الرُّد االنتقامُّي اإليراني ضد إسرائيل بين الِجد والهزل
مـــســـاء الـــســـبـــت، الـــثـــالـــث عــشــر مـــن شهر إبــــريــــل/ نــيــســان الــــجــــاري، شـــنـــت إيــــران هـجـومـا كـبـيـرًا عـلـى إســرائــيــل بـأكـثـر من 300 طـائـرة مسيرة وصـــاروخ باليستي وكــــروز، انـتـقـامـا لقصف قنصليتها في دمـــشـــق، مـطـلـع الــشــهــر الــــجــــاري، والــــذي ســـقـــط فـــيـــه ســبــعــة مــــن ضــــبــــاط الـــحـــرس الثوري اإليراني، أحدهم ذو رتبة عالية. كــان هــذا الهجوم كـسـرًا لقاعدة «الصبر االســـتـــراتـــيـــجـــي» وتـــهـــديـــدات «الـــــــرد في الـزمـان واملـكـان املناسبني» والـتـي كثيرًا مـا أطلقتها طـهـران بعد كـل هجوم على مـصـالـحـهـا، ســــواء فــي ســوريــة أم داخــل إيـــــــــران نـــفـــســـهـــا. صـــحـــيـــح أن تـــــل أبـــيـــب كـــانـــت دائـــمـــا تــلــتــزم الــصــمــت وال تعلن مسؤوليتها عـن تلك الهجمات، غير أن الــجــمــيــع كــــان يـعـلـم أنـــهـــا تــقــف وراءهـــــا. إال أن الهجوم على القنصلية اإليرانية، والـــتـــي تــعــد مــنــشــأة ســيــاديــة، كـــان مـسـا خطيرًا بـقـواعـد االشـتـبـاك بـني الطرفني، وتغييرًا فـي ديناميكيات «حــرب الظل» بينهما، وهـو ما فـرض على إيــران نوعا مختلفا مـن الـــرد مـن بــاب حفظ هيبتها وتثبيت معادالت الردع املتبادل. الالفت هـــنـــا أن كـــثـــيـــريـــن مـــــن مـــبـــغـــضـــي إيــــــران واملــشــكــكــني فــي مـواقـفـهـا رأوا فــي حجم
هجومها وطبيعته وكيفيته دليال على أنــــه ال يــعــدو أن يــكــون مــســرحــيــة سيئة اإلخــــراج، خصوصا مــع إعـــالن إسرائيل وحــلــفــائــهــا األمــيــركــيــني والــبــريــطــانــيــني والفرنسيني عن تصديهم بنجاح لـ99% مــن الــصــواريــخ واملـــســـيـــرات وإسـقـاطـهـا. فهل كان األمر فعال مسرحية سمجة، أم أن ثمة أبعادًا أخرى للمشهد؟ بـــدون مــقــدمــات، لــم يـكـن األمـــر مسرحية هــزلــيــة وال تـمـثـيـلـيـة مـتـفـقـا عـلـيـهـا بني إيــــــران وإســـرائـــيـــل والـــــواليـــــات املــتــحــدة، مـن دون أن يعني ذلــك أنــه لـم يكن هناك نــوع مــن التفاهمات الضمنية، تحديدًا بــني طــهــران وواشـنـطـن بـشـأن مــدى الــرد وحدوده. أيضا، ال ينفي أن كون األمر لم يكن مسرحية حـرص إيــران على ضمان تقليل حجم الخسائر اإلسرائيلية التي قد تنجم عن الهجوم. وليس هـذا القول مـــن بــــاب الـتـحـلـيــل فــحــســب، بـــل ثـــمـــة ما يـــعـــضـــده بــاملــعــلــومــات. تــفــيــد املـعـطـيـات االســـتـــخـــبـــاراتـــيـــة األمـــيـــركـــيـــة بــــأن إيــــران فــتــحــت قـــنـــوات خــلــفــيــة مـــع دول غـربـيـة تـهـيـئـة لـهـجـومـهـا. يــؤكــد ذلـــك مـــا صـــرح بـــه مــصــدر دبــلــومــاســي تــركــي إن بـــالده تــولــت مـهـمـة نـقـل رســائــل بــني واشـنـطـن وطـــــهـــــران عــــن «حـــــــــدود» الـــهـــجـــوم الــــذي ال يـنـبـغـي إليـــــران أن تـــتـــجـــاوزه. بـــل قــال وزيــــر الــخــارجــيــة اإليـــرانـــي حــســني أمـيـر عــبــد الـلـهـيـان بـــوضـــوح إنـــه أعــطــى دوال مــجــاورة حليفة لـواشـنـطـن إشــعــارًا قبل 72 سـاعـة مــن الـهـجـوم، وهــو األمـــر الــذي تمت مشاركته مع الواليات املتحدة عبر السعودية واإلمارات. تلك املعلومات هي الـتـي مكنت «الـقـيـادة املـركـزيـة للواليات املـــــتـــــحـــــدة»، ومـــنـــطـــقـــة الـــــشـــــرق األوســــــط ضمن نـطـاق عملها، مـن تنسيق جهود التصدي للهجوم اإليراني مع الحليفني الـبـريـطـانـي والــفــرنــســي، بــاإلضــافــة إلـى إسرائيل واألردن والسعودية واإلمارات، وربما دول إقليمية أخرى. أبـــعـــد مــــن ذلــــــك، تــعــتــقــد االســـتـــخـــبـــارات األميركية أن العملية العسكرية اإليرانية كانت مصممة للفشل. إذ لو كانت طهران تــبــحــث عـــن عــنــصــر املـــفـــاجـــأة واملــبــاغــتــة لـــقـــامـــت بـــهـــجـــومـــهـــا مـــــن مـــســـافـــة أقـــــرب بــكــثــيــر، وتـــحـــديـــدًا مـــن لــبــنــان وســـوريـــة. لـكـنـهـا اخـــتـــارت أن تـشـنـه مـــن أراضــيــهــا على بعد ألـف ميل تقريبا، وهـو بمثابة إنـــذار مبكر، يصل إلــى ســاعــات، إلعطاء إســرائــيــل وحـلـفـائـهـا فـرصـة لالستعداد وتجهيز دفاعاتهم. قد تكون الحسابات اإليرانية أن هجوما كبيرًا يلحق خسائر فادحة في الجانب اإلسرائيلي قد يقود إلـى حـرب إقليمية مفتوحة تنجر إليها الــواليــات املـتـحـدة. وطـهـران تــدرك تماما اخــــتــــالل مــــيــــزان الــــقــــوى ضــــدهــــا، إذا مـا
أخـــذنـــا الــعــامــل األمـــيـــركـــي، ومــــن ثــــم هي تــســعــى إلــــى تــجــنــب مــثــل هــــذا الـــصـــراع. ولكن ذلـك ال يعني أن العملية اإليرانية تـــخـــلـــو مــــن رســــائــــل رمـــــزيـــــة، إذ إن هـــذا أول هــجــوم عــســكــري تــشــنــه إيـــــران على إسرائيل انطالقًا من أراضيها منذ أكثر من 45 عامًا إلعادة االعتبار لنفسها قوة
إقليمية. وباملناسبة، ليست هذه أول مرة تلجأ فيها إيران إلى مثل هذه الوسيلة، إذ سبق أن أعطت الـقـوات األميركية في العراق تحذيرًا مسبقًا قبل عشر ساعات مـــن إطــالقــهــا صـــواريـــخ بـالـيـسـتـيـة على قــواعــدهــا هــنــاك انـتـقـامـًا الغــتــيــال إدارة الـــرئـــيـــس الـــســـابـــق دونــــالــــد تـــرامـــب قـائـد فيلق الـقـدس، الجنرال قاسم سليماني، مطلع عام .2020 كان اإليرانيون حينها، كما اآلن، مهتمن بتجنب حرب إقليمية غـيـر متكافئة قـــدر اإلمـــكـــان. لــم تـغـب كل هــذه األمـــور عـن الــواليــات املتحدة، وهي تنصح إســرائــيــل بتجنب الـــــرد، أو على األقل القيام برد محدود، ال يضطر إيران إلى رد انتقامي أكبر، ربما عبر وكالئها هــــذه املــــــرة فـــي لــبــنــان وســــوريــــة، بـشـكـل يـــحـــرم إســـرائـــيـــل مــــن مـــيـــزة االســـتـــعـــداد الدفاعي أمامه. نـعـود إلــى االتــهــام الـــذي يطلقه بعضهم بـــحـــق إيـــــــران بـــــأن مــــا جـــــرى كـــــان مـــجـــرد مــــســــرحــــيــــة مــــحــــبــــوكــــة مــــــع األمــــيــــركــــيــــن واإلســرائــيــلــيــن. كــثــيــرون مـمـن يـؤمـنـون بـــذلـــك هـــم مــمــن لــديــهــم مـــواقـــف مبغضة ورافضة لسياسات إيران في املنطقة. وال شك ّأن تصّرفات كثيرة إليــران وأفعالها بـــحـــقـــنـــا، نـــحـــن الـــــعـــــرب، ســيــئــة ومــــدانــــة، وال يـمـكـن الــقــبــول بـهـا وتــبــريــرهــا. لـكـن، ثـــمـــة فـــــارق بـــن الــحــكــم بـــنـــاء عــلــى الـحـب
والـكـراهـيـة، ومــا بــن الحكم املـوضـوعـي. كما أن ثمة فارقًا بن حسابات مضبوطة، دقـــيـــقـــة وحـــســـاســـة، حـــتـــى ولـــــو اخـتـلـفـنـا معها، وبن تواطؤ وعمالة وشراكة ما بن إيران وإسرائيل وأميركا. لم يكن الهجوم اإليـرانـي انتصارًا لغزة وال دفـاعـًا عنها، إنـــمـــا كــــان ضــمــن الــحــســابــات واملــصــالــح والـقـدرات اإليرانية فحسب. أثبتت إيران دائمًا أنها دولة متمركزة حول مصالحها القومية. كما أن التجارب السابقة تؤكد أن قـدراتـهـا العسكرية، مهما بالغت في تضخيمها، تبقى محدودة. رأينا ذلك عام 2014 عندما اجتاح تنظيم داعش شمال الـــعـــراق، وعــجــزهــا عـــن الــتــصــدي لـــه لـوال الدعم الجوي األميركي. تكرر األمر نفسه فــي ســوريــة، عــام ،2015 عندما ّّ اضـطـرت إلى القبول بالدعم الروسي. أيضًا، بغض النظر عن طبيعة الرد االنتقامي اإليراني على الهجوم اإلسرائيلي على قنصليتها، أو أي رد آخر قـادم قد يكون أكبر ويوقع خسائر في الجانب اإلسرائيلي، فإن هذا ال ولــن يعفي إيـــران مـن جرائمها بحقنا فـي الـعـراق وسـوريـة واليمن. تلك الدماء ال تــقــل قــداســة عــن الـــدمـــاء الفلسطينية. حـــديـــثـــنـــا هـــنـــا مـــحـــصـــور فـــــي الــتــحــلــيــل املوضوعي ما استطعنا، وليس تأييدًا أو تبريرًا أو دفاعًا.
ثمة فارق بين حسابات مضبوطة، دقيقة وحساسة، حتى ولو اختلفنا معها، وبين تواطؤ وعمالة وشراكة ما بين إيران وإسرائيل وأميركا