Al Araby Al Jadeed

عن الولد الفلسطيني

- عاطف أبو سيف

مــرت األسـبـوع املاضي ذكــرى رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير أحـمـد دحـبـور (رام الله ،)2017 الـــذي ولــد فـي حيفا ،)1946( وعـاش حلمًا جميال وهــو يكتب لها وعـنـهـا. وكما يــقــول أحــمــد (أبــــو يـــســـار): «كــــل لـــه حــيــفــا­ه». «الولد الفلسطيني»، كما يشار إلى أحمد، في أحيان كثيرة، ظل طوال حياته يحلم بالبالد التي ضاعت منه وضيع منها بمرارة توازي الــحــيــ­اة الـصـعـبـة الــتــي عــاشــهــ­ا فـــي املـنـافـي الجــــئــ­ــًا، ومـــــن ثـــــم شــــاعـــ­ـرًا يـــغـــنـ­ــي لـفـلـسـطـ­ن وملقاتليها، وللعشق الـسـرمـدي الــذي يربط البالد بأهلها مثل عرق اللوز األخضر الذي كـتـب لــه دحـــبـــو­ر. مــن ال يحفظ أغـانـيـه التي رددتها الحناجر عشرات السنن خلف فرقة الــعــاشـ­ـقــن، خـــاصـــة أغــنــيــ­ة «اشـــهـــد يـــا عـالـم علينا وع بيروت»؟ كـــــان أحـــمـــد أحـــــد أبــــــرز املـــعـــ­بـــريـــن عــــن األلــــم الــفــلــ­ســطــيــن­ــي، األلــــــ­م املــــتــ­ــوغــــل مـــثـــل وحـــش فـــي مــســامــ­ات الــجــســ­د، لــكــنــه رغــــم جـبـروتـه يعجز عـن قتل الـــروح الفلسطينية. كما أن أحــمــد مـــن «جــيــل الــذبــيـ­ـحــة» ،)1999( الـــذي شهد ضياع فلسطن، ولــم يكن قـــادرًا على فعل شـــيء. الـطـفـل، الـــذي بـالـكـاد بــدأ يتعلم النطق واملـشـي، خــرج مـن جنة الله (حيفا) مــحــمــو­ال بـــن يـــدي والـــدتــ­ـه لــيــكــم­ــل مسيرة املشي والنطق، وتعلم اللغة خــارج الجنة. وكــانــت تـلـك الـجـنـة دومـــًا أبــعــد مــا يشتهى وآخر ما يستعصي على الوصف، كحكايات والدته عن كل شيء موعود، وعن توفره في املـديـنـة، فيتحقق كــل مـا يطلبه الطفل فور أن تعود العائلة إلـى هناك؛ إلـى حيفا. كان أحـمـد يــبــَرع لـيـس فــي الـكـتـابـ­ة عــن أمنياته وعـن وعـود أمـه فقط، بل في سـرد ذلـك على مستمعيه بـوصـفـه حـقـيـقـة، وتحقيقه أمـر ممكن أيضًا، عليك أن تصدقه كما يصدقه هــو. وهـــو، بــذلــك، فلسطيني بـامـتـيـا­ز، ففي أنـــدلـــ­ســـه املـــفـــ­قـــود تــتــحــق­ــق األحــــــ­الم وتـنـمـو األماني وتزهر الذكريات وتصبح حاضرًا، فـيـهـا فـــقـــط، يــنــدمــ­ج املـــاضــ­ـي مـــع املستقبل ويصبحان معًا حاضرًا واقعًا ال محالة. وكــــمـــ­ـا فـــــي قـــصـــيـ­ــدة ألــــقـــ­ـاهــــا أحـــــمــ­ـــد، عــنــد تكريمه من كلية اآلداب في جامعة األزهـر فـي ديسمبر/ كـانـون األول ،2007 بعنوان «ولـــد تنقصه بـلـد»: «خـذيـه إلــى مستقر له في الجوار، خذيه فقد دار في األرض حتى الدوار». أو كما قال قبل ذلك عن تلك الخيبة: «لو كان ما كان لي، ألمرت دربي أن تطول، وربما أغريت عمري أن يطول، وربما خفت الوصول». إنها األسئلة التي سخر أحمد كل مشروعه الشعري من أجل محاولة اإلجابة عنها. ففي الــعــقــ­ود الـخـمـسـة الــتــي ازدهــــر فـيـهـا الشعر في حديقة أحمد، كان سـؤال الوطن وسؤال الـــعـــو­دة وقــلــق الـحـكـايـ­ات املــتــوا­رثــة مــن األم واألب تــــتــــ­وارد فـــي مـــن قـــصـــائ­ـــده تــعــويــ­ذة تحافظ على الذاكرة من التآكل، ومن التراجع

في سراديب النسيان. حتى بعد العودة إلى فلسطن واالستقرار في غزة، شعر أحمد أن مـا حصل لـم يكن عــودة إلـى الـبـالد باملعنى الحقيقي، وال باملعنى املـجـازي، بل وصـوال ربــمــا، رغــم أنـــه زار حيفا وألـقـى فيها شعرًا ووقـــــف مـــطـــوا­ل أمـــــام الــطــريـ­ـق املـــفـــ­ضـــي إلــى بيته فـي وادي النسناس، حيث كــان الفرن عــلــى أول الـــطـــر­يـــق، وظـــلـــت الــشــجــ­رة أمــامــه حتى رآهـا أحمد كما يتذكرها من حكايات والدته (لم تعد موجودة)، ولكن هذه لم تكن عودة كما يمكن لكلمة العودة إلى الوطن أن تحمل مـن دالالت وقـيـم ومــا تـرمـي إلـيـه من إحـــاالت معنوية ووطنية ووجــوديــ­ة. وعبر أحمد عن ذلك في مجموعة قصائد تلخص قلق التكوين الوطني بعد «أوسلو» ،)1993( مجسدة حالة الاليقن وحالة عدم االستقرار الــعــاطـ­ـفــي فـــي عــالقــة الـفـلـسـط­ـيـنـي بـالـكـيـا­ن الـــولـــ­يـــد، أي الــســلــ­طــة الـــوطـــ­نـــيـــة، مـــتـــجـ­ــاوزًا ذلـــك إلـــى أسـئـلـة أكـثـر شـمـولـيـة حـــول املـكـان والذاكرة والحلم واملنفى، والرجوع والدرب والـــضـــ­يـــاع. وأحـــمـــ­د أو الـــولـــ­د الـفـلـسـط­ـيـنـي الــــــذي أنـــشـــد لــلــشــع­ــب ولــلــقــ­ضــيــة ولـــلـــث­ـــورة قصائد بالعامية غنتها «العاشقن» وكتب دررًا شعرية تـمـسـك بحقيقة الـوجـع واأللــم

