Al Araby Al Jadeed

عن القضية »173«

- أحمد ماهر

قـبـل أيــــام، هــنــاك خـبـر هــــام، وسـعـيـد في الوقت نفسه، إسدال الستار على القضية »173« فـــي مـــصـــر، الـــخـــا­صـــة بـمـنـظـمـ­ات املــجــتـ­ـمــع املــــدنـ­ـــي، ذات الـــطـــا­بـــع املـــدافـ­ــع أو الــحــقــ­وقــي، أو الــقــضــ­يــة الـــتـــي عـــرفـــت إعــامــيـ­ـا بــ«قـضـيـة الـتـمـويـ­ل األجــنــب­ــي»، إذ قـرر قاضي التحقيق استبعاد جميع الـــجـــم­ـــعـــيــ­ـات الـــحـــق­ـــوقـــيـ­ــة مــــن قـــــــرا­ر مـنـع الــســفــ­ر والـــحـــ­جـــز عــلــى األمــــــ­ــوال، وبــعــدم وجــــود وجـــه إلقــامــة الـــدعـــ­وى الجنائية، مما يترتب عليه إلغاء أوامر منع السفر الـتـي صـــدرت فـي وقــت سـابـق. وبالفعل، تمكن بعض الزماء املحامني من السفر إلـــى خـــارج مـصـر مــن دون عـــوائـــ­ق، ألول مـرة منذ ما يقارب عشر سنوات. وبذلك تــنــتــه­ــي فـــصـــول املـــحـــ­اكـــمـــة االنــتــق­ــامــيــة، الــتــي بــــدأت فـــي صــيــف ،2011 بوصفها نـوعـا مــن االنــتــق­ــام والتنكيل بمنظمات املجتمع املـدنـي والجمعيات الحقوقية، الــتــي كــانــت داعـــمـــ­ة لــلــحــر­اك الـــثـــو­ري في مصر في تلك الفترة. تبدأ القصة عندما استعان املجلس العسكري الحاكم، بعد قـيـام الــثــورة فـي ،2011 بالسفيرة فايزة أبـــو الـنـجـا (وزيــــرة الــتــعــ­اون الــدولــي في عــهــد حـسـنـي مـــبـــار­ك)، كــانــت هـــنـــاك، في حـــيـــنـ­ــه، حـــالـــة رفـــــض لـــــدى املـــجـــ­مـــوعـــا­ت الـــثـــو­ريـــة إلعــــــا­دة تــعــيــن­ي وجـــــوه الــنــظــ­ام الــقــديـ­ـم مــــرة أخــــرى، خـصـوصـا السفيرة أبـــو الـنـجـا، الـتـي كـــان لـهـا دور كبير في تــوجــيــ­ه املــــنــ­ــح األجــنــب­ــيــة املـــقـــ­دمـــة ملصر فــي اتــجــاه املــشــرو­عــات الـحـكـومـ­يـة التي تشرف عليها حرم رئيس الجمهورية في ذلــك الــوقــت، ســـوزان مــبــارك، ثـم نسبتها إنــــجـــ­ـازات فـــرديـــ­ة إلــــى الــرئــيـ­ـس األســبــق وعائلته، إضـافـة لشبهات الفساد التي طاولت كثيرًا من املشاريع وأوجه صرف املــنــح واملــعــو­نــات األجـنـبـي­ـة فـيـهـا. وبعد الــثــورة، كــان هـنـاك عـــداء صـريـح بـني أبو النجا، ومنظمات املجتمع املـدنـي، التي كـــان لـهـا دور كـبـيـر فـــي الـتـمـهـي­ـد لحالة الــحــراك السياسي قبل عــام ،2011 وهي الجمعيات واملؤسسات التي لها أنشطة ملناهضة التعذيب في أقسام الشرطة أو مراقبة االنتخابات أو فضح االنتهاكات أو تقديم الـدعـم الـقـانـون­ـي للمعارضني. لذلك، كانت أبو النجا ترى أن تلك النوعية مـــن املــجــتـ­ـمــع املـــدنــ­ـي (نـــوعـــي­ـــة مــزعــجــ­ة) تثير الفوضى وتجب محاربتها، فكان ألبــو النجا دور كبير فـي تزكية نظرية املؤامرة لدى املجلس العسكري الحاكم، في ذلك الوقت. في يوليو ،2011 توترت العاقة بني املجلس العسكري الحاكم في مصر والـقـوى الثورية املحركة للشارع، وبما أن حركة السادس من إبريل كانت األبــــــ­ـرز واألكــــث­ــــر تــنــظــي­ــمــا، فـــقـــد اخــتــص املــجــلـ­ـس الــعــســ­كــري الـــحـــا­كـــم املــجــمـ­ـوعــة ببيان خــاص، يتهمها بتلقي تمويات، وتدريبات في دولـة صربيا، لقلب نظام الحكم. بعد ذلــك بـأيـام، اقتحمت مقرات عـــدد مــن املـنـظـمـ­ات الحقوقية األجنبية التي تعمل في مصر، وألقي القبض على عـــدد مـــن الــعــامـ­ـلــني فــيــهــا، وســـط خـطـاب إعـــــامـ­ــــي شـــعـــبـ­ــوي مـــــعـــ­ــاد لــلــجــم­ــعــيــات الـحـقـوقـ­يـة، وكـــان ألنــصــار نـظـام مـبـارك، الذين أصبحوا بالتبعية أنصار املجلس الــــعـــ­ـســــكـــ­ـري الـــــحــ­ـــاكـــــ­م، ثـــــــــ­ـأر، كـــــذلــ­ـــك، مــع املنظمات الحقوقية، فساهموا في خطاب الـــتـــح­ـــريـــض. ورغــــــم الـــخـــط­ـــاب اإلعـــامـ­ــي املوالي الذي توعد العاملني في املنظمات الـــحـــق­ـــوقـــيـ­ــة بـــالـــو­يـــل والــــثــ­ــبــــور وفــظــائـ­ـع األمـــــو­ر، هـبـطـت طــائــرة خــاصــة أميركية

لتقل العاملني األجـانـب منهم فقط، قبل إجــــراءا­ت تقديمهم للمحاكمة، فـغـادروا جــمــيــع­ــا عـــــدا روبـــــــ­رت بـــيـــكـ­ــر، الــــــذي كـــان يعمل في املعهد الديمقراطي األميركي، حينها، على برامج مراقبة االنتخابات، وتـأهـيـل األحــــزا­ب الــجــديـ­ـدة، لـكـنـه رفـض مغادرة مصر ألنه لم يعتقد أن ما يفعله جـــريـــم­ـــة، وال يــنــبــغ­ــي لــــه الــــهـــ­ـرب وتــــرك زمـائـه الحقوقيني املصريني يواجهون املـــحـــ­اكـــمـــة وحــــــده­ــــــم. كـــلـــفـ­ــت الـــحـــك­ـــومـــة وزيـــــــ­ر الـــــعــ­ـــدل بــتــشــك­ــيــل لـــجـــنـ­ــة تــقــصــي حقائق بـشـأن مــزاعــم التمويل األجنبي للمنظمات املحلية أو املنظمات األجنبية غير املرخص لها في مصر. وفي فبراير/ شباط من العام ،2012 أحيل 43 شخصا، بـيـنـهـم 19 أمــيــركـ­ـيــا وخــمــســ­ة مـصـريـني وأملــــان­ــــيــــا­ن وثــــاثــ­ــة عــــــرب، عـــلـــى مـحـكـمـة الجنايات بتهمة تلقي تمويل أجنبي في مخالفة للقانون، واستعمالها في أنشطة محظورة. ولكن، في 28 فبراير عام ،2012 قــررت هيئة املحكمة وقتها التنحي عن النظر في القضية الستشعارها الحرج. وبــــعـــ­ـد تـــكـــلـ­ــيـــف قــــــــا­ض آخـــــــر بـــمـــبـ­ــاشـــرة القضية، قضت محكمة جنايات القاهرة بـمـعـاقـب­ـة 27 متهما (غــيــابــ­يــا) بالسجن خمس سنوات وبمعاقبة خمسة آخرين حضوريا بالحبس سنتني، وبمعاقبة 11 آخرين بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وتغريم كل متهم ألف جنيه، وغلق جميع مــــقــــ­رات وفــــــرو­ع بــعــض هــــذه املــنــظـ­ـمــات، ومــــصـــ­ـادرة أمـــوالــ­ـهـــا. وفــــي الـــعـــا­م ،2016 فتحت القضية مرة أخرى، وتمت متابعة بـــاقـــي الــجــمــ­عــيــات واملـــنــ­ـظـــمـــا­ت املــصــري­ــة الــــتـــ­ـي لـــــم تــــحــــ­اكــــم فـــــي الــــجـــ­ـولــــة األولـــــ­ــى، ومــنــع عــدد مــن النشطاء الحقوقيني من السفر. وفي أواخر عام ،2018 صدر حكم ببراءة الـ 43 متهما، غالبيتهم أميركيون وأوروبـــي­ـــون، وعـــزا كـثـيـرون أســبــاب ذلـك إلـــى الـضـغـوط األجـنـبـي­ـة، تـلـك الضغوط الـــتـــي اســـتـــط­ـــاعـــوا بــهــا إخــــــرا­ج األجـــانـ­ــب مــن مـصـر بــطــائــ­رة خــاصــة أمـيـركـيـ­ة عـام ،2011 قبل بدء املحاكمة. ومع بدء جوالت الحوار الوطني عام ،2023 ومشاركة عدد مـن الحقوقيني املمنوعني مـن السفر في عـــدد مــن جـلـسـات الـــحـــو­ار، بـــدأ استبعاد بعضهم مـن املـراكـز املتهمة تباعا، حتى أغلقت القضية، أخيرًا، ورفع الحظر على السفر والحجز على األموال. وفي ذلك ماحظات عدة. األولى، إن إغاق القضية بعد أكـثـر مـن 12 عـامـا هـو قـرار صحيح في األســاس، ويعتبر تصحيحا لوضع خاطئ، حتى لو كان سبب القرار ضغوطا أوروبــيــ­ة أو مـن أجــل استئناف املــعــون­ــات لـلـحـكـوم­ـة املــصــري­ــة، وإن كــان األفـــضــ­ـل، طــبــعــا، أن يـــكـــون الـــقـــر­ار نـابـعـا من قناعة وطنية. املاحظة الثانية، هي

إغالق القضية بعد أكثر من 12 عامًا قرار صحيح في األساس، ويعتبر تصحيحًا لوضع خاطئ، ولو كان سبب القرار ضغوطًا أوروبية أو الستئناف المعونات للحكومة المصرية

ذلــك الـعـداء الــذي ظهر لــدى السلطة ضد املـجـتـمـ­ع املـــدنــ­ـي الــــذي يـعـمـل فـــي املــجــال الحقوقي والــدفــا­عــي، واسـتـخـدا­م نظرية املـؤامـرة لتبرير التنكيل والتضييق. في املقابل، نجد أن السلطة، ســواء فـي عهد مـــبـــار­ك أو كــــل مـــن جــــاء بـــعـــده، تـتـسـامـح مع التمويل األجنبي الـــوارد للجمعيات الـــخـــي­ـــريـــة والـــتـــ­نـــمـــوي­ـــة فـــقـــط، فـــهـــي غـيـر مزعجة للسلطة، تأتي بتمويات ومنح خـارجـيـة تعالج عجز الحكومة عـن أداء واجـــبـــ­اتـــهـــا، كــمــا أن األنـــشــ­ـطـــة الــخــيــ­ريــة والتنموية يمكن نسبتها إلى الحكومات وإلـــى رأس الـــدولــ­ـة، عـلـى عـكـس األنشطة الحقوقية والدفاعية. وتتمثل املاحظة الثالثة فـي أن خـطـاب السلطة يستخدم نظرية املؤامرة، وباقي القصص الخيالية حول ما يطلق عليه مؤامرات الجيل الرابع إلضــعــاف الـجـيـوش، عندما يـتـحـدث عن الجهات املانحة للمنظمات والجمعيات الحقوقية، رغــم أنــهــا هــي نفس الجهات املانحة للعديد من املنظمات والجمعيات التنموية التي تعمل في كنف املشروعات الـحـكـومـ­يـة، وهـــي الـجـهـات املـانـحـة التي تدعم تدريبات ودعم وتأهيل عدة وزارات وهيئات حكومية، بل والجيش والشرطة والـــــقـ­ــــضـــــ­اء، أيـــــضــ­ـــا. ولــــكـــ­ـن هـــــل يــنــتــه­ــي األمـــر بـعـد ذلـــك الــقــرار اإليــجــا­بــي بـإغـاق الــقــضــ­يــة، والـــســـ­مـــاح بــســفــر الـحـقـوقـ­يـني املـعـارضـ­ني؟ هـل ستتغير نـظـرة السلطة الحاكمة إلـى املجتمع املدني العامل في أنشطة الدفاع عن حقوق اإلنسان ورصد انــتــهــ­اكــات األجـــهــ­ـزة الـتـنـفـي­ـذيـة أو الـتـي تعمل فـي رقـابـة األداء الحكومي ورصـد وقائع اإلهمال والفساد أو وقائع تزوير االنتخابات؟ بالطبع ال، وفي تقدير كاتب هــــذه الـــســـط­ـــور أن تــلــك الـــخـــط­ـــوة تـعـتـبـر فـي الـسـيـاق نفسه آلخــر اإلجــــرا­ءات التي تعتبر تخفيفا نسبيا للقبضة األمنية، مثل الــحــوار الـوطـنـي وبـعـض املساحات الضئيلة (املحكومة) التي سمح بها في العامني املاضيني، لكن ذلك ال يعني تغير نــظــرة الـسـلـطـة الــحــاكـ­ـمــة تــجــاه املجتمع املـدنـي الـدفـاعـي أو املنظمات الحقوقية. عــمــومــ­ا، يــمــكــن اعــتــبــ­ار انــتــهــ­اء الـقـضـيـة أمــــرًا إيــجــابـ­ـيــا، كـمـا أن اســتــمــ­راريــة عمل عـــدة مـنـظـمـات حـقـوقـيـة طــــوال الـسـنـوات السابقة، في مثل تلك الظروف، لهو عمل بطولي يستحق التقدير.

 ?? (مروان نعماني/فرانس برس) ?? فايزة أبو النجا، شرم الشيخ، 2002
(مروان نعماني/فرانس برس) فايزة أبو النجا، شرم الشيخ، 2002

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar