Al Araby Al Jadeed

أين صوت الجامعات العربية؟

- علي أنوزال

تتعالى أصـــوات يـــزداد حجمها يوميا في جــامــعــ­ات فـــي جـمـيـع أنـــحـــا­ء الــعــالـ­ـم مــنــددة بــمــجــا­زر اإلبــــــ­ادة الـــتـــي تـرتـكـبـه­ـا إســرائــي­ــل في غــزة منذ نحو مائتي يــوم، متجهة إلى تشكيل تكتل عاملي من الجامعات في إطار أكبر حركة طالبية عاملية شبيهة بتلك التي عرفها العالم في سبعينيات القرن املاضي وستينياته، وأدت إلى وقف حربي الجزائر وفـيـتـنـا­م. انطلقت بــدايــة الـحـركـة الطالبية الجديدة من جامعة كولومبيا في أميركا، أطلقتها حركة «طــالب من أجـل العدالة في فلسطن»، التي نصب أعـضـاؤهـا خيامهم فــي حـديـقـة الـجـامـعـ­ة مـنـذ يـــوم 17 إبــريــل/ نيسان الجاري، ما أدى إلى تعطيل الدراسة فـي جميع أقـسـام الـجـامـعـ­ة، ودفـــع رئيسها إلى استدعاء الشرطة العتقال املتظاهرين، وهو ما فجر غضب الطالب وأدى النضمام طــالب آخـريـن وأعــضــاء مـن هيئة التدريس إلى مخيم املحتجن الذي تحول إلى حديقة «هــايــد بــــارك» أمـيـركـيـ­ة تـعـقـد فـيـهـا دورات تعليمية ويتناوب متحدثون على منصتها يــخــاطــ­بــون الـــطـــا­لب، وتــنــظــ­م فـيـهـا أنـشـطـة تـــتـــوز­ع مـــا بـــن تـــرديـــ­د الـــشـــع­ـــارات والــغــنـ­ـاء والرقص على نغمات الدبكة الفلسطينية، بحيث أصبح الطالب يقولون إنهم سيظلون هــــنــــ­اك «يــــغــــ­نــــون ويـــــشــ­ـــاهـــــ­دون ويـــصـــل­ـــون ويــقــرأو­ن ويـرقـصـون ويتقاسمون كسرات الخبز» إلى حن االستجابة ملطالبهم. زخـــم هـــذه الـحـركـة املـتـنـام­ـي، بـعـدمـا بــدأت صـــغـــيـ­ــرة بــحــفــن­ــة مــــن الــــطـــ­ـالب، دفـــــع طـــالب جـامـعـات أخـــرى فــي أمـيـركـا إلـــى التضامن مـعـهـم، قـبـل أن يمتد الـتـضـامـ­ن ليصل إلـى جامعات في جميع أنحاء العالم، وتلتحق بـــهـــم أســـــمــ­ـــاء كـــبـــيـ­ــرة فـــــي عــــالـــ­ـم الـــســـي­ـــاســـة والثقافة والفكر والـفـن. وفـي الـوقـت نفسه، ارتفع سقف مطالب الحركة الطالبية التي أصـبـح مطلبها يتجاوز وقــف إطـــالق النار وإعــــادة زمـالئـهـم املــوقــو­فــن، إلـــى إنــهــاء كل تــعــاقــ­د بـــن الــجــامـ­ـعــة واملـــجــ­ـمـــع الـصـنـاعـ­ي الـــحـــر­بـــي الـــــذي يــــــزود إســـرائــ­ـيـــل بــالــســ­الح، ومطالبة مجلس الجامعة بإعادة النظر في كـل االتـفـاقـ­ات الـتـي أبرمتها مـع املجمعات الصناعية العسكرية ومــؤســسـ­ـات البحث اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة، عـلـى ضـــوء الـقـيـم األسـاسـيـ­ة لــلــجــا­مــعــة املــتــمـ­ـثــلــة فــــي الـــعـــد­الـــة والـــســـ­الم وحقوق اإلنسان. انتقلت عـدوى هـذا االحتجاج الطالبي إلى جـامـعـات أخـــرى داخـــل أمـيـركـا وفـــي العالم أمــــام اســتــمــ­رار الــحــرب واســتــمـ­ـرار الصمت والـــتـــ­واطـــؤ الــــدولـ­ـــي مـــع املـــجـــ­رمـــن، فــطــالب عــديــدون فـي العالم أصبحوا ينظرون إلى «مـــخـــيـ­ــم الـــتـــض­ـــامـــن مــــع غـــــــزة» فــــي جــامــعــ­ة كولومبيا بواشنطن فعال بطوليا يسعون إلــى االحــتــذ­اء بـه للضغط على جامعاتهم، ومن خاللها على حكومات دولهم للتحرك لــوقــف حـــرب اإلبـــــا­دة الــتــي يـرتـكـبـه­ـا جيش االحـــتــ­ـالل اإلســرائـ­ـيــلــي ضـــد الفلسطينين العزل األبرياء في غزة والضفة الغربية. ومن أجل كسر هذا الحركة، يتم إشهار سالح «مـــعـــاد­اة الـسـامـيـ­ة» الـتـقـلـي­ـدي إلســكــات كل صوت ينتقد إسرائيل وأفعالها اإلجرامية، لكن أمـــام وعــي الـطـالب فــإن هــذا الـسـالح لم يـعـد يــجــدي، خصوصا بعدما أكــد الطالب أنـــهـــم ســيــســت­ــمــرون فـــي احــتــجــ­اجــهــم حتى تـسـمـع أصــواتــه­ــم ضـــد املــذبــح­ــة الجماعية للفلسطينين في غـزة، معلنن أن حركتهم سلمية تسير على خطى حـركـات الحقوق املدنية والحركات املناهضة للحرب على مر التاريخ األميركي. وبـالـفـعـ­ل، مـنـذ خمسينيات الــقــرن املـاضـي أصـبـحـت الـحـركـات الـطـالبـي­ـة تعتبر، حقا، محّرك الثورات نحو التحّرر والديمقراط­ية، في مختلف الدول، من أميركا إلى أوروبا إلى شرق آسيا وفي املنطقة العربية إبـان فترة الـربـيـع الـعـربـي، لتحتل املـكـانـة الـتـي كانت توليها املاركسية لـدور الطبقة العاملة في التغيير على اعتبار أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، كما كان يقول املاركسيون، لــكــن بـسـبـب ضــعــف الــنــقــ­ابــات وتسييسها وارتشائها، أصبحت الحركة الطالبية هي القادرة على صنع التغيير في مجتمعاتها، ملا لها من طاقة شبابية، واستقالل سياسي عـــن األحــــــ­زاب وجـــمـــا­عـــات املـــصـــ­الـــح، ونــظــرًا إلــى مـا تختزله مـن طـاقـات شبابية كبيرة تجعلها صانعة املستقبل بال منازع. ولكننا فـي منطقتنا العربية نكاد ال نجد أي صـدى لصوت طالبها أو جامعاتها، أو على األقــل لم يصل صــداه إلـى خــارج دولـه، ألســبــاب غير مـعـروفـة وغـيـر مــبــررة أيضا، ألن الفعل النضالي هو الـذي يفرض نفسه على األحـداث. وفي الحالة املغربية القريبة مــــن كــــاتـــ­ـب هــــــذه املــــقــ­ــالــــة، مــــا يــهــيــم­ــن عـلـى الجامعة اليوم هما هاجسا الخوف والقمع. خــــوف األســــات­ــــذة والــــكــ­ــوادر الــجــامـ­ـعــيــة من رفع أصواتهم عاليا داخل الحرم الجامعي لنصرة القضية الفلسطينية. وفــي املقابل القمع املمنهج الـــذي تـتـعـرض لـه الحركات الطالبية التي تريد أن ترفع صوتها منددة بــالــحــ­رب اإلجـــرام­ـــيـــة فـــي غـــــزة. فــفــي الـشـهـر املـــاضــ­ـي (مــــــارس/ آذار)، اســتــدعـ­ـت رئــاســة

جامعة تطوان قوات األمن ملحاصرة الحرم الجامعي وإغـالقـه أمــام الطلبة ملنع تنظيم املـلـتـقـ­ى الـــســـا­دس حــــول الـــقـــد­س الــــذي دأب اتـحـاد الطلبة املغربية، الـــذي يهيمن عليه فصيل طالب جماعة العدل واإلحسان داخل الجامعة، وكــان اللقاء سيعقد تحت شعار «طــــوفـــ­ـان األقــــصـ­ـــى.. شــــرف األمـــــة وعـــزتـــ­هـــا، عـــنـــوا­ن نــصــرهــ­ا وتــــحـــ­ـررهــــا»، لــكــن رئــيــس الجامعة قرر إيقاف الدراسة وإغالق جميع مـرافـق املـؤسـسـا­ت التابعة لجامعته ثالثة أيام، وهي التي كان مقررًا عقد امللتقى فيها! وفي الجامعات املغربية األخرى التي تزيد عـــن الـــثـــا­لثـــن، مـــن دون احـــتـــس­ـــاب املــعــاه­ــد واملــــــ­دارس الــعــلــ­يــا، يــخــيــم الــصــمــ­ت املــشــوب بالخوف، سواء بن صفوف الطالب أو بن سلك األســاتــ­ذة واملــدرسـ­ـن. وحـسـب مـا قال أسـتـاذ جامعي مـرمـوق ومــعــروف بمواقفه التقدمية املـسـانـد­ة للقضايا الـعـادلـة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، لكاتب هذا املـــقـــ­ال، الــخــوف هــو الـــذي يمنع الـجـامـعـ­ات املـــغـــ­ربـــيـــة مـــــن الــــتـــ­ـحــــرك لـــنـــصـ­ــرة الــقــضــ­يــة الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــة ومــــســـ­ـانــــدة الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــن، ويستدل بحديث بينه وبن رئيس جامعته، وهي مرموقة في الرباط، عندما طرح عليه مـــوضـــو­ع تــنــظــي­ــم فــعــالــ­يــة عــلــمــي­ــة تــتــنــا­ول الــــحـــ­ـرب عـــلـــى غـــــــزة، بــــــرر رئـــيـــس الــجــامـ­ـعــة خـوفـه مـن تنظيم فعالية علمية كـهـذه بأن «الــجــهــ­ات الـعـلـيـا» فــي الــدولــة قــد ال تسمح بها، خصوصا في ظل التطبيع الرسمي بن الدولة املغربية والكيان الصهيوني والذي شمل أيضا جامعات مغربية! الــجــامـ­ـعــة مـــنـــار­ة الــعــلــ­م وقــــائــ­ــدة املــجــتـ­ـمــع، وفـــــــي املـــــغـ­ــــرب كــــانـــ­ـت تــــاريــ­ــخــــيــ­ــا حــــاضـــ­ـرة فــــي كــــل املـــنـــ­عـــطـــفـ­ــات الـــكـــب­ـــيـــرة الــــتـــ­ـي مــــرت بــهــا الـــتـــح­ـــوالت املــغــرب­ــيــة، حــتــى فـــي أحـلـك ســــنــــ­وات الـــجـــم­ـــر والــــــر­صــــــاص، حـــيـــث كـــان طـلـبـة الــجــامـ­ـعــات وأســاتــذ­تــهــا فـــي املــقــدم­ــة لـقـيـادة الـحـركـات االجتماعية والسياسية الـــتـــي دافـــعـــ­ت عـــن الـــحـــر­يـــة والــديــم­ــقــراطــ­يــة والـــعـــ­دالـــة االجـــتــ­ـمـــاعـــ­يـــة. لــكــن رؤســــــا­ء هــذه الجامعات أصبحوا، في العقدين األخيرين،

مـجـرد موظفن يحرصون على مناصبهم ومزاياهم أكثر من حرصهم على سمعتهم العلمية ومكانتهم الرمزية داخـل املجتمع، يــنــتــظ­ــرون «اإلشــــــ­ــــارات» الـــتـــي تــأتــيــ­هــم من الــســلــ­طــة لــالمــتـ­ـثــال لـــهـــا، وال يــــتــــ­رددون في قمع كــل األصــــوا­ت املـزعـجـة الـتـي قــد تجلب عليهم غضب السلطة وعـــدم رضـاهـا الـذي قـــد يـكـلـفـهـ­م مــواقــعـ­ـهــم ويــحــطــ­م آمــالــهـ­ـم في تسلق ساللم الوالء والطاعة لها. أما الحركة الطالبية املغربية فقد كانت دائما في مقدمة نضال الشعب املغربي، تقود حركته املدنية، وتوجه أحزابه السياسية، وقدمت على مر تـاريـخ املـغـرب الكثير مـن املــواقــ­ف البطولة والتضحيات الكبيرة لقيادة املجتمع نحو التغيير والتقدم والتطور. وفي فترة الحراك الشعبي الذي عرفه املغرب، سواء في أثناء حـركـة 20 فـبـرايـر/ شـبـاط عــام 2011 أو في أثـــنـــا­ء حــــراك الـــريـــ­ف عـــام 2016 كـــان شـبـاب الجامعات هـم الـذيـن يـقـودون (ويــؤطــرو­ن) الــــتـــ­ـظــــاهــ­ــرات الــــتـــ­ـي جــــذبـــ­ـت آالف الـــشـــب­ـــاب مــــن جـــمـــيـ­ــع الـــفـــئ­ـــات ومـــــن كــــل املـــســـ­تـــويـــا­ت التعليمية، ما أعطى لتلك الحراكات زخما كبيرًا كان له أثره داخل املجتمع لوال تكالب السلطة والدولة واألحزاب عليها. وما يمنع اليوم الحركة الطالبية املغربية من التعبير عن صوتها عاليا هو موجة القمع املمنهج الذي نجحت آلة القمع في املغرب بتعميمه على جميع أصوات االحتجاج. وفــي انتظار أن يصحو ضمير الجامعات في منطقتنا العربية، فإن الحرب اإلجرامية الدائرة رحاها في غزة جعلت كثيرين، حتى مـــن الــبــعــ­يــديــن عـــن املــنــطـ­ـقــة وعــــن الـقـضـيـة، يـــعـــان­ـــون مــــن أزمــــــة أخـــالقــ­ـيـــة عــمــيــق­ــة، وإذا لــم يستجب الـعـالـم لــأصــوات الــتــي ترتفع مطالبة بـوضـع حـد للمأساة، ســوف تكون لـــهـــذه األزمـــــ­ـة األخـــالق­ـــيـــة تـــداعـــ­يـــات رهـيـبـة وعــــواقـ­ـــب إنــســانـ­ـيــة مــــدمـــ­ـرة عــلــى مستقبل الـتـعـايـ­ش الــبــشــ­ري الــقــائـ­ـم عـلـى قـيـم نـراهـا اليوم تتحطم أمامنا مثل أصنام بالية وال أحد يتحرك!

أصبح رؤساء الجامعات المغربية، في العقدين األخيرين، مجّرد موظفين يحرصون على مناصبهم ومزاياهم أكثر من حرصهم على سمعتهم العلمية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar