Al Araby Al Jadeed

أوروبا التي تمحو ذاتها يعيش

المواطن األوروبي في أوج تمزّقه، مقيّدًا بثقافة االستهالك، ومنقادًا بشكل أعمى وراء ثقافة اإلعالم األيديولوج­ية وثقافة التقنية

- جعفر العلوني

فــــي شـــكـــل الـــعـــا­لقـــة الـــراهــ­ـنـــة الـــتـــي تـفـرضـهـا الـــــــو­اليـــــــ­ات املــــتــ­ــحــــدة األمــــيـ­ـــركــــي­ــــة عــــلــــ­ى دول االتحاد األوروبي إنذار مبكر لتزعزع أوروبا وانـــهـــ­يـــارهـــ­ا، ســيــاســ­يــا، وحــضــاري­ــا وثـقـافـيـ­ا. وفـيـهـا مــا يـنـذر بـــأن أمـيـركـا صـــارت تتعامل مـع هــذه الــقــارة على أنـهـا فـضـاء شبيه بذلك الفضاء العربي الخاضع، واملستسلم وقائيا، بــشــكــل شــبــه كــــامـــ­ـل. فــفــي ظــــل نــمــط الـثـقـافـ­ة االستهالكي الذي يغزو املجتمعات األوروبية، والذي تنتجه الرؤية األميركية للعالم، يعيش املواطن األوروبي اليوم في أوج تمزقه، مقيدًا بثقافة االستهالك، ومنقادًا بشكل أعمى وراء ثقافة اإلعالم األيديولوج­ية واملوجهة، ووراء ثــقــافــ­ة الـتـقـنـي­ـة الــقــائـ­ـمــة بــحــد ذاتـــهـــ­ا، والــتــي تقتلع اإلنسان األوروبي من جذوره وتطيحه فـــي هـــاويـــ­ة الــعــبــ­ث وعـــــدم الـــيـــق­ـــن. مـــن يـعـش فـي املجتمعات األوروبــي­ــة الـيـوم، يـــدرك كيف يتحول مواطنوها إلى دمى تلهو بها تقنية اآللـــة. وهــا هـو هــذا املــواطــ­ن يلهث لـيـال نهارًا كـي يلحق بوتيرة «الـتـقـدم» اآللــي األميركي، لـكـنـه مــع ذلـــك يـشـعـر بـالـعـجـز أمــــام وتيرتها الــســريـ­ـعــة، بــســبــب عــــدم قـــدرتـــ­ه عــلــى الــلــحــ­اق بها. األمــر الــذي يـسـبـب، شيئا فشيئا، بنقله إلـى حالة اجتماعية وثقافية مختلفة، حالة أشبه بشعور العجز. وأمام هذا العجز وعدم الــقــدرة يـبـدأ الـتـشـوه: يفقد هويته، ويتخلى عـن شخصيته، ويـتـحـول إلــى قنبلة موقوتة تنفجر حولها وال تترك إال األشالء والركام. نموذج الثقافة األميركية في الحياة وأنماط الـتـفـكـي­ـر وأســالــي­ــبــهــا آخــــذ فـــي تـغـيـيـر هـويـة اإلنــــسـ­ـــان األوروبـــ­ــــي الــحــضــ­اريــة والــثــقـ­ـافــيــة، لـــدرجـــ­ة أنـــه لـــو ســألــت الـــيـــو­م فـــي املجتمعات األوروبـــ­ـيــــة، تـمـثـيـال ال حــصــرًا، مــا هــي أشهر أعــمــال غـوتـه أو ثـربـانـتـ­س، لــوركــا أو رامـبـو، بيالثكس أو غــويــا، مــقــارنـ­ـة مــع أحـــدث أفــالم «األكشن» األميركية، أو أحدث ألبومات مغني «الراب»، فسيكون الجواب بأن األسماء الثانية هـــي الـــتـــي يــعــرفــ­هــا املـــواطـ­ــنـــون األوروبـــ­ـيــــون.

امحاء الذاتية األوروبية يكاد يكون شبيهًا بامحاء الذاتية العربية

ال شــــك فـــي أن هــــذه «الــثــقــ­افــة» االسـتـهـا­كـيـة والــتــقـ­ـنــيــة الــتــي تـــروجـــ­هـــا الــــوالي­ــــات املـتـحـدة األميركية في أوروبــا آخـذة في تغييب هوية أوروبا باملعنى الحضاري للكلمة. ال يختلف األمــــر كــثــيــرًا فـــي الــســيــ­اســة، فــهــا هـــي أوروبــــا تــــشــــ­ارك الــــوالي­ــــات املـــتـــ­حـــدة رؤيـــتـــ­هـــا لــلــعــا­لــم وألحـداثـه، سـواء في أوكرانيا، أو في غــزة، أو فـي سـوريـة أو فـي اليمن، أو فـي ليبيا أو في مـعـظـم املــنــاط­ــقُ الــســاخـ­ـنــة. مـــن تـعـلـن أمـيـركـا الـــحـــر­ب عــلــيــه، تـــســـار­ع أوروبـــــ­ـا إلـــى مــعــادات­ــه وإعان الحرب عليه أيضًا. وما تريده الرؤية األمـيـركـ­يـة والـصـهـيـ­ونـيـة، تـــراه دول االتـحـاد األوروبـــ­ـــي. فـهـل فــي هـــذا الـتـغـيـي­ـب والـطـمـس واملــــحـ­ـــو الـــســـي­ـــاســـي والـــثـــ­قـــافـــي والـــحـــ­ضـــاري للذاتية األوروبــي­ــة مـن قبل الـواليـات املتحدة مقدمات لتحويل الفضاء األوروبي إلى «دول عالم ثالث»؟ قـد يكمن أحــد أسـبـاب غياب الـعـرب سياسيًا وحــضــاري­ــًا وثـقـافـيـًا فــي امــحــاء الــذاتــي­ــة التي تمارسها مجموعة من العوامل، في مقدمتها الـطـغـيـا­ن الـسـيـاسـ­ي والــديــن­ــي، واالسـتـعـ­مـار. وفــــي هــــذا مـــا أدى إلــــى امـــحـــا­ئـــه، لــلــمــف­ــارقــة، جـــمـــاع­ـــيـــًا، وفـــــردي­ـــــًا. إن عــمــلــي­ــة املــــحــ­ــو الــتــي تمارسها الواليات املتحدة األميركية للذاتية األوروبـــ­ـيــــة ســــتــــ­ؤدي، حــتــمــًا، فـــي نــهــايــ­ة إلــى املطاف، إلى تحويل أوروبـا إلى «عالم ثالث» بالنسبة ألميركا، وطمس ذاتيتها، على غرار الذاتية العربية الذائبة، وبالتالي إلـى غياب أوروبا حضاريًا وثقافيًا وفكريًا.

 ?? )Getty( ?? من تظاهرة مطالبة بوقف تسليح الكيان الصهيوني أمام البرلمان البريطاني، لندن، 17 نيسان/ إبريل 2024
)Getty( من تظاهرة مطالبة بوقف تسليح الكيان الصهيوني أمام البرلمان البريطاني، لندن، 17 نيسان/ إبريل 2024

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar