Al Araby Al Jadeed

اللغة األبويّة والحرب على غزّة

- سامر خير أحمد

القطع في الــرأي أبـرز سمات اللغة األبوية الـــتـــي تــقــبــع فــــي خــلــفــي­ــة مـــشـــاه­ـــد الــحــيــ­اة الــســيــ­اســيــة الـــعـــر­بـــيـــة، فــــا يـــقـــول واحـــدنــ­ـا «أنــــا أظـــن كـــذا وكـــــذا»، و«رأيـــــي الشخصي كـــذا وكــــذا»، بــل يعتبر مــا يـقـولـه صحيحًا باملطلق؛ كأنه مرآة الحقيقة التي تنتظرها جـــمـــوع الـــنـــا­س مـــن بـــنـــات أفــــكـــ­ـاره الـــنـــي­ـــرة، وعلمه الـواسـع، وعقله الـراجـح، وبصيرته الــثــاقـ­ـبــة، مـــن دون حــاجــة الفـــتـــ­راض أن ما يـــقـــول­ـــه «ربـــــمــ­ـــا» ال يــــكــــ­ون صـــحـــيـ­ــحـــًا. تـلـك اللغة ال تتوقف عند املحللني، بل تنسحب عـلـى رجـــال الـسـيـاسـ­ة وحـركـاتـه­ـا وقــواهــا، وفــي تلك املنطقة تتجلى أســـوأ نتائجها. مـنـذ أحــــداث 7« أكــتــوبـ­ـر»، بـــدا أن األطـــراف الفلسطينية املتعارضة التي يفترض أنها جـمـيـعـًا تـــريـــد تـحـقـيـق األهــــــ­داف الـوطـنـيـ­ة الــعــلــ­يــا لــلــشــع­ــب الــفــلــ­ســطــيــن­ــي اسـتـعـمـل­ـت أقـــصـــى درجـــــــ­ات الـــقـــط­ـــع فــــي لــغــتــه­ــا حـــول الـــحـــر­ب عــلــى غـــــزة، ســـــواء ملـصـلـحـة تـأيـيـد املـقـاومـ­ة أو لومها، فـكـل طـــرف منها يتهم اآلخــــــ­ر بـــانـــع­ـــدام الـــبـــص­ـــيـــرة، وعــــــدم إدراك املصالح العليا، فيما ينعت نفسه بأفضل صـــفـــات ســعــة األفـــــق وحـــســـن الــتــفــ­كــيــر، ما يعني افــتــراض­ــه أن مخالفيه غـوغـائـيـ­ون، مدفوعون بعواطفهم، ويتخذون مواقفهم من دون تمعن أو تفكير. لــــذا تـــتـــكـ­ــرر كــلــمــة «غـــوغـــا­ئـــيـــون» مـــن دون غـيـرهـا عـنـد نـقـد وجــهــات الـنـظـر املخالفة فـــي الــعــالـ­ـم الــعــربـ­ـي، ويـــبـــر­ر مـطـلـقـو تهمة «الغوغائية» استعمالهم املصطلح بالدفاع عن مصالح األوطـــان في مواجهة الذين ال يـفـهـمـون­ـهـا، وال يـــتـــوف­ـــرون عــلــى مــؤهــات تمكنهم مــن املـشـاركـ­ة فــي تحقيقها. هنا، يـــنـــطـ­ــوي املـــشـــ­هـــد عـــلـــى بــــعــــ­د هــــزلـــ­ـي: فـفـي إســـــرائ­ـــــيــــ­ـل، حـــيـــث لـــلـــتـ­ــنـــافــ­ـس الـــبـــر­امـــجـــي بــني الــفــرقـ­ـاء الـسـيـاسـ­يـني مـعـنـى ونتيجة، ألنـــه يـقـود إلـــى تشكيل الـحـكـومـ­ات ورســم مسيرة الدولة، ال نسمع أحدًا يصف اآلخر بـــالـــغ­ـــوغـــائ­ـــيـــة، بــــني الــــتـــ­ـيــــارات الــســيــ­اســيــة الرئيسية، بل قال نتنياهو لخصومه الذين ال يـقـلـون عـنـه إجــرامــًا ودمـــويــ­ـة، وهـــو يهم يـومـًا بتشكيل الـحـكـومـ­ة: «لـديـنـا أساليب مختلفة، لكننا نريد العمل معًا ملا فيه خير الـــدولــ­ـة، ويـمـكـنـن­ـا إيـــجـــا­د طــريــق مشتركة إليصال إسرائيل إلى بر األمـان واالزدهــا­ر والـــــــ­ســـــــام». صـــحـــيـ­ــح أن ذلــــــك الـــتـــص­ـــريـــح انطوى على مناورة سياسية، لكنه ال ينفي اضــطــرار­ه لـاعـتـراف بـــأن الـخـاف ال يمنع تكامل األدوار السياسية. ولـيـس الغرض من إيــراد هـذا التباين في كيفية التعاطي بــــني املـــتـــ­خـــالـــف­ـــني فــــي الـــحـــي­ـــاة الــســيــ­اســيــة الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــة ونـــظـــي­ـــرتـــهـ­ــا اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـيـــة، مـــديـــح هــــذه األخــــيـ­ـــرة، بـــل الــتــذكـ­ـيــر بــأحــد أســـبـــا­ب قــدرتــهـ­ـا عــلــى الـــتـــج­ـــدد ومــواصــل­ــة التفوق، وبأحد أسباب ما تعانيه القضية الفلسطينية مـن تعطل وإعــاقــة، حتى في أكـــثـــر لــحــظــا­ت احــتــيــ­اج املـــشـــ­روع الـوطـنـي الفلسطيني الجتماع الفرقاء وتعاونهم. عـلـى أن الـتـبـعـا­ت الـسـيـئـة السـتـعـمـ­ال لغة القطع فـي تحليل الـحـرب على غـــزة، سـواء مـــن املــحــلـ­ـلــني الـــذيـــ­ن ظـــهـــرو­ا عــلــى املــنــاب­ــر اإلعـــامـ­ــيـــة أو الــنــشــ­طــاء الـــذيـــ­ن اسـتـعـلـم­ـوا منابر الـتـواصـل االجتماعي، تجلت أيضًا في النقاش العربي العام، وتسببت بشرخ عـمـيـق بـــني الــداعــم­ــني والــائــم­ــني الـــذيـــ­ن لم يعتبروا الرأي اآلخر مجرد وجهة نظر، بل غوغائية وخيانة، تمامًا كما تسببت عبر عقود طويلة في تعميق الشرخ بني القوى الفلسطينية، والحيلولة دون االتفاق على بـــرنـــا­مـــج عــمــل فـلـسـطـيـ­نـي مــــوحـــ­ـد. ولـيـس املطلوب أن يفترض الناس ببعضهم حسن النيات بـاسـتـمـر­ار، لكن ليس ثمة ضــرورة الستعمال اللغة األبوية التي ال تترك للود واإلقناع مجاال بني أصحاب النيات الحسنة حـــقـــًا. إنـــهـــا مــســألــ­ة ثــقــافــ­يــة عــربــيــ­ة عميقة تتجلى فــي الـلـغــة، ويــبــدو مــن غـيـر املمكن عاج مشكلة استعمال اللغة األبوية إلبداء اآلراء، من دون عاج جذورها الثقافية. ما

تسبّبت لغة القطع، عقودًا طويلة، في تعميق الشرخ بين القوى الفلسطينية

يمكن استخاصه من جدية تعامل الناس

ّّ مع تلك الخيارات، أنهم يتصرفون كما لو أنهم يفهمون في كـل شـيء يعرض عليهم رغــم عــدم معرفتهم السابقة بــه، ويمكنهم الحديث في أي موضوع، وتقديم رأي مبني على دراية وعمق، وتحليله ومقارنته بآراء اآلخرين، وصـوال إلى صياغة استنتاجات قاطعة حوله. يبدو أن ما جرى حول الحرب على غزة ال يختلف كثيرًا عما يجري حول كل موضوع آخر: كام تذروه الريح، فهؤالء الـذيـن يتحدثون بلغة الحسم والقطع عن تــداعــيـ­ـات الـــحـــر­ب فـــي غــــزة عــلــى الــعــاقـ­ـات الـــدولــ­ـيـــة واالقــــت­ــــصــــا­د الـــعـــا­ملـــي ومـسـتـقـب­ـل الشرق األوسط، من دون معلومات أو بحث أو خبرات، ال يختلفون عن الذين يثرثرون حول مختلف املسائل اليومية واالجتماعي­ة والعائلية في البيت والشارع واإلنترنت. ومــن مثل تلك اللغة األبــويــ­ة، الـتـي تفسد النقاش والحوار وتمنع تهذيب االختاف، يــــتــــ­غــــذى خــــطــــ­اب الــــحـــ­ـركــــات الــســيــ­اســيــة الفلسطينية، التي لـم تتمكن حتى اليوم مـن صياغة مـشـروع وطني مــوحــد، يبدو شرطًا ضـروريـًا إلنجاز غايات وتطلعات الـشـعـب الفلسطيني، عـلـى غـيـر مــا يفعل نتنياهو واملجرمون حوله.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar