كفاح فالحات مصر... رحلة يومية بين الريف والمدينة
تكافح مئات الريفيات المصريات لتأمين قوت يومهن ومساندة عائالتهن عبر بيع المنتجات الزراعية والخضروات في المدن، وقد بات لديهن زبائنهن
بـابــتـسـامـة رضــــا، تـسـتـيـقـظ األربـعـيـنـيـة خــضــرة عــوضــني أبـــو عـــوف كــل يـــوم قبل أذان الفجر، وتوقظ أبناءها ليذهبوا إلى مدارسهم وزوجها إلى عمله في الحقل، ثم تحزم حمائلها املعدة قبل النوم، وتهرع مسرعة من منزلها بقرية العباسية في محافظة كفر الشيخ شمالي مصر، إلى محطة القطار. في عربة القطار األخيرة، تــجــلــس خـــضـــرة لــتــســتــعــد لـــيـــوم طــويــل وشــاق في مدينة اإلسكندرية، إذ تعتبر سوقها وجهتها املفضلة لبيع منتجاتها الطازجة، في رحلة عمل يومية متواصلة منذ أكثر من 15 عامًا. تصل إلـى السوق مـــبـــكـــرًا قـــبـــل وصــــــــول الـــــزبـــــائـــــن، فــتــضــع فرشها القديم املتهالك الذي تعرض عليه منتجاتها من بيض بلدي وجنب قريش ولــــنب رائـــــب وســـمـــن بـــلـــدي، وتـــدعـــو الـلـه بتحقيق رزق وفير. بلهجة ريفية وكلمات بسيطة وابتسامة، تستقبل خــضــرة زبـائـنـهـا، فـهـي ليست مجرد بائعة بل صديقة تهتم بصحتهم وتـحـرص على عــدم خـداعـهـم، مـا يخلق حـالـة مـن الـــود تسمح بتبادل القصص واألماني وتقاسم األحزان والنصائح. ليست أبو عوف حالة فريدة من نوعها، بـــل تــمــتــلــئ عـــربـــات قــــطــــارات الــســاعــات األولـــى مـن الصباح بالريفيات اللواتي يـــســـعـــني إلــــــى أرزاقــــــهــــــن ذهـــــابـــــًا وإيــــابــــًا بـــني الـــريـــف واملــــــدن، فـــي ظـــل الـتـحـديـات االقـــتـــصـــاديـــة وارتـــــفـــــاع األســــعــــار الــتــي تـــواجـــهـــهـــا الــــعــــائــــالت املــــصــــريــــة. تــقــول خـــضـــرة لـــــ «الـــعـــربـــي الــــجــــديــــد»: «ســــوق الـــقـــريـــة ال يــمــكــنــهــا اســـتـــيـــعـــاب األعــــــداد املـــتـــزايـــدة مـــن الـــبـــاعـــة، وبــيــنــمــا يعتمد الـجـمـيـع عـلـى الـــزراعـــة وتــربــيــة الـطـيـور واملـــــواشـــــي، فـــإنـــهـــم يـــضـــطـــرون لـلـبـحـث عــــن أســـــــواق جــــديــــدة فــــي املـــــــدن. أحـــــاول اســتــغــالل املـــزايـــا الـطـبـيـعـيـة والــزراعــيــة لقريتي الصغيرة وتحويلها إلى فرص تجارية على الرغم من املصاعب الكثيرة للرحلة اليومية إلــى املـديـنـة، ومجهود السفر والتنقل، كما يتعني علي التعامل مـــع املــنــافــســة. مـــع ذلــــك، وبــفــضــل جـــودة املنتجات الطبيعية التي أقدمها، إذ يجد الزبائن قيمة حقيقية، ويفضلون شراء منتجاتي على البدائل الصناعية». إلــــــى جــــــــوار خـــــضـــــرة، تـــجـــلـــس ســعــديــة خـــمـــيـــس 50( ســــــنــــــة)، وإلـــــــــى جـــانـــبـــهـــا الخضروات الطازجة التي تجهزها قبل بيعها لــلــزبــون عـلـى خـــالف املــعــتــاد من بائعي السوق. تقول لـ «العربي الجديد»: «مــــنــــذ نـــعـــومـــة أظــــــفــــــاري، كـــنـــت أســتــقــل القطار مع والدتي يوميًا لبيع البضائع في املدن الساحلية، وبعد وفاتها، أكملت املـــســـيـــرة حـــيـــث ال مـــجـــال لـــلـــتـــراخـــي أو التكاسل بسبب تكاليف الحياة وطلبات األبناء التي ال يستطيع زوجي تلبيتها وحــــده». تضيف: «أتـمـيـز عــن غـيـري من الــبــاعــة بتجهيز الــخــضــار قــبــل بيعها، وأضــيــف مقابل ذلــك سعر خـدمـة زهيد ال يزيد عن خمسة جنيهات للكيلوغرام الــــواحــــد. وفــــي نــهــايــة الـــيـــوم، أعـــــود إلــى قريتي الصغيرة على قدمني متعبتني، ولـــكـــن قـلـبـي مـــلـــيء بـــالـــرضـــا، أحـــمـــل في جعبتي القليل مـن النقود التي بالكاد تكفي نفقات األبناء في اليوم التالي». وعــــــن إمـــكـــانـــيـــة وجـــــــود بــــديــــل لـعـمـلـهـا الـشـاق الـيـومـي، تؤكد أنها وغيرها من الريفيات الكادحات لم يكملن تعليمهن. لذلك، ال يوجد أمامها فرصة لاللتحاق بـــأيـــة وظــيــفــة رســمــيــة أو مـنـتـظـمـة، وال تـمـلـك راتـــبـــًا حــكــومــيــًا ملــســانــدة زوجــهــا في نفقات املعيشة وتربية األبناء الذين تـــحـــرص عــلــى اســتــكــمــال تـعـلـيـمـهـم في مختلف املراحل التعليمية. سارة طارق، إحــدى زبـائـن الـسـوق، تشيد بالبائعات الفالحات. وتقول: «أحـب أن أشتري من املزروعات البسيطة ألنها تأتي مباشرة من الحقول، وأعــرف أنها زرعـت بعناية كــبــيــرة، وأشـــعـــر بــالــثــقــة بــمــا أشــتــريــه». تضيف: «عندما أشـتـري مـن املـزروعـات البسيطة، أشعر أنني أحصل على أفضل جودة ممكنة، فاملنتجات طازجة وغنية بالنكهة، وأعرف أنها لم تتعرض للعديد من املواد الكيميائية واملبيدات الحشرية الــتــي قــد تــكــون مـــوجـــودة فــي املنتجات التي تأتي من املصانع الكبيرة». أمــا نــور حـسـني، أحــد الـزبـائـن فـي سوق محطة مصر في اإلسكندرية، فيقول: «من الـرائـع أن أتعامل مباشرة مـع الخضار الـــبـــســـيـــطـــة ويـــمـــكـــنـــنـــي طــــــرح أســئــلــتــي حــول املنتجات وأصلها، وأحـصـل على مـعـلـومـات دقـيـقـة حـــول وســائــل الــزراعــة والـتـعـامـل مــع املـحـاصـيـل، وهـــذا يجعل التجربة أكثر قيمة بالنسبة إلي ويعزز الثقة باملنتجات التي أشتريها». يتابع: «أعـــتـــقـــد أن دعــــم املـــــزروعـــــات الـبـسـيـطـة يـسـاهـم فــي تـعـزيـز االقــتــصــاد، وعـنـدمـا أشــتــري مــن املـــزروعـــات الـبـسـيـطـة، أعلم أنــنــي أدعــــم عــائــلــة أو شـخـصـًا حقيقيًا يعمل بجد لتوفير لقمة العيش لعائلته، وهذا يجعلني أشعر بالراحة والفخر». بدورها، ترى الباحثة االجتماعية نجالء عبد املنعم أن توجه املــرأة الريفية لبيع منتجات غـذائـيـة طبيعية فــي املـــدن هو استجابة لتحديات االقـتـصـاد املصري الحالي. وارتفعت أسعار املواد الغذائية واملـــعـــيـــشـــيـــة بـــشـــكـــل مـــلـــحـــوظ وتـــضـــرر الـــكـــثـــيـــرون مـــن االنـــخـــفـــاض فـــي الـــدخـــل، ويعتبر هــذا النشاط الـتـجـاري البسيط بــمــثــابــة فـــرصـــة لـتـحـقـيـق دخــــل إضــافــي يمكن أن يساعد األسر في تحمل نفقاتها اليومية وتلبية احتياجاتها األساسية.