Al Araby Al Jadeed

الرسائل الخطيرة في «كسر عضم»

- أحمد البرهو

في املستوى السياسي، يمكن التمييز بني نــظــام ديــمــقــ­راطــي وآخــــرّ غــيــر ديـمـقـراط­ـي مـــن خــــال الــنــظــ­ر فـــي آلـــيـــة الــــوصــ­ــول إلــى ذروة السلطة وممارستها. لكن املستوى السياسي يمثل أيضًا ذروة االختاف بني ثقافة الحرية والديمقراط­ية، واالستبداد ثــقــافــ­ة ومـــمـــا­رســـة، فــي حــني ثــمــة مستوى ثقافي يمكن من خاله التعبير عن نظام بشار األســد مثا، بوصفه خطاب سلطة غير شرعية تتحكم بـالـسـوري­ـني، ويمكن من خال املستوى الثقافي أيضًا، التعبير عن ثورة الحرية بوصفها خطابًا مناهضًا

ّّ لتلك السلطة وثقافتها. يمكننا التعرف إلــى املــؤيــد­يــن واملــعــا­رضــني سياسيًا عبر مـاحـظـة االصــطــف­ــافــات املــعــلـ­ـنــة، لـكـن هل يــمــكــن الــتــمــ­يــيــز بــــني عـــمـــل ثـــقـــاف­ـــي وآخــــر بالطريقة ذاتها؟ مع انطاقة الثورة السورية، قدم الفنان الـــســـو­ري املـــعـــ­ارض سـمـيـح شـقـيـر عمله الفني «يــا حــيــف»، العمل الـــذي لــم تذكر كلماته «بشار األسـد» باالسم، ولم يكرر هتاف السوريني: «الشعب يريد إسقاط الـنـظـام»، بـل استلهم املـبـدع مـن الـشـارع تــوجــهــ­ه، واتـــكـــ­أ عــلــى املـــوقــ­ـف اإلنــســا­نــي لينتج مقوالت ثقافية مناهضة للنظام الذي يدير ظهره لألعداء، ويقتل الشعب واألطفال. ومن ناحية املبدأ، ليس العمل الــثــقــ­افــي، األدبـــــ­ـي أو الـــفـــن­ـــي، مـخـصـصـًا لطرح املوقف السياسي بالطريقة التي يطرحها حـزب أو تكتل سياسي، وحني نــكــون فــي خــضــم صـــراع قـيـمـي، كـمـا هو حال الشعب السوري مع نظامه الحاكم، فإن العمل الثقافي يغدو ميدانًا ملمارسة األطــــرو­حــــات الــثــقــ­افــيــة، فــالــنــ­ظــام الـقـائـم على حكم النخبة املنتهية إلـى «القيادة الـحـكـيـم­ـة»، سـيـطـرح غـالـبـًا ثـقـافـة تـبـرر نـمـوذج حكمه الـسـيـاسـ­ي، منها تمجيد شـــخـــصـ­ــيـــة الـــبـــط­ـــل الـــــفــ­ـــرد فـــــي األعــــمـ­ـــال الـــدرامـ­ــيـــة، ذلـــك الـبـطـل الـــذي فــي وجـــوده

ّّ يكون الخير كله، وفي غيابه يكون الشر كــلــه، فــ«الـبـطـل» هــو املــعــاد­ل املـوضـوعـ­ي لـ«القيادة الحكيمة». ويمكن للنظام الحاكم في سورية، بقانون الــطــوار­ئ منذ ،1962 ثــم بقانون مكافحة اإلرهـــــ­ـاب مــنــذ ،2012 وبــذريــع­ــتــي حماية الشعب واالسـتـقـ­رار، أن يـــروج عبر أعمال ثقافية نمطًا ثقافيًا يـبـرر «املـنـع بذريعة الحماية»، فيظهر كل من تجاوز املانع، في العمل الثقافي، نـادمـًا وخــاســرًا، فيصبح املـــــــ­زاج الــشــعــ­بــي أكـــثـــر تـــقـــبـ­ــا ملـــمـــا­رســـات سلطة منع الناس من حقوقهم األساسية واملدنية، بذرائع حماية مختلفة. كــــان الـــنـــظ­ـــام الــــســـ­ـوري يــحــتــك­ــر مـسـاحـة الـتـأثـيـ­ر فــي الــــرأي الـــعـــا­م، إال أن انتشار الـفـضـائـ­يـات واملــواقـ­ـع اإللـكـتـر­ونـيـة كسر ذلك االحتكار. ومع انطاق الثورة، بدأت مـــشـــار­يـــع إعـــامـــ­يـــة مــــعــــ­ارضــــة، نضجت وتــحــتــ­م عليها مــنــازلـ­ـة الــنــظــ­ام، ثـقـافـيـًا، فـي الـسـاحـة الـسـوريـة خصوصًا، وكسر الحواجز املادية والثقافية التي صنعها النظام ألسر جزء من سورية والسوريني، ونــبــذ جـزئـهـمـا اآلخــــر، مــا جـعـل مــن تلك املــــشــ­ــاريــــع اإلعــــام­ــــيــــة املـــــعـ­ــــارضـــ­ــة أمــــام مسؤولية صياغة خطاب ثقافي سوري

مسؤول أمام الـرأي العام بوصفه الجهة املوجهة. أخـــيـــرًا، انــتــهــ­ى بــــث حــلــقــا­ت «كــســر عضم »2 عـلـى «تـلـفـزيـو­ن ســـوريـــ­ا» (وتـلـفـزيـ­ون الــــعـــ­ـربــــي 2)، بــــعــــ­د اعــــــتـ­ـــــراض نـــاشـــط­ـــني معارضني لنظام األســد على بـث حلقات مـسـلـسـل وصـــفـــو­ه بــــ«املـــؤيــ­ـد» عــلــى قـنـاة مـــعـــار­ضـــة. وأثـــــار املـــعـــ­تـــرضـــو­ن اتـهـامـات طـــاولـــ­ت املـــحـــ­طـــة وإدارتــــ­ـهـــــا، املــعــرو­فــتــني بـــانـــح­ـــيـــازه­ـــمـــا لــــثــــ­ورة الــــســـ­ـوريــــني، حـتـى كــــاد بــعــض الـــــرأي الـــعـــا­م يــتــوهــ­م وصـــول املعترضني إلـى اكتشاف حقائق خطيرة بشأن املسلسل قبل اكتمال عرض نصف حلقاته الثاثني أو أنـهـم تمكنوا مـن فك

َُ «شيفرة» رسائل خطيرة أرسلها النظام عبر املسلسل الخـتـراق املجتمع السوري الــثــائـ­ـر، فـأخـذ املــعــتـ­ـرضــون عـلـى عاتقهم مهمة حماية السوريني من التعرض لتلك الرسائل الخطيرة )!( وبعيدًا عن النكاية، لـــعـــل بــإمــكــ­انــنــا، بــعــد مــتــابــ­عــة الــحــلــ­قــات كــــامـــ­ـلــــة، تـــقـــدي­ـــم كـــلـــمـ­ــة بــــشــــ­أن املـــعـــ­الـــجـــة الدرامية للمسألة القانونية في سورية، كما قـــدم لها «كـسـر عضم .»2 فاملسلسل يعالج فترة جاءت ما بعد «ثـورة ،»2011 حـني هيمن قـانـون الــطــوار­ئ، ثــم مكافحة اإلرهاب، على الشعب السوري واملؤسسة القانونية طوال حكم نظام «املنع بذريعة الحماية». وتمثلت سلطة الحماية واقعيًا باملؤسستني العسكرية واألمنية، ومن ثم، نـشـأ تـحـالـف واقــعــي بــني «الـفـسـاد واملـــال وسلطة األجهزة األمنية»، وكـان مرجحًا أن يلتف ذلـك التحالف فنيًا أيضًا، حول األجــــهـ­ـــزة األمـــنــ­ـيـــة مــــحــــ­ورًا أوال لـلـفـسـاد

العمل الثقافي، األدبي أو الفني، ليس مخصصًا لطرح الموقف السياسي بالطريقة التي يطرحها حزب أو تكتل سياسي، بل ميدان لممارسة األطروحات الثقافيّة

والسلطة، لـذا قد يصعب على السوريني تـصـديـق أنـــه يمكن ملــحــام فــاســد، فــي ظـل غياب القانون، أن يتجاوز بفساده سلطة رجــــال املـــخـــ­ابـــرات. وفــــي ســيــاق املـعـالـج­ـة ذاتـهـا تــكــررت فـي أثـنـاء حلقات املسلسل جملة: «نـريـد تنظيف الـبـلـد» على لسان نموذج رجل األمن الفاسد، وأكثر من مرة على لسان نـمـوذج رجــِل أمــٍن غير فاسد، ولـعـلـهـا جملة ثـقـافـيـة شــديــدة الـواقـعـي­ـة وكـاشـفـة، تـؤكـد أن مـبـادرة تغيير الواقع ال تـسـتـنـد إلــــى قـــانـــو­ن، بـــل إلــــى مـمـارسـة أخـــاقـــ­يـــة (شــــريـــ­ـرة أو خــــيــــ­رة) تـخـتـزلـه­ـا مفردة «تنظيف». فـــي املـــقـــ­ابـــل، قـــد يــاحــظ املـــتـــ­ابـــع لحلقات املـسـلـسـ­ل جــــرأة الـــطـــر­ح، لــيــس فـــي تــنــاول قضايا الفساد فحسب، فهذه حيلة كانت أفرع املخابرات تسمح بمرورها في األعمال الفنية المتصاص االحتقان الشعبي منذ كـــان الــــرأي الــعــام جـهـة اسـتـهـاك فحسب، وإنما كان الجديد في نقد مقوالت أطلقها رأس الــنــظــ­ام الــســيــ­اســي، كـالـسـخـر­يـة من «نـــظـــري­ـــة املـــــؤا­مـــــرة»، الـــتـــي طـــاملـــ­ا روجـــهـــ­ا بــشــار األســــد. كـمـا قــــدم املـسـلـسـ­ل مشاهد تكشف أساليب أفرع املخابرات في اعتقال السوريني وتلفيق تهم اإلرهاب لهم، فأفقد الـــعـــر­ض تـهـمـة «اإلرهـــــ­ــاب» مـصـداقـيـ­تـهـا، التهمة الــتــي تـمـسـك بــهــا، وال يــــزال، رأس الـــنـــظ­ـــام لــتــبــر­يــر إجــــرامـ­ـــه طــــــوال ســـنـــوا­ت بــحــق الــشــعــ­ب الـــســـو­ري. ولــعــل املسلسل، الذي لم يحصل على موافقة جهة رقابية تابعة للنظام، ولقي هجوما من إعاميني وجـــهـــا­ت ثــقــافــ­يــة مـــقـــرب­ـــة مـــن الـــنـــظ­ـــام، لم يطرح، كما أشيع عنه من جهات محسوبة على الثورة، «مساواة الجاد بالضحية»، بل اتكأ العمل الدرامي على عتبة املشترك اإلنـسـانـ­ي بـني الــجــاد (رجـــال املـخـابـر­ات) والضحية (الشعب الـسـوري) ليدين عبر مـقـاربـات إنـسـانـيـ­ة مـمـارسـات الـجـاديـن، ويـــكـــش­ـــف عـــمـــق الـــشـــخ­ـــصـــيــ­ـة الـــســـل­ـــطـــويـ­ــة «الذئبوية»، إلدانتها كل مرة.

َّ ولـــــعــ­ـــل املـــســـ­لـــســـل لـــــم يــــرتـــ­ـكــــب أيــــضـــ­ـا مــا وِصـــف ّبـ«إهانة املجتمع الـسـوري واملــرأة الــســوري­ــة». عـلـى الـعـكـس تـمـامـا، فاملتابع قــد يــاحــظ أن ال إمــكــانـ­ـيــة لـتـوجـيـه إدانـــة إلــى امـــرأة واحـــدة مــن شخصيات العمل، حــتــى إلـــى نـــمـــوذ­ج املـــــرأ­ة الــتــي تـضـطـرهـا أجهزة االستخبارا­ت إلى أن تقدم جسدها سلعة، بل حمل املسلسل فساد رجل األمن مسؤولية االنــحــر­اف االجـتـمـا­عـي، ورصـد نماذج ابتزاز رجل السلطة للمرأة، إلدانة السلطة ورجالها. إذًا، فاملسلسل لم يبرئ ساحة النظام، بل أشار صراحة على لسان إحــدى الشخصيات إلــى «فـسـاد منظومة الـسـلـطـة» كـلـهـا، وفـضـح أدوات املنظومة

ُّ في التحكم بمصائر السوريني، وربط بني اإلجرام ومسؤولية الجهة األعلى في هرم السلطة، الجهة الـتـي تــكــرر مقولة: «هــازا البلد إلنا.. إلنا». ولـــعـــل مـــن أهــــم الـــرســـ­ائـــل الـــتـــي تضمنها الـــعـــم­ـــل، رســـالـــ­ة فـــســـاد الـــنـــم­ـــوذج األبــــوي للسلطة الــســيــ­اســيــة، وتـنـاقـضـ­هـا، إذ بـدا رجال السلطة: «كنعان»، و«أبو مصطفى»، و«املـــقـــ­دم إبـــراهــ­ـيـــم»، صـــادقـــ­ني وأصــحــاب مـــصـــلـ­ــحـــة حـــقـــيـ­ــقـــيـــ­ة فـــــي مــــمــــ­ارســــة املـــنـــ­ع لحماية أبنائهم الحقيقيني في املسلسل، فيما هـم غـيـر صـادقـني ولـيـسـوا أصحاب مــصــلــح­ــة فــــي مــــمــــ­ارســــة الـــســـل­ـــطـــة (املـــنـــ­ع لحماية الشعب)، بل اقتضت مصلحتهم تـصـنــيـع املــــــو­اد املــــخــ­ــدرة واالتـــــ­جـــــار بــهــا، وبــــيـــ­ـعــــهـــ­ـا لــــلــــ­شــــعــــ­ب، وجــــــــ­ـاء عــــلــــ­ى لـــســـان شـخـصـيـة مــخــابــ­راتــيــة («أبـــــو مـــريـــم»، في الحلقة الـ03) وهي تستعرض منتجها من املادة املخدرة: «الله يخليلنا العميد». هل هـذه رسائل تصب في مصلحة نظام األسد؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar