشيك ما تكون ونعلق بها الثريات، كي تكون شاهدة على نسيان الدم، وعلى حسن النظافة واللياقة واألدب. ثعالب في العنب تتوهم صالح األعمال بجوار أكتاف الكهنة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar