الهجوم اإليراني والرسالة األردنية
ال أظن أن أحـدًا من األردنيني كان يـود أو يرغب في أن تعترض املسيرات اإليرانية فوق سماء بلده، فالدولة والشعب معًا، في األردن، كانوا منذ بداية العدوان على غزة مع شعبها وضد جريمة اإلبادة اإلسرائيلية، وتصدر األردن الحرب الدبلوماسية مع إسرائيل، وعمل بصورة دؤوبة على نقض الرواية اإلسرائيلية، وكان أول دولة اخترقت الحاجز اإلسرائيلي بإنزال املساعدات جــوًا، وبإعالن أن أي تهجير للفلسطينيني خارج فلسطني بمثابة إعالن حالة الحرب من إسرائيل، وبالضرورة انتهاء معاهدة الـسـالم بـني الـدولـتـني. ليس مـا سبق مـن بــاب املـقـاربـة الدفاعية، لكن فقط للتذكير باملكان الذي يتموضع فيه األردن استراتيجيًا وسياسيًا في ملف العدوان على غزة، وهـو املكان الـذي التزم، وال يـزال يلتزمه األردن، حتى عند نقل السفارة األميركية إلى القدس، وإعالن الرئيس األميركي السابق، دونالد ترامب، صفقة القرن، إذ وقف األردن ضد كل محاوالت تصفية القضية، وعمل بكل طاقته دبلوماسيًا وسياسيًا فـي االتــجــاه املـعـاكـس، وكـــان فـي السياق نفسه متحفظًا على مـا يسمى «الـسـالم اإلقليمي» أو املسار اإلبراهيمي، الذي يقوم على تطبيع العالقات من دون الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية، ومن ذلك رفضه فكرة «الناتو العربي» (اإلسرائيلي العربي) في مواجهة الحلف اإليراني، حينما طرحت في دوائر إسرائيلية. إذًا، ما الرسالة األردنـيـة في التصدي للمسيرات اإليرانية فـوق األردن؟ باختصار، املسألة مرتبطة بالسيادة أوال، وهذه مسألة بديهية في السياسات بني الدول، وتمثل جزءًا من معيار االحترام والكرامة، وربما كان بإمكان األردن أن يتجاوز ذلك لو كان هنالك، مثال، استئذان إيراني مسبق أو إعالم لألردن باألمر، والعكس صحيح. فعندما اتخذ صانع القرار األردني قراره بالتصدي للمسيرات، لم تكن الرسالة إلى إيران فقط، بل أيضًا، إلـى إسرائيل والـواليـات املتحدة، كما ذكـر وزيـر الخارجية األردنـــي، أيمن الصفدي، (على قناة اململكة بعد يوم من الهجوم اإليراني)، وما قاله الرجل ليس كالمًا لدغدغة العواطف وتحسني الصورة، بل هو القرار الحقيقي في ما أعلن وما خفي من الحسابات األردنية، وداللـة ذلك أن الطائرات الحربية األردنية استمرت في التحليق في سماء عمان، خالل الليالي التالية، ملنع أي اختراق، ووصلت الرسالة واضحة إلى اإلسرائيليني، إلى أن وقع الهجوم اإلسرائيلي الغامض على إيران، ولكن بالتأكيد، لم يكن عبورًا وال مرورًا فوق األردن. ال توجد هنالك ثقة بني األردن وإيران، هذا صحيح، وتعتبر إيران األردن قاعدة أميركية متقدمة، وهذا ما يدركه صناع القرار في عمان، وواجـهـوا به اإليرانيني في نقاشات سّرية سابقة. وفـي املقابل، ليس لــألردن عـداوة جوهرية مع إيران، إنما هو إدراك بأن األجندة اإليرانية ليست ودية تجاه األردن، وأن الضربة في الحقيقة لم تكن موجهة إلنقاذ أهل غزة، بل هي، في الحقيقة، جزء من لعبة الصراع على النفوذ اإلقليمي، ولتأكيد قواعد معينة في هذا الخصوص، بعد ضربة القنصلية في طهران. بالتأكيد، لم تكن الضربة اإليرانية مسرحية، بل ذات دالالت استراتيجية مهمة. وفـي املقابل، لم يقبل األردن على نفسه أن يكون مسرحًا ملثل هذه الرسائل املتبادلة، وأن يكون معبرًا للقوات والطائرات والصواريخ، وأراد أن تكون الرسالة األردنية واضحة، ليس في املوقف من هذه الواقعة فقط، بل أمام أي تطورات محتملة، بريًا أو جوًا أو حتى بحرًا. وللتذكير، كان املسؤول األمني في كتائب حزب الله العراقي (املوالي لطهران) قد صرح قبل أيام باستعداد «املقاومة في العراق» لتجهيز مـا تسمى املقاومة فـي األردن (طبعًا ال يوجد مصطلح مثل هــذا أردنــيــًا) بأسلحة وصواريخ ملهاجمة إسرائيل وقطع الطريق البري(!) ليس املجال اآلن ملناقشة السياسات اإليرانية في املنطقة، وال تقييمها، لكن املقصود أن الضربة اإليرانية انطلقت من حسابات دقيقة جدًا ومركبة، وبالنسبة إليها مسألة النفوذ واملصالح االستراتيجية أكثر أهمية بكثير من حرب غزة، واألمر كذلك بالنسبة إلـى تركيا التي تــوارت عن األنـظـار. وعلى هـذه القاعدة، تصرف األردن لحماية أمنه الوطني، ومصالحه االستراتيجية، ولم تتزحزح قناعته بموقفه من العدوان على غزة وال من اليمني اإلسرائيلي املتصهني، وال من مخططات التهجير الخطيرة وتهويد القدس.