Al Araby Al Jadeed

تركيا وفلسطين وغزّة

- فيصل كورت

قــوبــلــ­ت االعـــتــ­ـداءات اإلسـرائـي­ـلـيـة الوحشية التي بدأت بعد 7« أكتوبر» بغرض محو غزة عن الخريطة وتهجير سكانها من أراضيهم بردات فعل رسمية وشعبية متفاوتة الشدة واملستوى. ورغـم أن من غير املمكن أو ليس ضروريًا سردها جميعها، فإن من املفيد ذكر بـعـض أبـــرزهــ­ـا. وأول مــا يـتـبـادر إلـــى الـذهـن جــنــوب أفـريـقـيـ­ا، الـبـلـد الـــذي أطــلــق العملية الرسمية في املحكمة الجنائية الدولية، وقطر وجزئيًا مـصـر، اللتان لعبتا دور الوساطة والتنسيق للتوصل إلى وقف إلطـالق النار، واملـــســ­ـؤولـــون الـكـويـتـ­يـون الـــذيـــ­ن طـلـبـوا من املمثلن اإلسرائيلي­ن مـغـادرة االجتماعات فـي مـنـصـات دولـيـة عــديــدة، وإسبانيا التي اتــخــذت مـوقـفـًا مـعـارضـًا إلســرائــ­يــل حكومة وشــعــبــًا، واملـــظــ­ـاهـــرات املــنــاه­ــضــة إلســرائــ­يــل فـي أيـرلـنـدا إلــى جـانـب ردات فعل الحكومة األيـــرلـ­ــنـــديــ­ـة، واالحـــتـ­ــجـــاجــ­ـات فـــي الـــواليـ­ــات املـتـحـدة، رغــم أنـهـا لـم تكن كافية ملنع إدارة جو بايدن من االستمرار في دعـم إسرائيل، واملـــظــ­ـاهـــرات أخــيــرًا فــي األردن ومــصــر. ولـم تـــــردع ردات الــفــعــ­ل هــــذه إســـرائــ­ـيـــل، لـكـنـهـا تبقى جديرة باالهتمام للتذكير بالهمجية اإلسرائيلي­ة فال تنسى. وفي تركيا، تطورت ردات الفعل في مجاالت عــدة بشكل متزامن، فبينما بـدأ املسؤولون األتــــــ­ــراك اتـــصـــا­التـــهـــ­م بـــالـــق­ـــادة الــســيــ­اســيــن فــي حــركــة حــمــاس، اعــتــبــ­ارًا مــن الــســابـ­ـع من أكــتــوبـ­ـر/ تـشـريـن األول، دخـــلـــو­ا، مـــن جـانـب آخــر، في مساع مختلفة بشأن كيفية وضع حـــد للهجمات اإلسـرائـي­ـلـيـة. وبـعـدمـا شنت إسـرائـيـل مـوجـة كثيفة مـن الهجمات، بـدأت تـــركـــي­ـــا بــمــعــا­لــجــة الــقــضــ­يــة فــــي مــســتــو­يــات مـخـتـلـفـ­ة، فـلـعـبـت دورًا فـــعـــاا­ل فـــي التنسيق بـــن مــنــظــم­ــة الـــتـــع­ـــاون اإلســــال­مــــي وجــامــعـ­ـة الــــــــ­ـدول الــــعـــ­ـربــــيــ­ــة، وبـــــذلـ­ــــت الــــجـــ­ـهــــود حــتــى يجتمع هـــذان الـكـيـانـ­ان ويـتـحـركـ­ان معًا في وقــت واحـــد. ونـظـمـت مسيرة لدعم فلسطن فـي إسطنبول، شـــارك فيها أكـثـر مـن مليون شـخـص، ثـــم اسـتـدعـت السفير اإلسـرائـي­ـلـي، ووفــــرت الـتـنـسـي­ـق الــســريـ­ـع مــع قـطـر ومصر واألردن إليـصـال املـسـاعـد­ات اإلنـسـانـ­يـة إلى غزة، وأحضرت مئات املصابن الفلسطينين إلى تركيا لتلقي العالج. وعــلــى الـصـعـيـد الــســيــ­اســي، مـــارســـ­ت تركيا ضـــغـــوط­ـــًا عـــلـــى الـــــوال­يـــــات املـــتـــ­حـــدة لـتـغـيـيـ­ر

ســــيــــ­اســــتـــ­ـهــــا الــــــتـ­ـــــي تــــصــــ­وغــــهـــ­ـا الــــطـــ­ـلــــبـــ­ـات اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة، مـــن أجـــل ضــمــان وقـــف إطـــالق الـــنـــا­ر فـــي أســـــرع وقــــت مــمــكــن. ومــــن نـاحـيـة أخـــــرى، ســـارعـــ­ت بـــاالتــ­ـصـــال بـــــدول املـنـطـقـ­ة، فأمضى وزير الخارجية هاكان فيدان عمله فـي أكتوبر/ تشرين األول، كله تقريبًا، بن دول املــنــطـ­ـقــة، وفــــي ذلــــك إشــــــار­ة مــهــمــة إلــى املــكــان الـــذي تبحث فـيـه تـركـيـا عــن الـحـلـول. وســــاعــ­ــدت فـــي انـــعـــق­ـــاد اجـــتـــم­ـــاعـــات مـنـظـمـة الـتـعـاون اإلسـالمـي وجامعة الـــدول العربية في وقت واحـد، وبـادرت في إنشاء مجموعة اتـــــصــ­ـــاالت غــــــــز­ة، الــــتـــ­ـي ضــــمــــ­ت أعـــــضــ­ـــاء مـن املنظمة والجامعة. كما جمعت بن حركتي حــمــاس وفــتــح، وعـمـلـت عـلـى إنــشــاء أرضـيـة سياسية فلسطينية أكثر فعالية وشمولية ضد إسرائيل. وفي أثناء قيامها بذلك، أكدت أنها ال تعتبر حركة حماس منظمة إرهابية، بل «العبًا سياسيًا»، ولم تعامل الحركة على أنها «منظمة وكيلة»، كما فعلت بلدان أخرى. فانزعجت إسـرائـيـل مـن ذلـــك، واغـتـالـت أحد املفاوضن من أجل تقويض هذه املفاوضات، وأخذت تتهم تركيا بـ «اإلرهاب». األطــروحـ­ـة األكــثــر أهمية الـتـي استخدمتها تـركـيـا فــي عملية الــتــفــ­اوض، وفـــي مستوى الــخــطــ­اب، إعــــادة تسليط الــضــوء عـلـى دولــة فلسطن. عالوة على ذلك، أعـادت إنتاج آلية الـضـامـن بنهج جـديـد ومبتكر جـــدًا، صيغة من شأنها أن تجعل بناء الدولة الفلسطينية مـمـكـنـًا. ورغــــم أن جــهــود وقـــف إطــــالق الـنـار أخذت حيزًا كبيرًا في جدول األعمال، بسبب املــأســا­ة اإلنـسـانـ­يـة الـتـي أحـدثـتـهـ­ا إسـرائـيـل فـــي قـــطـــاع غـــــزة، فـــــإن صـــنـــاع الـــقـــر­ار األتـــــر­اك لــم يـكـتـفـوا بالتعبير عــن ضــــرورة الـتـوصـل إلــى حــل دائـــم وعـــادل على املــديــن املتوسط والــطــوي­ــل، بــل طــرحــوا الـصـيـغ الــتــي تضمن ذلك أيضًا. أما العرض الذي تقدمت به تركيا بشأن «الضامن» الـذي سيمكن من التوصل إلـــــى صـــيـــغـ­ــة حـــــل الــــدولـ­ـــتــــن، والــــتــ­ــي يـمـكـن للمجتمع الدولي أن يتوافق عليها وترضي الــفــاعـ­ـلــن الـفـلـسـط­ـيـنـيـن، فــهــو آلــيــة جــديــدة وقابلة للتطبيق بهذا املعنى. هـــذا الــنــهــ­ج الــــذي اتـبـعـتـه تــركــيــ­ا كـــان مهمًا جـــــدًا. فــقــد أعــــــاد، أوال، إلــــى جـــــدول األعـــمــ­ـال مسألة حل الدولتن التي تستند إلى حدود ما قبل حـرب ،1967 وبعبارة أخــرى، سيادة فـلـسـطـن ووحــــــد­ة أراضـــيــ­ـهـــا فـــي إطـــــار قـــرار األمم املتحدة رقم ،242 الذي سقط من جدول أعـــمـــا­ل الـــــرأي الـــعـــا­م الـــدولــ­ـي، وأصـــبـــ­ح يـبـدو عسير املــنــال، فكسرت بـذلـك الـوضـع الـراهـن الــقــائـ­ـم، وفـتـحـت الــنــقــ­اش مــــرة أخــــرى بشأن األراضــــ­ـــي الـــتـــي اســـتـــو­لـــت عــلــيــه­ــا إســرائــي­ــل بسياستها االستعماري­ة االستيطاني­ة. ومن املهم جدًا إعـادة فتح املوضوع للنقاش على مستوى الــدولــة، ألن إسـرائـيـل، بسياساتها االستيطاني­ة، حولت األراضــي الفلسطينية إلـــــــى «جــــبــــ­نــــة ســــويـــ­ـســــريــ­ــة»، وقــــضـــ­ـت عــلــى احـــتـــم­ـــال قـــيـــام دولـــــة فـلـسـطـيـ­نـيـة مـتـكـامـل­ـة. ولـــــذلـ­ــــك، فــــــإن إقــــامــ­ــة دولــــــة فــلــســط­ــن تـعـنـي إجبار إسرائيل على مـغـادرة األراضـــي التي اغـتـصـبـت­ـهـا. وإقـــامــ­ـة الـــدولــ­ـة تـعـنـي تحويل اإلدارة الفلسطينية التي تعاني عسكريًا من عجز كبير، وتعتمد سياسيًا على املبادرات الخاصة، إلى دولة ذات سيادة تمتلك آليتها املـسـتـقـ­لـة فــي صـنـع الـــقـــر­ار. وهــــذه الصيغة، بــاإلضــا­فــة إلـــى وظيفتها املتمثلة فــي وقـف الـــعـــد­وان اإلســرائـ­ـيــلــي بــوقــف مــؤقــت إلطــالق النار على املــدى القصير، تشكل، في الوقت ذاته، مفاتيح شروط السالم الدائم. في املقابل، تغلق إسرائيل الباب تمامًا أمام هـذا الخطاب السياسي، وأمــام السعي من أجل حل الدولتن وتواصل همجيتها. لكن الجدل بشأن ما إذا كان حل الدولتن ممكنًا أم ال عـــاد إلـــى أجـــنـــد­ات املـهـتـمـ­ن باملسألة على املستوى األكاديمي أيضًا. ومن الالفت للنظر أن مـلـفـًا عــن هـــذا املــوضــو­ع أعــــد في مــجــلــة فــــوريــ­ــن أفــــيـــ­ـرز بــمــســا­هــمــة عـــشـــرا­ت األكـــادي­ـــمـــيــ­ـن والـــبـــ­احـــثـــن. تـــضـــمـ­ــن مـــقـــاا­ل بعنوان «الــعــودة الغريبة لحل الـدولـتـن». وال يمكن إنكار أن تركيا بطريقة تناولها املسـألة لعبت دورًا كبيرًا في إعادة مناقشة الـــعـــو­دة إلــــى حــــل الـــدولــ­ـتـــن بـشـكــل غــريــب. واألكـــثـ­ــر أهـمـيـة أن هـــذا الـنـهـج سـيـكـون له مـوقـع مـركـزي فـي الخطاب السياسي بعد وقف إطالق النار، والبحث عن الحلول. وعــلــى الـــرغـــ­م مـــن هــــذه الـــخـــط­ـــوات الـتـركـيـ­ة، التي ستظهر آثارها في املدى القصير، وفي املدين املتوسط والطويل، أصبح استمرار تركيا فـي عالقاتها التجارية مـع إسرائيل محط جـدل في الـرأي العام الداخلي والـرأي الـــعـــا­م الـــعـــر­بـــي، عــلــى حــــد ســــــواء. والـــســـ­ؤال «ملـــــاذا تـــواصـــ­ل تــركــيــ­ا عــالقــات­ــهــا الــتــجــ­اريــة مــع إسـرائـيـل رغــم اتباعها سياسة شديدة الـــلـــه­ـــجـــة ضــــد إســـــرائ­ـــــيــــ­ـل؟»، قــــد يــــكــــ­ون فـي محله، لكن هناك أسبابًا كثيرة لـذلـك، مثل األوضــاع االقتصادية التي تعيشها تركيا، وااللـــــ­ـتــــــزا­مــــــات الــــتـــ­ـي تـــفـــرض­ـــهـــا االتــــفـ­ـــاقــــا­ت الـــتـــج­ـــاريـــة، وضـــــــر­ورة إبـــقـــا­ء بــــاب الــتــجــ­ارة مفتوحًا حتى تستطيع تركيا أن تبقى على طاولة املفاوضات. قد ال تكون هذه األسباب مقنعة بـمـا فـيـه الـكـفـايـ­ة، ولــتــوقـ­ـعــات الـــرأي العام أيضًا مقابل في املعايير الديمقراطي­ة. لكن تركيز الجدل على التجارة باعتبارها مـشـكـلـة، لتطغى عـلـى سـيـاسـة تـركـيـا تجاه فلسطن، والخطوات التي اتخذتها في غزة، وتحويل النقاش بشأن إسرائيل إلى نقاش بــشــأن تــركــيــ­ا، مــســألــ­ة تـحـتـاج إلـــى الـتـوقـف عـــنـــده­ـــا. بـــاإلضــ­ـافـــة إلــــى ذلـــــك، لـــم يــتــعــر­ض بـلـد آخـــر لـالنـتـقـ­اد أو االســتــه­ــداف بــقــدر ما تـــعـــرض­ـــت لــــه تـــركـــي­ـــا، بــســبــب عـــــدم قـطـعـهـا التجارة مع إسرائيل، األمـر الـذي يشير إلى أن هــنــاك تــوقــعــ­ات كــبــيــر­ة مـــن تــركــيــ­ا، وأنـــه يمكن لتركيا أن تحول ذلك إلى فرصة. صـــــرح فـــيـــدا­ن فـــي بـــيـــان لــــه، فـــي الـــثـــا­مـــن من إبــريــل/ نيسان الـحـالـي، بـــأن إسـرائـيـل، رغم كــــل الـــجـــه­ـــود، لـــم تـــوافـــ­ق عــلــى وقــــف إلطـــالق الـــنـــا­ر، وبـيـنـمـا سـمـحـت لـــــأردن والـــوالي­ـــات املـتـحـدة بـإيـصـال املــســاع­ــدات إلــى غـــزة جــوًا، رفـضـت الــدخــول فــي عملية تنسيق مماثلة مع تركيا. في الواقع، هذا النهج الذي تتبعه إسرائيل يعني أنها تغض الطرف عن ظهور تلك الدول في الواجهة، مقابل إحباط خطط تــركــيــ­ا ومــســاعـ­ـيــهــا لــلــمــس­ــاعــدة الـحـقـيـق­ـيـة. فــي املــقــاب­ــل، أعــلــن فــيــدان أن تـركـيـا ستتخذ إجراء ات جديدة ضد إسرائيل حتى التوصل إلى وقف إلطالق النار، ومن ثم أعلنت وزارة الـتـجـارة وقـــف الـــصـــا­درات إلـــى إسـرائـيـل في قـطـاعـات عــديــدة. ومـــن نـاحـيـة أخــــرى، هناك اســــتـــ­ـعــــداد عـــلـــى مـــســـتـ­ــوى املـــنـــ­ظـــمـــات غــيــر الـحـكـومـ­يـة يــنــطــو­ي عــلــى مــخــاطــ­ر جسيمة، بعد اإلعالن عن استعداد سفينتن كبيرتن، يتوقع أن ترافقهما عشرات املراكب الشراعية من دول أوروبية عدة، للتوجه إلى غزة. وفي هذا السياق، دعونا نطرح أسئلة ثالثة: هل سيحدث سيناريو أسطول مرمرة مرة أخرى إذا أبحرت السفينتان؟ كيف سترد تركيا إذا هاجمتهما إسرائيل؟ مــاذا سيكون رد فعل الرأي العام املحلي، وردات الفعل في البلدان اإلسالمية والعربية في حال دخول تركيا في صراع مع إسرائيل؟ هل سيقدمون كل أنواع الدعم لتركيا أم سيتركونها وحيدة؟ ســــوف تــكــون زيـــــارة الــرئــيـ­ـس الــتــركـ­ـي رجــب طــيــب أردوغـــــ­ـان إلـــى الـــواليـ­ــات املــتــحـ­ـدة، في التاسع من مايو/ أيــار، بناء على دعـوة من الرئيس بـايـدن، مـن املحطات األكـثـر أهمية، تــنــاقــ­ش فـيـهـا تــركــيــ­ا الــــعـــ­ـدوان اإلســرائـ­ـيــلــي على فلسطن، وحقوق الشعب الفلسطيني. وليس من املستبعد الحصول على مخرجات مـلـمـوسـة عـقـب هـــذه الـــزيـــ­ارة. ولــهــذا السبب تحديدًا، يتوقع أن تتخذ إسرائيل خطوات لــتــفــا­دي خــســارة الــدعــم األمــيــر­كــي والـغـربـي لـهـا، والتعتيم على الـجـرائـم الـتـي ترتكبها فــي غــــزة، وأن تستهدف نـقـاطـًا مختلفة في العراق، تمامًا كما قصفت قنصلية إيران في سـوريـة، وإن لم تستهدف إيــران مباشرة أو تـقـوم بموجة مـن الــغــارا­ت، بما فيها غــارات برية، ضد لبنان، مقر حزب الله.

أكدت تركيا أنها ال تعتبر حركة حماس «منظمًة إرهابيًة»، بل «العبًا سياسيًا»، ولم تعامل الحركة على أنّها «منظمة وكيلة»، كما فعلت بلدان أخرى

العرض الذي تقدمت به تركيا بشأن «الضامن» الذي سيمّكن من التوصل إلى صيغة حل الدولتين، هو آلية جديدة وقابلة للتطبيق

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar