الشرق األوسط: معارك الردود اآلمنة
ال أحـــبـــذ فـــي الــــعــــادة اســـتـــخـــدام مصطلح «الــــشــــرق األوســـــــط» االســـتـــشـــراقـــي غـامـض الــداللــة، وأفـضـل اسـتـخـدام املـشـرق العربي أو العالم العربي. ولكن ال مفر، في بعض األحــــــيــــــان، مــــن اســــتــــخــــدام هــــــذا املــصــطــلــح حينما نتطرق إلى أطراف غير عربية، كما في حالة الحديث عن التجاذبات اإليرانية اإلسرائيلية. تابع املاليني في املنطقة، ليلة السبت املاضي، األخبار عن هجوم إيراني بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار، التي توجهت لضرب أهداف مختارة داخل الكيان الصهيوني. كان الجميع يأمل في أن تسدد إيــران ضربة ناجحة في عمق كيان االحـتـالل. ولكل طـرف أسبابه التي تدفعه إلى هذا األمل، فمناصرو إيران وأصدقاؤها كانوا يـرون أن تحركا كهذا سيجعل البلد يستعيد هيبته، خصوصا بعد أن أصبح مــــحــــل تــــنــــدر بـــعـــد مـــــــرور أســـبـــوعـــني عـلـى استهداف مبانيه الدبلوماسية في دمشق وقتل قادة عسكريني منه، دون أن ينتج ذلك أي رد فعل. في املقابل، كان خصوم إيران، ومن يرونها تــهــديــدًا إقـلـيـمـيـا، يــأمــلــون فـــي أن تحصل هــذه الـضـربـة، الـتـي كــان يمكن أن تدخلها في مواجهة دولية مباشرة، إلشغالها في صــراع معقد قــادر على عرقلة محاوالتها التمدد والسيطرة على املنطقة. وكـان هناك متحمسون كثيرون، متأثرون بــالــعــدوان وبــالــجــرائــم اإلســرائــيــلــيــة، التي تمر من دون عقاب في قطاع غزة ومستمرة تحت نظر العالم. وكان أولئك يرون أن مثل هذه الضربة، وبغض النظر عمن وراءهـا، يـمـكـن أن تـحـقـق نــوعــا مــن الـــثـــأر، الــــذي قد يمثل ردًا متواضعا على مقتل عشرات آالف من املدنيني وتهديد حياة أكثر من مليون شخص بالجوع أو بفقدان العالج. لم يكن األمـر كما توقع الجميع، فالعملية جــــرى تــنــســيــق مــســبــق لــهــا مـــع مـجـمـوعـة مــن األطـــــراف، مــا أفـقـدهـا عنصر املـفـاجـأة، وجــعــلــهــا تــتــم بـــال خــســائــر تــقــريــبــا. إيــــران حــاولــت بـهـذا الـتـحـرك املــــدروس حـفـظ مـاء وجهها وإسكات من يقولون إنها تخشى املـــواجـــهـــة. كــــان الـــتـــحـــرك املــــــدروس يتمثل فـــي «رد آمــــن» ال يـثـيـر غـضـبـا واســـعـــا وال يـجـر الــدولــة، الـتـي ال تنقصها التعقيدات االقـتـصـاديـة وال السياسية، ملـواجـهـة هي ليست على استعداد لها. ردود الـفـعـل عـلـى الـعـمـلـيـة انـقـسـمـت وفـق مــنــطــلــقــات املـــتـــابـــعـــني، فـــكـــان اإلحــــبــــاط من نصيب مــن كــانــوا يـتـمـنـون مـواجـهـة أكثر جدية. كان أولئك يظنون أن خيارات طهران تنحصر فـي خـيـاري الـــرد وعــدمــه، وكـانـوا يــرون، وفقا لذلك، أنــه، وبسبب حـرج كبير أنتجه هجوم دمشق، ال مفر من رد إيراني. ما فـات هــؤالء أن إيــران ابتكرت، منذ وقت طويل، طريقا ثالثا، وهـو ما سميناه الرد بأمان. هجمات السبت، التي كانت دعائية بشكل كاف إلحداث جلبة واسعة وحالة من التأهب األمني اإلقليمي، أوضح مثال لذلك الرد اآلمن. مثل هذا التحرك آمن، ألن أقصى مـا يمكن أن ينتجه إدانـــات غربية ودعــوة إلى مزيد من العقوبات االقتصادية. عـــلـــى الــــرغــــم مــــن ظـــهـــور حـــجـــم «الـــهـــجـــوم» الــــحــــقــــيــــقــــي وإعــــــــــــالن إيــــــــــــران عــــبــــر وزيــــــر خـارجـيـتـهـا حـسـني أمــيــر عـبـد الـلـهـيـان أن عملية الرد انتهت، إال أن صور رموز النظام اإليـــرانـــي ظـلـت مـحـل احـتـفـاء فــي صفحات التواصل االجتماعي عند من كان يرى في العملية التي حملت اسم «الوعد الصادق» ردًا حاسما وقـويـا وخـطـوة شجاعة. كتب كـثـيـرون مــن هـــؤالء عــن العملية بتمجيد. وعـــلـــى طـــريـــقـــة اإلعــــــــالم الــــدعــــائــــي، مـضـى بــعــضــهــم إلــــى نــشــر صــــور مــلــفــقــة وأخــــرى مــنــتــزعــة مـــن ســـيـــاقـــات أخـــــرى ملـــا ســمــوهــا حرائق ودمارًا أصاب الداخل اإلسرائيلي. وجهة النظر الثالثة، التي شملت كثيرين متأثرين بـاملـأسـاة الفلسطينية، كـانـت أن هــذا الـتـحـرك، وإن احـتـوى بعض الدعاية، إيجابي في ظل الصمت العربي والتواطؤ الــعــاملــي الــعــاجــز عــن ردع االحـــتـــالل أو عن معاقبته على جرائمه بأي شكل. ال تــقــتــصــر مـــســـألـــة الــــــــــردود اآلمــــنــــة عـلـى طـــهـــران، فـتـل أبــيــب نفسها تـسـتـخـدم هـذه االستراتيجية منذ عقود، وإذا كانت األولى تنفي مسؤوليتها عن العمليات التي تقوم بها املجموعات العسكرية املوالية لها، فإن
ال أحد من الفاعلين يرغب في تعميق فوضى المنطقة
الثانية ترفض االعتراف بأي عمل عسكري مــوجــه إلـــى إيــــران. تنتقل الــكــرة الــيــوم إلـى امللعب اإلسرائيلي، ليصبح تساؤل الساعة عن كيفية الــرد على الــرد اإليـرانـي. ويظهر الــبــحــث عـــن الـــــــردود اآلمـــنـــة فـــي الـتـنـسـيـق والـــــــتـــــــشـــــــاورات، خــــصــــوصــــا مـــــع الـــجـــانـــب األميركي، فاملطلوب هندسة رد موجع، ال يؤدي، في الوقت ذاته، إلى غضب جارف ال يمكن التحكم به. ال يمكننا بهذا أن نتوقع ضربة إسرائيلية في قلب املنشآت النووية. وزيـــر خـارجـيـة الــكــيــان، الـــذي كــانــت بــالده مـحـاصـرة أخـالقـيـا وشـبـه مــعــزولــة، حــاول مـــن خـــالل بــرقــيــات أرســلــهــا إلـــى عـــدة دول يتعامل معها تحقيق مـا سـمـاه «هجوما دبلوماسيا»، باستغالل العملية اإليرانية وتوجيه األنظار عما يحدث في فلسطني، في محاولة إللباس الجاني املتهم باإلبادة الجماعية ثوب الضحية. مــن الـطـريـف التفكير فــي كيفية انتقالنا، خالل أيام معدودة، من التساؤل حول مكان الرد اإليراني وزمانه إلى بحث طريقة الرد اإلسرائيلي. الدول، التي كانت تحاول ثني إيـران عن التهور أو عن القيام بأي هجوم ال تحمد عقباه انتقلت اليوم لتطلب الطلب ذاتــــــه مــــن الـــغـــريـــم اإلســـرائـــيـــلـــي. الــــواليــــات املـتـحـدة وبـريـطـانـيـا، الـتـي نـجـح ضغطها عــلــى إيــــــران فـــي خـــــروج الـــــرد بـــهـــذا الـشـكـل الباهت اآلمــن، تأمل في أن تنجح في فعل مـثـلـه، وأن تـكـبـح الــرغــبــة اإلسـرائـيـلـيـة في االنتقام. ... واملؤكد أن ال أحد من الفاعلني يرغب في تعميق فوضى املنطقة.