الجوع إلى الحوار
سجاالت عابرة تنتهي بنهاية الوقت الُمحّدد قد يقول قائل إّن الحوارات أكثر من الهم على القلب، لكن هذا فهم قاصر، إذ يغفل أّن الوفرة تستحيل شّحًا حين ال تترافق مع جوهر معنى الحوار
ليست عبارة «إننا محكومون باألمل» التي ذكرنا (وقرعنا) بها الراحل سعد الــلــه ونــــوس وحــدهــا الــتــي تـسـتـحـق أن نـــتـــذكـــرهـــا ونـــتـــأمـــلـــهـــا ونـــعـــمـــل بـــهـــا مـا استطعنا. الـسـيـاق مـهـم أيــضــا، إذ تـرد العبارة في رسالة «يوم املسرح العاملي» الـــتـــي كــتــبــهــا عــــام ،1996 بـتـكـلـيـف من «املعهد الدولي للمسرح». ليس السياق وحــده، بل العنوان الـذي انتقاه ونـوس بــكــامــل وعـــيـــه: «الــــجــــوع إلــــى الــــحــــوار». وإن كــــــان ونـــــــوس قـــــد اخـــــتـــــار املـــســـرح بــطــبــيــعــة الــــحــــال وســـيـــلـــة إلشــــبــــاع ذلـــك الجوع املضني، غير أننا في حاجة إلى أمـــر آخـــر ال يـقـل أهـمـيـة، أي الــحــوار في ذاتـــه. وال أقـصـد، هـنـا، حـــوار املنتديات واملـــؤتـــمـــرات، عـلـى أهـمـيـتـه، بــل الــحــوار بمعناه البسيط، بخاصة الحوارات مع املثقفني والفنانني والكتاب. قـــد يــقــول قــائــل إن الــــحــــوارات أكــثــر من الـــهـــم عــلــى الـــقـــلـــب، بــيــد أن هــــذا الـفـهـم قـــاصـــر، إذ يــغــفــل أن الـــوفـــرة تستحيل شـحـا حـني ال تـتـرافـق مـع جـوهـر معنى الـــحـــوار. فــالــحــوار لـيـس مـحـض أسئلة مـكـرورة عـن طقوس الكتابة، أو تاريخ إصدار هذا الكتاب أو ذاك، أو مدى قرب هــذه الشخصية أو تلك مــن املــؤلــف، أو ســّر وجـــود ثــاث بقع حـمــراء فــي جسد اللوحة، أو اجترارًا للمّرة األلف لـ«أزمة النص» و«أزمة الشعر» و«أزمة الكتابة» و«أزمة القراء ة». األنكى أن تطور وسائل الحوار لم يتواز مع تطور ملاهية الحوار؛ لـم يعد إجـــراء الــحــوارات مقصورًا على صحافيني ينتظرون فتات االستكتاب، بــــل قــــرأنــــا وســمــعــنــا كـــتـــابـــا يــــحــــاورون كــتــابــا، وفــنــانــني يـــحـــاورون فــنــانــني من دون أن تتحسن الصورة والنتاج. وكذا األمــــر مــع الــبــودكــاســت الــــذي بـــات عمل من ال عمل له. يكفيك ميكروفون وقناة يـــوتـــيـــوب أو ســــاونــــدكــــاود كـــي تــدخــل جنة الثقافة الجديدة في عصر الصوت والصورة والسوشل ميديا. أيــــن املــشــكــلــة إذن؟ ال بــــد لـــنـــا، هـــنـــا، من الـــــعـــــودة إلـــــى الـــبـــدهـــيـــات وإلــــــى ألــفــبــاء الـــحـــوار. مـــا مـعـنـى الـــحـــوار وجـــــدواه إن كان الطرف األول يجهل كل شيء تقريبا عــن الــطــرف الـثـانـي؟ ومــا معنى الـحـوار وجـــدواه إن كـان املــحــاورون ال يكترثون للحوارات السابقة التي تحدث فيها هذا الكاتب أو تلك الكاتبة، وكـــأن الشطارة والفهلوة باتت إعادة اختراع للعجلة من جديد، أو كأن املتلقي سيهمه استعراض معلومات شخصية أو عامة نجدها في ويكيبيديا، أو أي مـوقـع إلكتروني من مواقع املؤسسات الثقافية. بتنا نتابع الحوارات من أجل اإلجابات ال مـــــن أجــــــل األســــئــــلــــة، بــــخــــاصــــة حــني يـتـمـلـمـل الــضــيــوف (وهـــــم مــحــقــون في الغالب) ويشرعون في تصحيح األسئلة قـبـل أن يــجــيــبــوا، لــيــبــاغــتــوا فــجــأة بــأن الوقت انتهى، ألن الحوار محكوم بوقت محدد، بحجة أن عصرنا عصر السرعة، ولـــيـــس لــــدى «الـــجـــمـــهـــور» وقــــت طــويــل لاستطرادات. ما محل االستطراد إذن إن لـــم يــكــن فـــي الــــحــــوارات؟ ومـــا أهمية أي تجربة ثقافية أو أدبـيـة أو فنية إن كــان يمكن اختزالها فـي حـــوار مسلوق في ساعة أو في ألفي كلمة؟ وكيف لنا أن نستغرب نفور الناس من الحوارات بـعـد أن بــاتــت مـتـمـاثـلـة، فـاألسـئـلـة هي األسئلة، واإلجابات هي اإلجابات؟ لـــــيـــــس الــــــــذنــــــــب ذنــــــــــب فـــــتـــــى أو فــــتــــاة بميكروفون أو بفسحة ضيقة يفرضها الــنــاشــر واملــــمــــول وصـــاحـــب املــؤســســة،
بـــل ذنــــب الـــضـــيـــوف أيـــضـــا إذ ارتـــضـــوا مـكـانـهـم ذاك ألســبــاب عــــدة لـيـس أقـلـهـا «أهـمـيـة الــحــضــور»، واغـتـنـام الـايـكـات والـدوالرات. حضور كالغياب بل أدهى، ووفرة كالشح أو أنكى، بينما نحن نكرر أننا في أزمة مع أننا سببها الرئيس أو أحدها على األقل. مـــن مــنــا يــتــذكــر حــــــوارًا؟ ال أحــــد، ألنــهــا حــــوارات عــابــرة تنتهي بنهاية وقتها املحدد. ولو تذكرنا حوارًا من الحوارات ســــنــــدرك عـــلـــى الــــفــــور أن ذلـــــك الـــحـــوار قديم، وال يشبه حواراتنا الجديدة في عـصـر الــســرعــة. لـعـلـنـا نــتــذكــر حــــوارات جــمــال الـغـيـطـانـي مــع نجيب محفوظ، أو مـــاري الـيـاس مـع سعد الـلـه ونــوس، أو بعض حــــوارات بــاب «وجـهـا لوجه» فــي مـجـلـة «الــعــربــي» الـكـويـتـيـة. نتذكر
ال بد لنا من العودة إلىّ البدهيات وإلى ألفباء الحوار
ونــتــحــســر عــلــى الـــزمـــن الـــــذي فـــــات، من دون أن نـتـعـمـق فـــي فــهــم ســــر تــذكــرنــا لتلك الــحــوارات القديمة. نتذكرها ألن الـطـرفـني يـتـسـاجـان، وال يكتفي األول بـــدور «الـسـنـيـد» للثاني؛ نتذكرها ألن املحاور يعرف تجربة الضيف كلها أو جلها؛ نتذكرها تحديدًا ألنها ال تشبه ما اعتدنا. ليس الحوار طبطبة أو مديحا، وليس الحوار أسئلة تمهد لتنظير الضيف، إذ ما فائدة وجود املحاور إن كان الضيف سيتحدث وحـــده؟ ثمة جــوع ال يشبعه «الـــفـــاســـت فــــــود» وكـــبـــســـوالت الــثــقــافــة السريعة، جـوع أدركــه ونــوس، وإن كان قـــد فـــكـــر بــاملــســرح وحــــــده. لـــن يـضـيـرنـا إحـــال كلمة «الـــحـــوار» مـحـل «املــســرح» في رسالته تلك: «إن املسرح في الواقع هــو أكـثـر مــن فـــن، إنـــه ظــاهــرة حضارية مــركــبــة ســـيـــزداد الــعــالــم وحــشــة وقبحا وفقرًا لو أضاعها وافتقر إليها». يعلم الــلــه أنـــنـــا لـسـنـا فـــي حــاجــة إلـــى وحـشـة وقبح وفقر، إذ إننا في «أزمة» كما نردد فــي كـــل حــــوار، غـيـر أن تـلـك األزمــــة أزمــة حوار قبل أي شيء آخر.