عن القضية »173«
قـبـل أيــــام، هــنــاك خـبـر هــــام، وسـعـيـد في الوقت نفسه، إسدال الستار على القضية »173« فـــي مـــصـــر، الـــخـــاصـــة بـمـنـظـمـات املــجــتــمــع املــــدنــــي، ذات الـــطـــابـــع املـــدافـــع أو الــحــقــوقــي، أو الــقــضــيــة الـــتـــي عـــرفـــت إعــامــيــا بــ«قـضـيـة الـتـمـويـل األجــنــبــي»، إذ قـرر قاضي التحقيق استبعاد جميع الـــجـــمـــعـــيـــات الـــحـــقـــوقـــيـــة مــــن قـــــــرار مـنـع الــســفــر والـــحـــجـــز عــلــى األمــــــــوال، وبــعــدم وجــــود وجـــه إلقــامــة الـــدعـــوى الجنائية، مما يترتب عليه إلغاء أوامر منع السفر الـتـي صـــدرت فـي وقــت سـابـق. وبالفعل، تمكن بعض الزماء املحامني من السفر إلـــى خـــارج مـصـر مــن دون عـــوائـــق، ألول مـرة منذ ما يقارب عشر سنوات. وبذلك تــنــتــهــي فـــصـــول املـــحـــاكـــمـــة االنــتــقــامــيــة، الــتــي بــــدأت فـــي صــيــف ،2011 بوصفها نـوعـا مــن االنــتــقــام والتنكيل بمنظمات املجتمع املـدنـي والجمعيات الحقوقية، الــتــي كــانــت داعـــمـــة لــلــحــراك الـــثـــوري في مصر في تلك الفترة. تبدأ القصة عندما استعان املجلس العسكري الحاكم، بعد قـيـام الــثــورة فـي ،2011 بالسفيرة فايزة أبـــو الـنـجـا (وزيــــرة الــتــعــاون الــدولــي في عــهــد حـسـنـي مـــبـــارك)، كــانــت هـــنـــاك، في حـــيـــنـــه، حـــالـــة رفـــــض لـــــدى املـــجـــمـــوعـــات الـــثـــوريـــة إلعــــــادة تــعــيــني وجـــــوه الــنــظــام الــقــديــم مــــرة أخــــرى، خـصـوصـا السفيرة أبـــو الـنـجـا، الـتـي كـــان لـهـا دور كبير في تــوجــيــه املــــنــــح األجــنــبــيــة املـــقـــدمـــة ملصر فــي اتــجــاه املــشــروعــات الـحـكـومـيـة التي تشرف عليها حرم رئيس الجمهورية في ذلــك الــوقــت، ســـوزان مــبــارك، ثـم نسبتها إنــــجــــازات فـــرديـــة إلــــى الــرئــيــس األســبــق وعائلته، إضـافـة لشبهات الفساد التي طاولت كثيرًا من املشاريع وأوجه صرف املــنــح واملــعــونــات األجـنـبـيـة فـيـهـا. وبعد الــثــورة، كــان هـنـاك عـــداء صـريـح بـني أبو النجا، ومنظمات املجتمع املـدنـي، التي كـــان لـهـا دور كـبـيـر فـــي الـتـمـهـيـد لحالة الــحــراك السياسي قبل عــام ،2011 وهي الجمعيات واملؤسسات التي لها أنشطة ملناهضة التعذيب في أقسام الشرطة أو مراقبة االنتخابات أو فضح االنتهاكات أو تقديم الـدعـم الـقـانـونـي للمعارضني. لذلك، كانت أبو النجا ترى أن تلك النوعية مـــن املــجــتــمــع املـــدنـــي (نـــوعـــيـــة مــزعــجــة) تثير الفوضى وتجب محاربتها، فكان ألبــو النجا دور كبير فـي تزكية نظرية املؤامرة لدى املجلس العسكري الحاكم، في ذلك الوقت. في يوليو ،2011 توترت العاقة بني املجلس العسكري الحاكم في مصر والـقـوى الثورية املحركة للشارع، وبما أن حركة السادس من إبريل كانت األبـــــــرز واألكــــثــــر تــنــظــيــمــا، فـــقـــد اخــتــص املــجــلــس الــعــســكــري الـــحـــاكـــم املــجــمــوعــة ببيان خــاص، يتهمها بتلقي تمويات، وتدريبات في دولـة صربيا، لقلب نظام الحكم. بعد ذلــك بـأيـام، اقتحمت مقرات عـــدد مــن املـنـظـمـات الحقوقية األجنبية التي تعمل في مصر، وألقي القبض على عـــدد مـــن الــعــامــلــني فــيــهــا، وســـط خـطـاب إعـــــامـــــي شـــعـــبـــوي مـــــعـــــاد لــلــجــمــعــيــات الـحـقـوقـيـة، وكـــان ألنــصــار نـظـام مـبـارك، الذين أصبحوا بالتبعية أنصار املجلس الــــعــــســــكــــري الـــــحـــــاكـــــم، ثــــــــــأر، كـــــذلـــــك، مــع املنظمات الحقوقية، فساهموا في خطاب الـــتـــحـــريـــض. ورغــــــم الـــخـــطـــاب اإلعـــامـــي املوالي الذي توعد العاملني في املنظمات الـــحـــقـــوقـــيـــة بـــالـــويـــل والــــثــــبــــور وفــظــائــع األمـــــور، هـبـطـت طــائــرة خــاصــة أميركية
لتقل العاملني األجـانـب منهم فقط، قبل إجــــراءات تقديمهم للمحاكمة، فـغـادروا جــمــيــعــا عـــــدا روبـــــــرت بـــيـــكـــر، الــــــذي كـــان يعمل في املعهد الديمقراطي األميركي، حينها، على برامج مراقبة االنتخابات، وتـأهـيـل األحــــزاب الــجــديــدة، لـكـنـه رفـض مغادرة مصر ألنه لم يعتقد أن ما يفعله جـــريـــمـــة، وال يــنــبــغــي لــــه الــــهــــرب وتــــرك زمـائـه الحقوقيني املصريني يواجهون املـــحـــاكـــمـــة وحــــــدهــــــم. كـــلـــفـــت الـــحـــكـــومـــة وزيـــــــر الـــــعـــــدل بــتــشــكــيــل لـــجـــنـــة تــقــصــي حقائق بـشـأن مــزاعــم التمويل األجنبي للمنظمات املحلية أو املنظمات األجنبية غير املرخص لها في مصر. وفي فبراير/ شباط من العام ،2012 أحيل 43 شخصا، بـيـنـهـم 19 أمــيــركــيــا وخــمــســة مـصـريـني وأملــــانــــيــــان وثــــاثــــة عــــــرب، عـــلـــى مـحـكـمـة الجنايات بتهمة تلقي تمويل أجنبي في مخالفة للقانون، واستعمالها في أنشطة محظورة. ولكن، في 28 فبراير عام ،2012 قــررت هيئة املحكمة وقتها التنحي عن النظر في القضية الستشعارها الحرج. وبــــعــــد تـــكـــلـــيـــف قــــــــاض آخـــــــر بـــمـــبـــاشـــرة القضية، قضت محكمة جنايات القاهرة بـمـعـاقـبـة 27 متهما (غــيــابــيــا) بالسجن خمس سنوات وبمعاقبة خمسة آخرين حضوريا بالحبس سنتني، وبمعاقبة 11 آخرين بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وتغريم كل متهم ألف جنيه، وغلق جميع مــــقــــرات وفــــــروع بــعــض هــــذه املــنــظــمــات، ومــــصــــادرة أمـــوالـــهـــا. وفــــي الـــعـــام ،2016 فتحت القضية مرة أخرى، وتمت متابعة بـــاقـــي الــجــمــعــيــات واملـــنـــظـــمـــات املــصــريــة الــــتــــي لـــــم تــــحــــاكــــم فـــــي الــــجــــولــــة األولـــــــى، ومــنــع عــدد مــن النشطاء الحقوقيني من السفر. وفي أواخر عام ،2018 صدر حكم ببراءة الـ 43 متهما، غالبيتهم أميركيون وأوروبـــيـــون، وعـــزا كـثـيـرون أســبــاب ذلـك إلـــى الـضـغـوط األجـنـبـيـة، تـلـك الضغوط الـــتـــي اســـتـــطـــاعـــوا بــهــا إخــــــراج األجـــانـــب مــن مـصـر بــطــائــرة خــاصــة أمـيـركـيـة عـام ،2011 قبل بدء املحاكمة. ومع بدء جوالت الحوار الوطني عام ،2023 ومشاركة عدد مـن الحقوقيني املمنوعني مـن السفر في عـــدد مــن جـلـسـات الـــحـــوار، بـــدأ استبعاد بعضهم مـن املـراكـز املتهمة تباعا، حتى أغلقت القضية، أخيرًا، ورفع الحظر على السفر والحجز على األموال. وفي ذلك ماحظات عدة. األولى، إن إغاق القضية بعد أكـثـر مـن 12 عـامـا هـو قـرار صحيح في األســاس، ويعتبر تصحيحا لوضع خاطئ، حتى لو كان سبب القرار ضغوطا أوروبــيــة أو مـن أجــل استئناف املــعــونــات لـلـحـكـومـة املــصــريــة، وإن كــان األفـــضـــل، طــبــعــا، أن يـــكـــون الـــقـــرار نـابـعـا من قناعة وطنية. املاحظة الثانية، هي
إغالق القضية بعد أكثر من 12 عامًا قرار صحيح في األساس، ويعتبر تصحيحًا لوضع خاطئ، ولو كان سبب القرار ضغوطًا أوروبية أو الستئناف المعونات للحكومة المصرية
ذلــك الـعـداء الــذي ظهر لــدى السلطة ضد املـجـتـمـع املـــدنـــي الــــذي يـعـمـل فـــي املــجــال الحقوقي والــدفــاعــي، واسـتـخـدام نظرية املـؤامـرة لتبرير التنكيل والتضييق. في املقابل، نجد أن السلطة، ســواء فـي عهد مـــبـــارك أو كــــل مـــن جــــاء بـــعـــده، تـتـسـامـح مع التمويل األجنبي الـــوارد للجمعيات الـــخـــيـــريـــة والـــتـــنـــمـــويـــة فـــقـــط، فـــهـــي غـيـر مزعجة للسلطة، تأتي بتمويات ومنح خـارجـيـة تعالج عجز الحكومة عـن أداء واجـــبـــاتـــهـــا، كــمــا أن األنـــشـــطـــة الــخــيــريــة والتنموية يمكن نسبتها إلى الحكومات وإلـــى رأس الـــدولـــة، عـلـى عـكـس األنشطة الحقوقية والدفاعية. وتتمثل املاحظة الثالثة فـي أن خـطـاب السلطة يستخدم نظرية املؤامرة، وباقي القصص الخيالية حول ما يطلق عليه مؤامرات الجيل الرابع إلضــعــاف الـجـيـوش، عندما يـتـحـدث عن الجهات املانحة للمنظمات والجمعيات الحقوقية، رغــم أنــهــا هــي نفس الجهات املانحة للعديد من املنظمات والجمعيات التنموية التي تعمل في كنف املشروعات الـحـكـومـيـة، وهـــي الـجـهـات املـانـحـة التي تدعم تدريبات ودعم وتأهيل عدة وزارات وهيئات حكومية، بل والجيش والشرطة والـــــقـــــضـــــاء، أيـــــضـــــا. ولــــكــــن هـــــل يــنــتــهــي األمـــر بـعـد ذلـــك الــقــرار اإليــجــابــي بـإغـاق الــقــضــيــة، والـــســـمـــاح بــســفــر الـحـقـوقـيـني املـعـارضـني؟ هـل ستتغير نـظـرة السلطة الحاكمة إلـى املجتمع املدني العامل في أنشطة الدفاع عن حقوق اإلنسان ورصد انــتــهــاكــات األجـــهـــزة الـتـنـفـيـذيـة أو الـتـي تعمل فـي رقـابـة األداء الحكومي ورصـد وقائع اإلهمال والفساد أو وقائع تزوير االنتخابات؟ بالطبع ال، وفي تقدير كاتب هــــذه الـــســـطـــور أن تــلــك الـــخـــطـــوة تـعـتـبـر فـي الـسـيـاق نفسه آلخــر اإلجــــراءات التي تعتبر تخفيفا نسبيا للقبضة األمنية، مثل الــحــوار الـوطـنـي وبـعـض املساحات الضئيلة (املحكومة) التي سمح بها في العامني املاضيني، لكن ذلك ال يعني تغير نــظــرة الـسـلـطـة الــحــاكــمــة تــجــاه املجتمع املـدنـي الـدفـاعـي أو املنظمات الحقوقية. عــمــومــا، يــمــكــن اعــتــبــار انــتــهــاء الـقـضـيـة أمــــرًا إيــجــابــيــا، كـمـا أن اســتــمــراريــة عمل عـــدة مـنـظـمـات حـقـوقـيـة طــــوال الـسـنـوات السابقة، في مثل تلك الظروف، لهو عمل بطولي يستحق التقدير.