فلسطين في المغرب قضية وطنية
لــطــاملــا تــغــنــى الــتــقــدمــيــون والــيــســاريــون املـــغـــاربـــة بــالــقــضــيــة الــفــلــســطــيــنــيــة، مـنـذ أواخــــــر الــســتــيــنــيــات، قــضــيــة وطـــنـــيـــة في مستوى باقي القضايا الوطنية األخــرى التي كانوا يناضلون من أجلها، بحسب االخـــتـــيـــارات األيــديــولــوجــيــة ذات الـطـابـع الـــتـــعـــبـــوي، قـــومـــيـــة اجـــتـــمـــاعـــيـــة، وطــنــيــة وماركسية يسارية، في العموم، واعتمادًا على األطر التنظيمية التي قادت حركاتهم النضالية، مـن خــال بـنـاء مـركـزي عماده ونــظــامــه الـــحـــزب الـطـلـيـعـي، وفـــي ظـــروف خاصة ومتنوعة تحكمت فيها جملة من الـــشـــروط االســتــثــنــائــيــة، طــابــعــهــا الـقـمـع، ومعه التضييق املمنهج الــذي حوصرت به منذ ،1965 في مختلف مجاالت العمل االجتماعي وساحات النضال الوطني. وقد تأسس الوعي بالقضية الفلسطينية، رغــــــم أن الــــشــــعــــور الــــوطــــنــــي واإلســـــامـــــي فيها قـديـم، ولــه سياقه التاريخي املرتبط بـــالـــعـــقـــيـــدة والــــنــــضــــال املــــشــــتــــرك، انــطــاقــا مـــن املــرحــلــة الـــتـــي تــحــولــت فـيـهـا الـقـضـيـة الــفــلــســطــيــنــيــة مـــــن عـــمـــل فـــــدائـــــي مــحــكــوم بــتــيــارات الـفـكـر والـعـمـل الـديـنـي والـقـومـي، فضا عـن االرتــبــاط بالسياسات الرسمية التي كانت تحددها وتعمل بمقتضاها دول الجوار، إلى قضية ترفع الكفاح املسلح في وجـه املحتل الغاصب، وال تـرى بديا عنه أسلوبا فـي تحرير األرض واإلنــســان، كما كان مسلما به بعد هزيمة 5 يونيو .)1967( بــــروز هـــذا الــنــوع مــن الــوعــي ذي الطبيعة القومية التحررية، مع «الطبيعة الثورية» لبعض حركاته، بحسب األوضـــاع القائمة أو املتغيرة، في أكثر من بلد مغاربي، لم يكن عفويا أو خلوًا من أي تأثير لبعض األهداف التي ارتسمت في أفق العمل السياسي وفي املــمــارســة، وفــي مقدمتها أهمية استغال املجال الشرعي، رغم األوضاع االستثنائية وحــــدتــــهــــا، لــلــمــطــالــبــة بــــعــــودة املــشــروعــيــة الـتـي تـأسـسـت عـلـى عـنـصـريـن بـــارزيـــن في الـتـفـكـيـر، وفــــي الــتــطــور الــتــاريــخــي نفسه، هما: السعي إلـى تحقيق األماني الوطنية الـتـي كـانـت فــي أســـاس الـنـضـال السياسي بالنسبة إلـــى بـعـض الــحــركــات السياسية الـوطـنـيـة، والــعــمــل مــن أجـــل الـديـمـقـراطـيـة، الـتـي تـعـرضـت فـي نظر جيل مـن العاملني فـــي سـبـيـل االســـتـــقـــال املـــقـــرون بــاإلصــاح إلى شعور بالفشل املرير، نفسيا وعاطفيا، فـي استكمال مـا كــان فـي االعـتـبـار امـتـدادًا ملـا سبقه عما ونــضــاال، أي مـا كــان يعرف
ُّ بـ«مهمات التحرر الوطني»، وبناء الدولة الحديثة على أسـٍس لطاملا عملت الحماية االسـتـعـمـاريـة عـلـى تقويضها والحيلولة دون قيامها. ومن املفهوم أنه إزاء الظروف االستثنائية الـــتـــي قـــــــوت االنـــــفـــــراد بــالــســلــطــة وبـــــــررت التحكم االســتــبــدادي، لـم يكن مـن املتوقع فـي التفكير السياسي الــذي صاحب تلك املـــرحـــلـــة، بــحــســب املـــنـــطـــق والــــســــيــــاق، إال اإلصاح أو الثورة للتعبير الواضح، وهو ما أوجبته النظرية واملعتقد األيديولوجي أيضا، أن التطور االجتماعي والسياسي يـــتـــطـــلـــب اســـتـــراتـــيـــجـــيـــة أخــــــــرى لـــقـــيـــادة النضال (الــصــراع الطبقي) على مستوى مختلف أو مـتـجـدد، تــمــثــل لبعضهم في املـطـالـبـة بـإسـقـاط «االســتــثــنــاء» والــعــودة إلـــــى جــــــــادة الـــعـــمـــل الـــديـــمـــقـــراطـــي، وهــــذا هــــو االخـــتـــيـــار الــعــلــنــي الـــشـــرعـــي، بـيـنـمـا اخــتــار بعضهم اآلخـــر، بتأثير مــن بعض الــصــيــغ الــتــحــريــضــيــة املـــحـــمـــلـــة بـالـتـمـرد واالنـــــدفـــــاع، أســلــوبــا مـخـتـلـفـا، بـــنـــاء على الـــتـــعـــارض املــطــلــق مـــع الـــواقـــع الـــقـــائـــم، لم يـجـد لـــه هــدفــا آخــــر إال فـــي الـــثـــورة أو في الــــثــــورة املـــحـــلـــوم بـــهـــا. وفــــي مــقــابــل هـــذا، صــــــار مــــن املـــــؤكـــــد أن الـــفـــعـــل الــســيــاســي املــلــمــوس، ملـخـتـلـف املـــكـــونـــات املــحــاصــرة، الـــذي قــوامــه االرتـــبـــاط بــالــقــوات الشعبية أو بـالـجـمـاهـيـر أو بـالـطـبـقـات األسـاسـيـة فـــي املـــجـــتـــمـــع... إلـــــخ، أصـــبـــح يــتــعــلــق بما يعبر عنه فــي اللغة السياسية املباشرة وبالوعي النقدي املتحفز بـ«البديل»، أي بما يشبه «النقيض» على مستوى األفكار والتصورات والبرامج ألطروحة األوضاع السائدة، واملمارسات املطبقة. وألول مـــرة فــي الـتـاريـخ السياسي ملــا بعد تـــجـــارب االســـتـــقـــال، أصـــبـــح الـــحـــديـــث عن الصراع االجتماعي (الطبقي) يولد مفردات، بل مصطلحات، بعضها منحوت وبعضها اآلخـــر مــبــتــدع، هــي بحسب مـنـاخ املرحلة،
ُّ األنسب للتحول الذي فرض على كثير من القوى االجتماعية املنظمة التي أقصيت من جميع األدوار وجـردت من جميع الوظائف أيضا، بما فيها التي منحها إياها الدستور حني أوكــل إليها تنظيم الناس وتوعيتهم. فـــكـــانـــت تـــلـــك املـــفـــاهـــيـــم ثــــاثــــة: الــتــعــادلــيــة واملـشـروعـيـة، االشـتـراكـيـة العلمية، الـثـورة الــشــامــلــة. مـــا يــجــب اســـتـــحـــضـــاره فـــي هــذا املــــنــــاخ، ومـــــن الــصــعــب أن يــنــســى مــــن بني الـــبـــدائـــل املـــطـــروحـــة، تــلــك املــــحــــاوالت الـتـي جعلت من العنف املباشر أسلوبا حاسما إلســقــاط السلطة الــســائــدة، وهـــو مــا تمثل في االنـقـاب العسكري، فـعـرف املغرب منه رسميا، على سبيل املثال الـبـارز، انقابني فــاشــلــني مـتـتـالـيـني (يــولــيــو/ تــمــوز ،1971 أغسطس/ آب ،)1972 وتمثل أيضا في ما عـرف في أوائـل السبعينيات بـ«البانكية» الـتـي فـــجـــرت عـمـا مسلحا فــي منطقة في األطــــلــــس املــــتــــوســــط، فـــلـــم يـــنـــجـــح ألخـــطـــاء كـــثـــيـــرة فــــي إيــــجــــاد الــــبــــؤرة الـــثـــوريـــة الــتــي عــول عليها كي تجند الجماهير الشعبية وتـشـعـل نـــار الـــثـــورة. وعــاقــة هـــذا بعوامل الـــتـــأثـــيـــرات الـــخـــارجـــيـــة، الـــتـــي وفــــــــــرت مـا يـمـكـن االصـــطـــاح عـلـى تسميته بالغطاء السياسي واأليــديــولــوجــي، جـعـلـت القوى الـــعـــامـــلـــة فــــي ســـبـــيـــل اإلصــــــــاح والـــــثـــــورة، بــالــحــمــولــة الـــتـــي كـــانـــت لــهــمــا فـــي مـرحـلـة النهوض القومي قبل الهزيمة، تسارع في الـبـحـث عـــن الــتــبــريــرات، الــتــي بـاعـتـمـادهـا املرجعي يـجـوز أن تتحول اإلحــالــة عليها إلـــى عــامــل مـــن الــعــوامــل املـــســـاعـــدة، نظريا وعـــمـــلـــيـــا، عـــلـــى الـــبـــعـــث واالســـتـــنـــهـــاض أو التأطير والتعبئة - التجنيد، بوصفهما زوجــــني مـتـضـامـنـني، يـرتـسـمـان حـتـمـا في أفـق التطور دعامتني لكل حركة سياسية طليعية فـي الـدولـة وفـي املجتمع. واألكثر أهمية أن اإلحالة على تلك العوامل لم تكن تثير في األذهان أي شعور بالتبعية للغير أو بالوالء لألجنبي أو بأي شكل من أشكال التضامن املحسوب على العقيدة الدينية أو األيديولوجية على سبيل املثال. وبناء عــلــى ذلـــــك، احــتــلــت الــقــضــيــة الفلسطينية مـــركـــز الـــــصـــــدارة فــــي الــتــبــشــيــر بــاملــقــاومــة وحــتــمــيــة االنـــتـــصـــار، فـــضـــا عـــن األشـــكـــال املصاحبة لذلك مثل األهمية االستثنائية التي أسندت إلى مفهوم التنظيم في إنجاح
من خالل القضية الفلسطينية، كانت القوى ذات الطابع الوطني في المغرب أبلغ من غيرها في التعبير الصريح عن المناصرة التامة للفعل المقاوم
الـــفـــعـــل الـــســـيـــاســـي الــــثــــوري أو الــعــســكــري الـوطـنـي فــي كـــل مـحـاولـة تــرتــجــى إلنـجـاح اإلصاح أو للقيام بالثورة. لذلك، من خال الـقـضـيـة الـفـلـسـطـيـنـيـة، كــانــت الـــقـــوى ذات الطابع الوطني أبلغ من غيرها في التعبير الصريح عن املناصرة التامة للفعل املقاوم، والتأكيد على دعمها املطلق له بالوسائل املتاحة. بينما توسعت القوى اليسارية في التعبير عن عوامل أخــرى، خصوصا بعد أن أصـبـحـت القضية الفلسطينية قضية وطنية بالنسبة إليها أيضا، بـدت اإلحالة عـلـيـهـا مـــن قـبـيـل حــشــد الـــعـــوامـــل الــثــوريــة الفعالة القادرة بافتراض حالم على توليد املد الثوري، حيثما كانت الثورة ضرورية أو واردة بحسب التحليل امللموس للواقع، وتحقيق التضامن األمـــمـــي، والسعي إلى إقامة املجتمع االشتراكي، وهكذا... يتضح من هـذا أن األســاس العام ملختلف اإلحــــــاالت عــلــى هــــذا الــصــعــيــد أو ذاك هو االنــتــمــاء إلـــى الـفـكـر الــوطــنــي الــقــومــي، ثـم املــاركــســي، بـتـأثـيـرهـمـا الــقــوي عـلـى فئات مجتمعية عريضة انتظمت فـي ركابهما وحولتهما، في بعض املراحل، إلى قوتني مـــاديـــتـــني فــاعــلــتــني، قــبــل أن يـنـتـهـيـا، إلــى هــزائــم مـتـراكـبـة وتـضـحـيـات جــمــة عطلت جــمــيــع الـــــقـــــدرات الـــتـــي بــــشــــرت بـمـخـتـلـف أشـــكـــال الـتـغـيـيـر. ولـــواحـــدنـــا أن يــتــســاءل: ما الـداعـي إلـى ُِ ثـبـوتتلك اإلحـــاالت، وألي ٍّ هـــدفمــن األهــــداف املــدركــة كـانـت تصلح؟ يتمثل الـجـواب فـي إسهامها، مـن ناحية، في خلق مناخ سياسي وطني أفاد كثيرًا، فـي ضــوء شــعــارات تبشيرية ملتهبة، في تــــجــــاوز حــــــاالت مــــن الـــتـــضـــيـــيـــق، والــكــبــت الــســيــاســي، واملـــنـــع اإلداري، أطــبــقــت على الـعـمـل الـسـيـاسـي املـــعـــارض بـفـعـل عـوامـل استثنائية، توخت مصادرة الديمقراطية فـــــي املـــــهـــــد. مـــــن نـــاحـــيـــة ثــــانــــيــــة، أســهــمــت فـــي الـتـعـبـيـر عـــن وحــــدة املــصــيــر، والـعـمـل اإلنساني التقدمي الذي كان عليه أن يشيد اختيارًا اشتراكيا يصارع مختلف األشكال االستبدادية، التي أفرغت املطالب الوطنية والتقديمة من حمولتها الفعلية والرمزية، تلك التي كان في مقدمة أهدافها البعيدة، مـنـذ أن كـــان الـتـنـاقـض األســـاســـي لـهـا مع الـــحـــمـــايـــة االســـتـــعـــمـــاريـــة، بـــنـــاء املــجــتــمــع العادل املشمول بالتقدم والرفاهية.