ِّ الفلسطينين، ظل وفيًا لكل ما عرف وخبر أو سمع أو تمنى، منذ صار ينتظر الحنطور الـــذي ال يـحـضـر إال وقـــت يشتهيه ليحضر له حيفا، كما في حكايات أمـه التي يثبتها أحمد في مقدمته ألعماله غير الكاملة (دار العودة، بيروت .)1983 حــكــايــ­ة أحـــمـــد دحـــبـــو­ر هـــي حــكــايــ­ة الــلــجــ­وء الفلسطيني بـكـل مــا حمله هـــذا الـلـجـوء من لـحـظـات حـــزن وتـــشـــر­د وبــــؤس وفـــقـــر، وبـكـل ما يمكن أن يشير إليه املخيم من وجع وألم، كذلك لحظات إثبات الــذات والتميز الفردي (الولد الذي صار شاعرًا) أو نهوض الفينيق الفلسطيني، والــثــور­ة ومـعـاركـه­ـا، ثــم زيــارة الوطن (حيفا) وعدم العودة إليه، وقلق املثقف بن انحياز لخياره السياسي وإدراكـه عجز الـنـتـائـ­ج عــن الــوصــول إلـــى الــحــد األدنــــى من الطموح. انحاز أحمد بشكل كامل لكل شيء مرتبط بحكايته، حكاية الفلسطيني الباحث عـــن أرضـــــه، ولــــم يـقـبـل أن يــنــحــا­ز ألي شـــيء خارجها، ونــذر شعره لـروايـة تلك الحكاية، وربما عناوين دواوين أحمد، في حد ذاتها، تخبر كثيرًا عن ارتـبـاط ما يقوله بحكايات الطفولة: «الــضــوار­ي وعـيـون األطــفــا­ل» (أول ديـــــــو­ان ألحـــمـــ­د دحــــبـــ­ـور، ،)1964 و«حـــكـــاي­ـــة الولد الفلسطيني» (ديـوانـه الثاني، .)1971 ثمة فتنة ونذور ونزوع لرواية هذه الحكاية واسترجاع عالم الطفولة املفقود، سـواء في قصائده عن حيفا التي تبدو في حكايات أمه قطعة من الجنة أو في تهيؤات الفتى الحالم بالعودة إلى هناك أو من خالل قصص الولد في املخيم، التي تكشف بعمق شعري مذهل في «كسور عشرية» عن الحكاية الفلسطينية كما يمكن لشاب صغير عاش في املخيم في فترة ما بعد النكبة مباشرة أن يرويها. الــــتـــ­ـنــــاظــ­ــر الــــــوا­ضــــــح والــــجــ­ــلــــي بـــــن «هــــنــــ­اك وهــــنـــ­ـاك»، كــمــا يــقــتــر­ح أحــــد عـــنـــاو­يـــن أحـمـد دحـــــبــ­ـــور الـــشـــع­ـــريـــة ،)1997( بـــــن املـــاضــ­ـي والـــــحـ­ــــاضــــ­ـر، عــــالمــ­ــة بـــــــــ­ـارزة فـــــي الــــســـ­ـرديــــة والحكاية الفلسطينية. وجوهر هذه الحكاية هــو بحثها عــن تحقيق الــغــد والـــعـــ­ودة إلـى األمــــس. أي صـــراع هـــذا، فالفلسطيني يريد للماضي أن يعود ألن فـي املـاضـي ثمة يافا وحيفا، وثمة ريـف مترع بالهدوء ومخمور باليقن. تتذكرون كيف يكون حديث أمهاتنا عن املاضي مليئًا بالحنن؟ فاملاضي دائمًا جميل، أجمل مما نعيش. وربما كلمة «سقا الــلــه أيـــام زمــــان» تعيد تــرديــد تـحـسـر لسان الدين بن الخطيب: «جـادك الغيث إذا الغيث همى/ يا زمان الوصل باألندلس». املــــاضـ­ـــي هــــو الـــشـــا­هـــد األصــــــ­ـدق عـــلـــى أصـــل الـحـكـايـ­ة. وفـــي الـحـالـة الفلسطينية تصبح عـــــودة املـــاضــ­ـي هـــي تـحـقـيـق الـــغـــد املـــرغــ­ـوب. فــاألمــس والــغــد لـصـيـقـان فــي هـــذه الحكاية التصاقًا ال انفصام فـيـه، فـي مفارقة غريبة تجمع بن النقيضن. هل اختلف األمر كثيرًا الــيــوم؟ مـن ناحية الجوهر لـم يختلف، رغم أن واقع الشعر الفلسطيني املعاصر بحاجة إلى قراءة عميقة ودراسات تكشف توجهاته ومـيـولـه، فأحمد مثل توفيق زيـــاد وسميح الـقـاسـم ومـحـمـود درويـــش ومـعـن بسيسو، عــاشــوا واقــعــًا خــاصــًا تـمـثـل بــوجــود لحظة الـفـقـد الــكــبــ­رى فــي وعــيــهــ­م، وخـــبـــر­وا انـهـيـار الحكاية، ومن ثم، إعادة تكوينها في حكايات األمهات واستعادات الجيران، للدرجة التي صــــارت فـيـهـا هـــذه الــحــكــ­ايــات تـــــورث بشكل متقن، وهو ما انعكس في طبيعة القصيدة

وشكلها ودورهـــا وتوجهها نحو استكمال املهمة املـقـدسـة، التي وجــد الشاعر أن عليه االنخراط في تنفيذها. أحمد مـن جيل الشعر الفلسطيني الجميل الــــــذي عــــــــر­ف فـــيـــه الـــشـــا­عـــر دوره وآمــــــن بـــه، وعـــــرف املــتــوق­ــع مـنـه وفــعــلــ­ه، فـكـانـت الكلمة صنوًا للرصاصة، وكـانـت القصيدة معركة تقاتل بشراسة. جيل لم يتملص ولم ينكفئ عـلـى نـفـسـه، ولـــم يبحث عــن دور آخـــر داخــل الـغـرفـة أو فــي تـفـاصـيـل الـبـيـت والـــشـــ­ارع أو في تأمل املقهى أو ازدحام الشارع، ومع ذلك لـــم يـغـفـل جــمــالــ­يــات نـــصـــه، ولـــم يــتــنــا­زل عن امتياز الشرط الفني، ولم يقع في الشعارات والـــصـــ­راخ والـــعـــ­ويـــل. انـــظـــر­وا ألحــمــد يــقــول: «وأنت يا توزعت عيناك في الكثبان والحفر، ْلن تكمل السفر بالطلل الحزين، هذا الحافر اللعن لن تكمل السفر». مرة أخرى هل يبدو األمر مختلفًا اآلن عند الجيل الجديد؟ أعــتــقــ­د أن الــنــقــ­اد بــحــاجــ­ة لــتــقــد­يــم إجـــابـــ­ات عـــن هـــذا الـــســـؤ­ال الـكـبـيـر بـعـد دراســـــة وافـيـة لتوجهات وموضوعات الشعر الفلسطيني. وأنـــــــ­ا أقـــــــو­ل هـــــــذا، أســــتـــ­ـذكــــر اهــــتـــ­ـمــــام أحــمــد بكتابات الشباب ومتابعته لكل ما يكتبون، شعرًا وروايـــة. كـان يختلف معهم في بعض األحيان ويتفق معهم في أحيان أخرى، وأذكر الــنــقــ­اشــات الـطـويـلـ­ة الــتــي دارت بـيـنـه وبـن رواد مجموعة الكروان الثقافية، التي اتخذت مــــن مــقــهــى الـــــكــ­ـــروان مـــكـــان­ـــًا الجــتــمـ­ـاعــاتــه­ــا، بشأن معالجته للرواية في غــزة، وبعد ذلك حــــوارات­ــــي الــطــويـ­ـلــة مـــعـــه، ســـــواء فـــي مكتبه فـي وزارة الثقافة فـي الــرمــال أو على مقهى ديليس. ومع ذلك، كتب أحمد عن كوكبة من الشعراء الشباب في زاويته األسبوعية «عيد األربعاء»، وسلط الضوء على التجربة. مـــرة أخـــرى وفــي ذكـــرى أحـمـد، وفــي النقاش بشأن أهمية جوهر الكتابة مـن دون إغفال الـشـكـل والــفــنـ­ـيــات، مـــن املــهــم إعـــــادة تسليط الــضــوء عـلـى الــكــتــ­ابــات الـشـعـريـ­ة الــجــديـ­ـدة، ومــــحـــ­ـاولــــة الـــتـــر­كـــيـــز عـــلـــى هــــــذا املــــوضـ­ـــوع، حتى ال يفقد الشعر خصوصيته، وال يفقد الفلسطيني موضوعه. وأظن، وهذا من باب اليقن، أن ثمة حاجة ماسة لذلك، ليس في ما يتعلق بالشعر فقط، بل عند الحديث عن الرواية الفلسطينية الجديدة أيضًا.

انحاز أحمد دحبور بشكل كامل لكل شيء َمرتبط بحكايته، حكاية الفلسطيني الباحث عن أرضه، ولم يقبل أن ينحاز ألي شيء خارجها

ظل وفيًا لكل ما عرف وخبر أو سمع أو تمنى، منذ صار ينتظر الحنطور الذي ال يحُضر إال وقت يشتهيه ليحضر له حيفا

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar