ال وداع إذن للشهداء
البيت في الوعي الفلسطيني مكان المقاومة واأللَم واألمل. مكان الصمود وكتابة الشعر. مكان النضال، وجيل يُسِّلم الرَّاية لمن يليه
في هذه اإلبــادة، لم يتمكن أحد ممن أعرف أو ال أعرف، من توديع حبيب له ارتقى. فما
ٍُ أكـثـر الـشـهـداء، بينما املـقـابـر كلها خرجت عن الخدمة. خالي حسان مات من البرد ونقص الدواء، هـــو كــبــيــر الـــقـــوم، وكـــــان شــهــد نـكـبـتـن في عمر واحــد، فدفنوه على جـدار الحدود مع مــصــر. عـلـى الـــجـــدار تــمــامــا، حـيـث ال تبعد خيمتهم عنه ســوى أمـتـار. أخـتـاي رشدية وكـوثـر وضـــع جثماناهما فـي رقـعـتـن من الــتــراب، على مـا تيسر. واحـــدة فـي جباليا تـــحـــت شــــجــــرة، والـــثـــانـــيـــة فــــي ديــــــر الــبــلــح بجوار عراء ما كان إسفلتا. (مع أنها تسكن املــــغــــازي، وكـــانـــت نـــزحـــت إلــــى خــانــيــونــس ورفــح مـن قـبـل). ال شـاهـدة وال حتى كتابة على القبرين. ناهيك عـن عـشـرات مـا زالــوا تحت ركـام بيوتهم، منذ شهور. ابن أختي نبيل وعـشـرة أشـخـاص مـن أوالده وبناته وأحـــــفـــــاده، كــــذلــــك، ابــــــن عـــمـــي حـــاتـــم فــريــد وعائلته كلها، وهلم جرا. ال وداع إذن للشهداء. لكن هنالك وداعا آخر ممكنا: وداع البيوت. ملـــا خـــرجـــت بـنـتـاي مـــي ومـــايـــا بأطفالهما مـــن عـتـبـة الــبــيــت، نـــازحـــتـــن نــحــو مــدرســة «الــســت ســهــام»، قبالة «مستشفى ناصر» بـخـانـيـونـس، وبــعــد ذلـــك نـحـو خــيــام رفــح، في منطقة شمال شرق املدينة، وفي غربها قـريــبــا مـــن مـــواصـــي الــبــحــر، اتــصــلــت بهما ورجـوتـهـمـا: عـــودا وودعـــا البيت، وخـــذا له عـــدة صــــور، قـبـل أن يــمــوت، وأرســـاهـــا لـي، فكم أنا مشتاق ألراه في آخر نظرة. لم يسمح الوضع العسكري لهما بالعودة. وفي ما بعد عرفت أن بعض فتيان الجيران الـبـاقـن، أخــــذوا الكثير مــن الكتب للخبيز والـــطـــبـــخ، فـانـبـسـطـت والــــلــــه. إنـــمـــا لـــم تـمـر ثاثة أسابيع إال وعـرفـت أن جيش العدو
حتى تتحقق العودة العادلة والمشروعة: كل إلى مدينته أو قريته
تـمـركـز فــي الـبـيـت، وحـــرق املكتبة (حـوالـي 12 ألف كتاب)، ثم ملا خرج من املكان، سواه باألرض، كما هو حال جميع بيوت الشارع. وهــــا هـــو الــبــيــت راح، ولـــيـــس فـــي الـــجـــراب إال القليل مـن الــصــور، فـي جــــواالت األوالد والبنات والحفيدات، ال عندي. لقد وصلني فقط مقطع فيديو وجيز، بعد الهدم. ترى: مـا هـو البيت فـي الـوعـي الفلسطيني بعد النكبة؟ إنــه مـكـان الـلـجـوء. مـكـان املـقـاومـة. مــــكــــان الـــــــــرزق. مــــكــــان األلـــــــم واألمــــــــل. مـــكـــان الــــصــــمــــود وكــــتــــابــــة الــــشــــعــــر. مـــــكـــــان مـــلـــيء بــالــذكــريــات والــتــطــلــعــات. مـــكـــان الـلـحـظـات واألحـاديـث وأحـام اليقظة. مكان النضال، وجيل يسلم الراية ملن يليه. مـــكـــان الـــجـــمـــاعـــة. مـــكـــان تــــــؤوي فــيــه عــابــر الــســبــيــل، عــنــدمــا ال يــكــون لـــه مـــكـــان، تحت شــمــس الـــلـــه. مـــكـــان لـلـحـيـاة واملــــــوت. مــكــان يـسـتـر نـفـقـا، لـخـيـرة أبــنــاء شـعـبـك، هـنـا أو هـــنـــاك. مـــكـــان لـــكـــل مـــا هـــو ألـــيـــف ومــعــهــود وحـمـيـمـي. وقـبـل كـــل شـــيء، فـــإن الـبـيـت في وعـــي األجـــيـــال، هــو مــكــان لـإقـامـة املـؤقـتـة، ولو طالت دهـورًا، فنحن هنا باقون لألبد، بفضل أبطال مقاومتنا، حتى يــدور األفـق املائل، وتتحقق العودة العادلة واملشروعة: كل إلى مدينته أو قريته. ًّ الــلــهــمعـــوضـــنـــا عـلـيـك يـــا كـــريـــم، فـهـيـئ لنا خيمة ولــو على األنــقــاض، إلــى أن يتحقق الهدف األعلى ونعود إلى «نجد»، ماسحني
ُِ عنها وسخ اسمها العبري: «سيدروت».