Al Araby Al Jadeed

ماذا سُيبنى فوق األنقاض؟

يتعلّم الطاغية من العجز بينما يعجز الثوري عن التعلّم البنية القديمة آيلة لالنهيار فعًال، ومع ذلك فلن تجد في أي مكان أو زمان من عالمنا العربي مشروعًا واحدًا متكامًال يتحّدث عن اليوم التالي

- ممدوح عزام

في رواية «زوربا» لكازانتزاك­ي، يسأل زوربا رئيسه في العمل: «أنت تريد أن تثير الشعب، أن تفتح عــيــونــ­ه... دع الــنــاس مـطـمـئـنـ­ن.. ال تفتح أعينهم، إذا فتحت أعينهم، فما الذي سـيـرون؟ بؤسهم؟ دعهم إذن مستمرين في أحــامــهـ­ـم»، ثـــم يـضـيـف: «إال إذا كـــان لـديـك، عندما تفتح أعينهم، عـالـم أفـضـل مـن عالم الظلمات الذي يعيشون فيه اآلن. ألديك هذا العالم؟». فيجيب الرئيس الراوي: «كنت أعلم جـيـدًا مـا سيتهدم. لكنني ال أعــرف مـا الـذي سيبنى فوق األنقاض». تكاد تمثل هذه اإلجابة حالة جميع الثورات واالنـــــ­تـــــفـــ­ــاضـــــا­ت والــــــت­ــــــمـــ­ـــّردات الــــتـــ­ـي ســعــى فــيــهــا الـــشـــع­ـــب، أو الـــــثــ­ـــوار، أو املــنــتـ­ـفــضــون، أو املـــتـــ­ظـــاهـــر­ون، والـــكـــ­تـــاب واملــــفـ­ـــكــــرو­ن، في الـعـالـم الــعــربـ­ـي، مـنـذ بــدايــة الــقــرن العشرين حـتـى الــيــوم، أي مـنـذ أن بـــدأت أفــكــار العالم الجديد تصل إلـى بـادنـا، ســواء مـن الغرب، أو من الشرق، للثورة على العالم القديم. فقد كـــان جـمـيـع املـنـاضـل­ـن مــن أجـــل الــحــريـ­ـة، أو الديمقراطي­ة، أو التخلص من املستبد، أو من أجل الحياة األفضل، أو االشتراكية، يعرفون تمامًا ما الذي ال يريدونه، أو ما الذي سوف يــهــدمــ­ونــه، ولـكـنـنـا ال نــقــرأ فــي أي بــيــان، أو خطة، أو برنامج، أو شعارات ما الـذي يريد أولئك الذين يتقنون الهدم بناء ه بدل األبنية التي سيهدمونها. والـــافــ­ـت أن الـبـنـيـة الـقـديـمـ­ة آيــلــة لـانـهـيـا­ر فــعــا، ومـــع ذلـــك فـلـن تـجـد فــي أي مــكــان من عاملنا الـعـربـي، أو فــي أي زمـــان، مــن أزمنته الجريحة، مشروعًا واحــدًا متكاما يتحدث عن اليوم التالي. وبالرغم من هزائم املاضي القريب املتكررة، فإن جميع الثورات التالية في الربيع العربي لـــم تـــتـــحـ­ــدث إال عـــن الـــهـــد­م أيـــضـــًا. لـــم يـــقـــدم الثائرون، هم محقون في ثورتهم في الدول الـعـربـيـ­ة الـتـي شـهـدت الـــثـــو­رات، أي مـشـروع بــديــل حــتــى ولـــو عـــن كــتــاب الـــقـــر­اءة للصف

ال مشروع بديًال ولو كان كتاب قراءة للصف األول االبتدائي

األول االبتدائي، وكلهم كانوا يعرفون جيدًا مـــا الــــذي ال يـــريـــد­ونـــه، وكــلــهــ­م يـــريـــد­ون هـدم الحاضر السياسي، ولكنهم مثل راوي زوربا: فـتـحـوا عـيـون الـشـعـب عـلـى الـعـالـم األفـضـل، ولم يعرفوا هم، أو هو، ما الذي سيبنى فوق األنقاض. املــشــكـ­ـلــة أمـــامـــ­نـــا أضـــحـــت مـشـكـلـتـ­ن الـــيـــو­م، األولــــى هـي تلك الـتـي يـتـحـدث عنها الـــراوي فـــي روايـــــة زوربــــــ­ا، إذ إن الــعــالـ­ـم الــجــديـ­ـد ال يتضح كفاية، أو ال يتضح بـاملـرة، والثانية هي أن النجاح الجزئي الذي تحقق لم يقدم أي بديل. لقد أعيد من جديد إنتاج الطاغية، كــــأن الــطــغــ­اة الــجــدد قــد تـعـلـمـوا جــيــدًا كيف يمسكون السلطة، اقتداء بالفشل الـذي سار فـيـه أســافــهـ­ـم، وتــلــك هــي املــفــار­قــة الـغـريـبـ­ة، إذ يعجز الــثــوري عــن الـتـعـلـم، بينما يتعلم الطاغية من العجز. والــــافـ­ـــت أن الــشــخــ­صــيــة الـــتـــي يــعــجــب بها الــثــوري­ــون فــي الــعــالـ­ـم، وهـــي زوربـــــا، تطالب الــــراوي بالتوقف عـن صناعة الـحـلـم، وتـرى أن ترك الناس في حياتهم املعتادة، املظلمة، أفـضـل بكثير مـن إخـراجـهـم منها إلــى حياة جديدة أخـرى مظلمة، إذا لم يكن لديهم حل آخر، أو فكرة مختلفة، وخطة كبيرة تدحض الــحــاضـ­ـر الــبــائـ­ـس. يــبــدو زوربــــا صــادقــا في دعواه، غير أن صدقه، وصدق الـراوي، يبقي العالم في بؤسه، وفقره، والظلم الواقع عليه. إنــه صــدق املــهــزو­م، الــذي ال يعرف شيئا عن العالم الذي يحلم به.

 ?? )Getty( ?? من مدينة جنديرس قرب حلب السورية بعد زلزال 2023
)Getty( من مدينة جنديرس قرب حلب السورية بعد زلزال 2023

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar