أوروبا التي تمحو ذاتها يعيش
المواطن األوروبي في أوج تمزّقه، مقيّدًا بثقافة االستهالك، ومنقادًا بشكل أعمى وراء ثقافة اإلعالم األيديولوجية وثقافة التقنية
فــــي شـــكـــل الـــعـــالقـــة الـــراهـــنـــة الـــتـــي تـفـرضـهـا الـــــــواليـــــــات املــــتــــحــــدة األمــــيــــركــــيــــة عــــلــــى دول االتحاد األوروبي إنذار مبكر لتزعزع أوروبا وانـــهـــيـــارهـــا، ســيــاســيــا، وحــضــاريــا وثـقـافـيـا. وفـيـهـا مــا يـنـذر بـــأن أمـيـركـا صـــارت تتعامل مـع هــذه الــقــارة على أنـهـا فـضـاء شبيه بذلك الفضاء العربي الخاضع، واملستسلم وقائيا، بــشــكــل شــبــه كــــامــــل. فــفــي ظــــل نــمــط الـثـقـافـة االستهالكي الذي يغزو املجتمعات األوروبية، والذي تنتجه الرؤية األميركية للعالم، يعيش املواطن األوروبي اليوم في أوج تمزقه، مقيدًا بثقافة االستهالك، ومنقادًا بشكل أعمى وراء ثقافة اإلعالم األيديولوجية واملوجهة، ووراء ثــقــافــة الـتـقـنـيـة الــقــائــمــة بــحــد ذاتـــهـــا، والــتــي تقتلع اإلنسان األوروبي من جذوره وتطيحه فـــي هـــاويـــة الــعــبــث وعـــــدم الـــيـــقـــن. مـــن يـعـش فـي املجتمعات األوروبــيــة الـيـوم، يـــدرك كيف يتحول مواطنوها إلى دمى تلهو بها تقنية اآللـــة. وهــا هـو هــذا املــواطــن يلهث لـيـال نهارًا كـي يلحق بوتيرة «الـتـقـدم» اآللــي األميركي، لـكـنـه مــع ذلـــك يـشـعـر بـالـعـجـز أمــــام وتيرتها الــســريــعــة، بــســبــب عــــدم قـــدرتـــه عــلــى الــلــحــاق بها. األمــر الــذي يـسـبـب، شيئا فشيئا، بنقله إلـى حالة اجتماعية وثقافية مختلفة، حالة أشبه بشعور العجز. وأمام هذا العجز وعدم الــقــدرة يـبـدأ الـتـشـوه: يفقد هويته، ويتخلى عـن شخصيته، ويـتـحـول إلــى قنبلة موقوتة تنفجر حولها وال تترك إال األشالء والركام. نموذج الثقافة األميركية في الحياة وأنماط الـتـفـكـيـر وأســالــيــبــهــا آخــــذ فـــي تـغـيـيـر هـويـة اإلنــــســــان األوروبـــــــي الــحــضــاريــة والــثــقــافــيــة، لـــدرجـــة أنـــه لـــو ســألــت الـــيـــوم فـــي املجتمعات األوروبــــيــــة، تـمـثـيـال ال حــصــرًا، مــا هــي أشهر أعــمــال غـوتـه أو ثـربـانـتـس، لــوركــا أو رامـبـو، بيالثكس أو غــويــا، مــقــارنــة مــع أحـــدث أفــالم «األكشن» األميركية، أو أحدث ألبومات مغني «الراب»، فسيكون الجواب بأن األسماء الثانية هـــي الـــتـــي يــعــرفــهــا املـــواطـــنـــون األوروبــــيــــون.
امحاء الذاتية األوروبية يكاد يكون شبيهًا بامحاء الذاتية العربية
ال شــــك فـــي أن هــــذه «الــثــقــافــة» االسـتـهـاكـيـة والــتــقــنــيــة الــتــي تـــروجـــهـــا الــــواليــــات املـتـحـدة األميركية في أوروبــا آخـذة في تغييب هوية أوروبا باملعنى الحضاري للكلمة. ال يختلف األمــــر كــثــيــرًا فـــي الــســيــاســة، فــهــا هـــي أوروبــــا تــــشــــارك الــــواليــــات املـــتـــحـــدة رؤيـــتـــهـــا لــلــعــالــم وألحـداثـه، سـواء في أوكرانيا، أو في غــزة، أو فـي سـوريـة أو فـي اليمن، أو فـي ليبيا أو في مـعـظـم املــنــاطــقُ الــســاخــنــة. مـــن تـعـلـن أمـيـركـا الـــحـــرب عــلــيــه، تـــســـارع أوروبــــــا إلـــى مــعــاداتــه وإعان الحرب عليه أيضًا. وما تريده الرؤية األمـيـركـيـة والـصـهـيـونـيـة، تـــراه دول االتـحـاد األوروبــــــي. فـهـل فــي هـــذا الـتـغـيـيـب والـطـمـس واملــــحــــو الـــســـيـــاســـي والـــثـــقـــافـــي والـــحـــضـــاري للذاتية األوروبــيــة مـن قبل الـواليـات املتحدة مقدمات لتحويل الفضاء األوروبي إلى «دول عالم ثالث»؟ قـد يكمن أحــد أسـبـاب غياب الـعـرب سياسيًا وحــضــاريــًا وثـقـافـيـًا فــي امــحــاء الــذاتــيــة التي تمارسها مجموعة من العوامل، في مقدمتها الـطـغـيـان الـسـيـاسـي والــديــنــي، واالسـتـعـمـار. وفــــي هــــذا مـــا أدى إلــــى امـــحـــائـــه، لــلــمــفــارقــة، جـــمـــاعـــيـــًا، وفـــــرديـــــًا. إن عــمــلــيــة املــــحــــو الــتــي تمارسها الواليات املتحدة األميركية للذاتية األوروبــــيــــة ســــتــــؤدي، حــتــمــًا، فـــي نــهــايــة إلــى املطاف، إلى تحويل أوروبـا إلى «عالم ثالث» بالنسبة ألميركا، وطمس ذاتيتها، على غرار الذاتية العربية الذائبة، وبالتالي إلـى غياب أوروبا حضاريًا وثقافيًا وفكريًا.