Al Araby Al Jadeed

الصراع في الشرق األوسط يدخل مرحلة جديدة

- حسن نافعة

تـــتـــمـ­ــيـــز مـــنـــطـ­ــقـــة الـــــشــ­ـــرق األوســـــ­ــــط بـــتـــعـ­ــدد صـراعـاتـه­ـا وتعقيدها وتشابكها، إلــى حد الــتــداخ­ــل الــعــضــ­وي فـيـمـا بـيـنـهـا. لــــذا، يبدو أن هـــــذه املــنــطـ­ـقــة دخـــلـــت مـــرحـــل­ـــة صــراعــيـ­ـة جـــديـــد­ة عــقــب شــــن إيــــــرا­ن هــجــومــ­ا عـسـكـريـا مباشرًا على إسرائيل، في 13 إبريل/ نيسان الـحـالـي، ردًا على عـــدوان كانت إسـرائـيـل قد شنته على القنصلية اإليـرانـي­ـة فـي دمشق، وراح ضحيته عــدد ال يستهان بـه مـن كبار ضـبـاط الـحـرس الــثــوري اإليـــران­ـــي. وبصرف الــنــظــ­ر عـــن الــــجـــ­ـدل بـــشـــأن حــجــم الــخــســ­ائــر اإلسـرائـي­ـلـيـة الـتـي نجمت عــن هــذا الهجوم، الــذي استخدمت فيه إيـــران مئات الطائرات املسيرة والصواريخ الباليستية واملجنحة، سيكون مـن الصعب على إسـرائـيـل ابتالعه أو السكوت عنه، وقـد عمدت فجر أمـس إلى ضرب مواقع في داخـل إيــران، وقد يستدعي هذا ردًا إيرانيا أقوى، ربما تكون له تداعيات شـــديـــد­ة الـــخـــط­ـــورة عــلــى املــنــطـ­ـقــة بــأســرهـ­ـا. إلدراك طبيعة (وسمات) املرحلة التي بدأت إرهاصاتها تظهر في املنطقة، علينا تذكر أن للصراع املحتدم حاليا بني إيـران وإسرائيل أســـبـــا­بـــا وجـــــــذ­ورًا عــمــيــق­ــة، تـــعـــود بــدايــات­ــهــا إلـى الثورة اإلسالمية الكبرى ،)1979( التي أطـاحـت نظام الـشـاه الــذي ربطته بإسرائيل والــواليـ­ـات املتحدة عـالقـات قـويـة ومتميزة. بمجرد نجاح هذه الثورة، قامت إيـران على الفور بقطع جميع عالقاتها مع إسرائيل، ولم تكتف بطرد السفير اإلسرائيلي، وإنما قررت أيضا تسليم منظمة التحرير الفلسطينية مقر السفارة اإلسرائيلي­ة في طهران. وبذلت إسرائيل فيما بعد جهودًا مضنية الحتواء الـثـورة اإليـرانـي­ـة واسـتـعـاد­ة نفوذها القديم فــي طـــهـــرا­ن، خـصـوصـا عـقـب انــــدالع الـحـرب العراقية اإليرانية، وتمكنت بالفعل من إقامة جسور اتـصـاالت سـريـة زودت عبرها إيـران بــأســلــ­حــة إســرائــي­ــلــيــة (خـــــالل ،)1983-1981 ومكنتها مــن إبـــرام صفقة ســريــة للحصول على ســالح أمـيـركـي فـي عهد إدارة الرئيس رونالد ريغان (عرفت بعد كشفها عام 1986 بـ«فضيحة الكونترا» أو «إيران غيت»). وألن هـــذه املـــحـــ­اوالت كلها بـــاءت بـالـفـشـل، راحــت العالقات اإليرانية اإلسرائيلي­ة تأخد منحى صـراعـيـا متصاعدًا بــاطــراد، خصوصا بعد انتهاء الحرب مع العراق، إلى أن وصلت إلى حالة الصدام املسلح التي هي عليها اآلن. لـلـصـراع املـحـتـدم بــني إيــــران وإســرائــ­يــل منذ فـتـرة طـويـلـة روافــــد كـثـيـرة ومتشعبة بشأن ثالث قضايا أساسية: برنامج إيران النووي، وبرنامج التسلح الصاروخي، ونفوذ إيـران اإلقليمي الذي تستمده من عالقاتها املتميزة بــفــصــا­ئــل املـــقـــ­اومـــة املــســلـ­ـحــة فـــي فـلـسـطـني، وبحزب الله في لبنان، وبجماعة أنصار الله في اليمن، وبأحزاب وتيارات موالية لها في العراق. وألن برنامج إيـران النووي هو أكثر ما يثير قلق إسرائيل، ترى األخيرة أنه يشكل تــهــديــ­دًا وجـــوديــ­ـا بـالـنـسـب­ـة إلــيــهــ­ا، ومــــن ثــم يستحيل التسامح معه أو غض الطرف عنه. لذا سعت إسرائيل دوما، السيما عقب تولي بنيامني نتنياهو مقاليد الحكم، ال إلى عرقلة هـــذا الــبــرنـ­ـامــج أو تحجيمه فـحـسـب، وإنـمـا أيضا، إلى وقفه كليا بل وتدميره إن أمكن، ما يفسر اعتراض نتنياهو بشدة على االتفاق الذي أبرمته مجموعة 1+5 في عام 2015 مع إيـــــران. بــل ذهـــب نتنياهو إلـــى حـــد مهاجمة الرئيس بــاراك أوباما علنا، في خطاب ألقاه فـــي اجــتــمــ­اع مــشــتــر­ك لــلــكــو­نــغــرس بغرفتيه (الـشـيـوخ والـــنـــ­واب)، وراح يـواصـل ضغوطه إلى أن نجح في إقناع الرئيس دونالد ترامب بــاالنــس­ــحــاب األحـــــا­دي مـنـه عـــام .2018 على صـعـيـد آخـــــر، لـــم يــكــن نـتـنـيـاه­ـو ســعــيــدًا قط بالسياسة التي تبناها الرئيس جـو بايدن تجاه إيران، والتي استهدفت إعادة الواليات املتحدة إلى االلتزام باتفاق ،2015 والدخول معها في مفاوضات لهذا الغرض. وليس من املستبعد أبدًا أن تكون الضغوط التي مارسها نــتــنــي­ــاهــو عــلــى إدارة بــــايـــ­ـدن، عــبــر الــلــوبـ­ـي الصهيوني القوي في الواليات املتحدة، هي من األسباب األكثر أهمية التي أدت إلى تعثر وجـمـود هــذه املـفـاوضـ­ات، وحـالـت حتى اآلن دون عـــودة الـــواليـ­ــات املــتــحـ­ـدة لــالتــفـ­ـاق. غير أن الـقـول بمحورية ملف إيـــران الــنــووي، في سياق تنامي العالقات الصراعية بني إيـران وإســرائــ­يــل، ال يعني أبـــدًا التقليل مـن أهمية املـلـفـني اآلخـــريـ­ــن، أي املــلــف الــخــاص بـبـرنـاج إيــــران للتسلح الــصــارو­خــي واملــلــف الـخـاص بنفوذ إيران اإلقليمي، وكلها ملفات مترابطة ومــتــداخ­ــلــة، بــدلــيــ­ل أن إدارة بـــايـــد­ن حــاولــت إدخالهما فـي مـفـاوضـات الــعــودة األميركية إلى اتفاق ،2015 وهو ما رفضته إيران رفضا قــاطــعــ­ا. فــقــد حــرصــت إيـــــران حــرصــا شــديــدًا، لـيـس عـلـى تـحـديـث بـرنـامـجـ­هـا الــصــارو­خــي إلــى أقـصـى مــدى ممكن فحسب، وإنــمــا على تزويد حلفائها في لبنان وفلسطني واليمن والــــعــ­ــراق بــعــديــ­د أنــــــوا­ع األســـلــ­ـحـــة الـحـديـثـ­ة التي نجحت في تطويرها، أيضا. لقد تبنت إسرائيل في مواجهة إيـران سياسة ببعدين رئيسيني. يستهدف األول تغيير النظام في

إيران بالقوة، بالتعاون مع الواليات املتحدة إن أمكن، أو بمفردها إذا لزم األمـر، من خالل تـــوجـــي­ـــه ضــــربـــ­ـة عـــســـكـ­ــريـــة شـــامـــل­ـــة لـجـمـيـع املـــنـــ­شـــآت الــــنـــ­ـوويــــة اإليـــــر­انـــــيــ­ـــة. ويــســتــ­هــدف الثاني العمل على تقويض ومحاربة النفوذ اإليراني املتغلغل في جوارها املباشر، خاصة في لبنان وسورية وفلسطني، وذلك من خالل تـوجـيـه ضــربــات إجـهـاضـيـ­ة مـسـتـمـرة، ليس إلى وكالء إيران في املنطقة فقط، وإنما أيضا لــــأفـــ­ـراد اإليـــران­ـــيـــني الـــذيـــ­ن يـــقـــوم­ـــون بـمـهـام التدريب أو التسليح أو تقديم املشورة لهؤالء الوكالء. وقد فعل نتنياهو كل ما في وسعه إلقناع اإلدارات األميركية املتعاقبة باملشاركة مع إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة تؤدي إلى تغيير النظام في إيــران، ورغـم فشله في تحقيق هذا الهدف حتى اآلن، إال أنه لم يكف مطلقا عن القيام بعمليات تخريب داخل إيران نفسها، شملت تعقب وقتل العلماء النوويني، وشن هجمات سيبرانية، والعمل على إثارة االضـطـراب­ـات الداخلية فـي إيـــران. كما شنت إسرائيل، في الوقت نفسه، حمالت عسكرية موجعة على حلفاء إيران في املنطقة، السيما حزب الله في لبنان، وكل من حركتي حماس والـــجـــ­هـــاد اإلســــال­مــــي فــــي قـــطـــاع غـــــــزة. وفـــي مواجهة هذه السياسة اإلسرائيلي­ة، اعتمدت إيـران سياسة «الصبر االستراتيج­ي»، وهي سياسة تقوم على محاولة تحجيم الصراع مــع إسـرائـيـل عـنـد مـسـتـويـا­ت يمكن التحكم فيها، وال مانع من القيام بعمليات تكتيكية للرد على االستفزازا­ت اإلسرائيلي­ة مباشرة أو مـن خــالل حلفائها فـي املنطقة، ولكن من دون الـسـمـاح إلســرائــ­يــل بـاسـتـدرا­جـهـا نحو مـواجـهـة عـسـكـريـة مــبــاشــ­رة. ويــعــود السبب في تبني إيــران هذه السياسة إلى اعتقادها أن الــوقــت يعمل لصالحها، وأن مصالحها االسـتـرات­ـيـجـيـة تتطلب الـعـمـل بــأنــاة وصبر الســــتــ­ــكــــمــ­ــال مـــــقـــ­ــومـــــا­ت الـــــبــ­ـــنـــــا­ء الـــــداخ­ـــــلــــ­ـي، خـــصـــوص­ـــا مـــــا يـــتـــصـ­ــل مـــنـــه بـــالـــب­ـــرنـــام­ـــجـــني الــــنـــ­ـووي والــــصــ­ــاروخــــ­ي، مــــع الــــتـــ­ـصــــدي، فـي الـــوقـــ­ت نــفــســه، لــلــعــق­ــوبــات األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة. وقــد استمر الحال على هذا املنوال إلى أن ارتكب نتنياهو حماقة ضــرب القنصلية اإليرانية في دمشق. هنا، أدركت إيران أن إسرائيل ترى فــي سـيـاسـة «الـصـبـر االسـتـرات­ـيـجـي» عالمة ضعف ترجح أن تدفع إسرائيل إلى التمادي واالســـتـ­ــمـــرار فـــي الـتـصـعـي­ـد، ومـــن ثـــم عليها أن تــرد لتثبيت قواعد االشتباك السابقة أو حتى لتغييرها وإرســاء قواعد جديدة تقوم على الردع الحقيقي واملتبادل. رأت تحليالت عربية نشرت عقب الهجوم اإليراني املباشر على إسرائيل فيه «مسرحية هزلية»، بدليل ضخامة الهجوم وضحالة الخسائر الناجمة عنه، غير أن هذا النوع من التحليالت ينطلق مــــن دوافــــــ­ـع طـــائـــف­ـــيـــة، وبـــالـــ­تـــالـــي يــعــجــز عـن ولـــوج عـمـق األشـــيــ­ـاء، وتمحيص تأثيراتها االستراتجي­ة والجيوسياس­ية. واألرجـــح أن إيـران أرادت من هذه الضربة إيصال رسائل مــفــادهـ­ـا؛ أنــهــا قــــادرة عـلـى الـــوصـــ­ول إلـــى كـل مـــكـــان فـــي األراضــــ­ـــي الـفـلـسـط­ـيـنـيـة املــحــتـ­ـلــة، وعـــلـــى إلـــحـــا­ق األذى بـــإســـر­ائـــيـــل، وبـــأنـــ­هـــا ال تخشى الحرب واملواجهة الشاملة، وتحرص على تجنبها، لكنها ستخوضها بـكـل عزم وإصـــــرا­ر إن فــرضــت عـلـيـهـا، خـصـوصـا أنـهـا وجهت ضربتها في وقت تواجه فيه إسرائيل مــــأزقــ­ــا يــعــكــس هــشــاشــ­تــهــا االســتــر­اتــيــجــ­يــة. فـإسـرائـي­ـل فشلت مــن قـبـل فــي مـنـع «طـوفـان األقـــصــ­ـى»، وعــجــزت فــي مـــدى أكــثــر مــن ستة أشـــهـــر عــــن تـــدمـــي­ـــر «حــــمــــ­اس» أو اســـتـــع­ـــادة األسرى أو إجبار الفلسطينين­ي على مغادرة أرضـهـم. وهــا هـي تعجز الـيـوم عـن التصدي وحدها لهجوم إيراني محدود، نجح رغم كل شــيء فـي الـوصـول إلــى قواعدها العسكرية، فــي قـلـب األراضــــ­ـي الفلسطينية املـحـتـلـ­ة في ،1948 وتم استنفار كل أجهزة الدفاع الغربية وأنظمتها املـوجـودة في املنطقة لصده، بما فـــي ذلــــك األنـــظــ­ـمـــة األمـــيــ­ركـــيـــة والــبــري­ــطــانــي­ــة والـــفـــ­رنـــســـي­ـــة، بــــل أســـهـــم­ـــت دول عـــربـــي­ـــة فـي حــمــايــ­ة إســـرائــ­ـيـــل، وكـــلـــه­ـــا عـــوامـــ­ل تـــزيـــد من استحكام املأزق االستراتيج­ي الذي تواجهه إسـرائـيـل على مختلف الـصـعـد. فـــإذا أضفنا إلـــى مـــا تـــقـــدم أن املـجـتـمـ­ع اإلســرائـ­ـيــلــي، بما فـيـه نخبته الـسـيـاسـ­يـة، منقسم عـلـى نفسه في زمـن حــرب، ألول مـرة في تاريخ الحروب اإلسرائيلي­ة، ألدركنا أن كل الخيارات املتاحة أمام إسرائيل في اللحظة الراهنة تبدو سيئة. فهي، من ناحية، ال تستطيع تجاهل الضربة اإليرانية، ألن من شأن هذا التجاهل تعميق أزمتها الداخلية إلى درجة قد تهدد بسقوط حكومتها الـحـالـيـ­ة، وبـــدء مـرحـلـة املحاسبة الـتـي قــد تــطــاول الجميع. وهــي ال تستطيع، مـــن نـاحـيـة أخـــــرى، أن تــــرد بـــقـــوة، ومـبـاشـرة في األراضي اإليرانية، ألن ذلك قد يؤدي إلى توسيع نطاق املواجهة وتحولها إلـى حرب إقـلـيـمـي­ـة شــامــلــ­ة، وهـــو مـــا سـتـسـعـى اإلدارة األميركية، التي تستعد النتخابات رئاسية شـديـدة الصعوبة والحساسية، إلــى تفاديه بكل الطرائق املمكنة. أخلص مما تقدم إلى أن دخول إيران مباشرة على خط املواجهة املسلحة مع إسرائيل، ألول مرة في تاريخ البلدين، ستكون له تداعيات هائلة على مـسـار الــصــراع­ــات املـتـداخـ­لـة في املنطقة، ســـواء اكتفت إسـرائـيـل بــالــرد أمس على الضربة اإليرانية أو لم تفعل، وسيؤدي فـــي الـــوقـــ­ت نــفــســه إلــــى تـثـبـيـت االســتــق­ــطــاب الــــقـــ­ـائــــم فـــــي املـــنـــ­طـــقـــة حــــالـــ­ـيــــا، بـــــني مـــحـــور املقاومة الـذي أصبحت إيــران تقوده رسميا وعـلـنـا واملـــحــ­ـور الـــداعــ­ـم للهيمنة األمـيـركـ­يـة واإلسرائيل­ية، وهو ما قد يشكل خطرًا داهما على مستقبل الدول العربية املشاركة فيه.

وصف الهجوم اإليراني على إسرائيل بـ«مسرحية هزلية» تحليل ينطلق من دوافع طائفية، فيعجز عن ولوج عمق األشياء، وتمحيص تأثيراتها االستراتيج­ية والجيوسياس­ية

دخول إيران مباشرة على خّط المواجهة المسلحة مع إسرائيل، ألول مرة، ستكون له تداعيات هائلة على مسار الصراعات المتداخلة في المنطقة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar