الفلسطينيون والبحر
تـبـلـغ درجــــة الـــحـــرارة فــي مـديـنـة ديـــر الــبــلــح، قلب قـــطـــاع غـــــزة، نــحــو 25 درجـــــة مـــئـــويـــة. املـــكـــوث في خيام النزوح بالنسبة للفلسطينيني هناك لم يعد محتما فـي هــذا الـحـر، فذهبوا إلــى البحر. حدث هــذا يــوم 17 إبريل/نيسان الـحـالـي. ذهـبـوا نساء ورجــــاال وأطـــفـــاال، مصطحبني معهم حيواناتهم األليفة، وكراتهم، وشباك الصيد. نصبوا شبكة في مكان ما على الشاطئ، ولعبوا كــــرة الـــطـــائـــرة، ولـــعـــب األوالد كــــرة الـــقـــدم. وسـبـح الجميع فــي بـحـر كـــان مــن املـمـكـن أن يـتـحـول، في
ٍٍ لـحـظـة، إلـــى بـحـر مــن دم، لــو قـــرر جـيـش االحـتـال اإلســرائــيــلــي أن يـضـيـف إلـــى رصـــيـــده فـــي اإلبــــادة الجماعية التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني، مجزرة أخرى. لكن، حمدًا لله، لم يحدث هذا. في 17 إبريل الحالي، شــارك كثيرون على مواقع التواصل االجتماعي صورًا قالوا إنها على شاطئ مدينة ديــر البلح. لـم يـصـدق أحــد أن هــذه الصور التقطت في التاريخ املـذكـور. اعتقدنا أنها تعود إلى ما قبل العدوان على قطاع غـزة. لكن، الصور كــانــت فـــي ذلـــك الــتــاريــخ فـــعـــا، والــتــقــط معظمها مصور وكالة األناضول، أشرف أبو عمرة، إضافة إلى صور أخرى تعود إلى وكالة فرانس برس. مـن سـيـصـدق أن شعبًا يـتـعـرض إلــى حــرب إبــادة جماعية متواصلة منذ ستة أشهر، سيجد فسحة كـــهـــذه، ويـــأمـــن الـــبـــحــر؟ نــــرى فـــي الـــصـــور أطـــفـــاال يقفزون على الترامبولني، ونــرى شبانًا يلعبون كرة القدم، وآخرين كرة الطائرة، إلى جانب شبان يــــروضــــون خــيــولــهــم، وآخــــريــــن يــعــلــمــون كـابـهـم مــهــارات جــديــدة. نــرى شعبًا يحيا سـاعـاتـه هـذه، حتى مغيب الشمس، كما لو أن شيئًا لم يكن. معظم هؤالء نازحون، جاؤوا من مدن أخرى إلى دير البلح، وسكنوا خيامها، في انتظار انتهاء هذا العدوان، على أن يعودوا بعدها إلى مدنهم املــجــاورة. مـــروا بشتاء قــاس أمـضـوه فـي الـعـراء، يعصف بهم البرد، وصوت الصواريخ التي تلقي بها طائرات جيش االحتال اإلسرائيلي على ما تبقى من مبان. من ينظر إلـى الصور لن يستوعب أن من ينظر إليهم هـم أبـنـاء شعب يــرزح تحت وطــأة اإلبــادة الـجـمـاعـيـة. سـيـظـن أنــهــم مـجـمـوعـة مــن الـسـيـاح يمضون وقتًا مسليًا فـي بلد مــا. نـــادرًا أن يجد شعب مـا حـيـزًا على البحر وشاطئه للفرح، في
مع ارتفاع درجات الحرارة في دير البلح اختار الغزيون البحر ظــل تــعــرضــه إلـــى إبــــادة جـمـاعـيـة، خـصـوصـًا أن الـصـور التي تأتينا عــادة مـن قطاع غـزة ال نرى فيها سوى الدمار والشهداء. صـور تتكرر باملحتوى نفسه تقريبًا؛ فالبيوت املدمرة تغدو بيتًا واحدًا في مكان مثل قطاع غزة. وحتى صـور الشهداء تصبح واحـــدة. قبل أيـام، فاز مصور وكالة رويترز، محمد سالم، بجائزة أفـضـل صـــورة صحافية عـاملـيـة لـعـام ،2024 عن صورة التقطها المرأة فلسطينية تحتضن جثة ابنة أخيها البالغة من العمر خمس سنوات في قطاع غزة. هذه الصورة الفائزة شاهدنا كثيرًا مثلها؛ نساء ورجال يحتضنون أطفاال شهداء، ويبكون. هذه الـــصـــور لـــو جـمـعـنـاهـا كـــكـــوالج سـنـمـنـح الـعـالـم صــــــورة لـــقـــطـــاع غـــــزة كــــامــــا، بــبــيــوتــه املـــهـــدمـــة، وشهدائه، والـرجـال والنساء الذين يبكون على ما فقدوه، واألطفال الذين أمسوا يتامى... لــهــذا، لــن يــصــدق أحـــد أن هـــؤالء الــذيــن يمضون وقـتـًا على شـاطـئ البحر هـم أنفسهم مـن فقدوا باألمس بيوتًا بنتها الـذكـريـات، وهـم من فقدوا عائات وأصدقاء، وحتى أعضاء من أجسادهم. هؤالء الذين يمضون إلى البحر، ماذهم الوحيد، كـي ينسوا 17 عامًا مضت وهـم محاصرون في زاويــــة ضيقة مــن هـــذا الــعــالــم... كــي يـنـسـوا ستة أشــهــر مــن اإلبـــــادة، كــي يـمـضـوا مــع الـشـمـس في مغيبها، ويعودوا في الصباح.