دراما سينمائية واقعيّة
يعاين «الحّب والغابات» عالقة إنسانية تبدأ بالحب وتنفتح على مشاعر وارتباطات وتفكير وعيش، بلغة سينمائية تطرح سؤال السينما الفرنسية كلها
بُع ٌد حكواتي فالُصَور تقول واألجساد تعلن وتنتشي
فــي «الــحــب والــغــابــات» ،)2023( تــــــحــــــاول املــــخــــرجــــة الـــفـــرنـــســـيـــة فـــالـــيـــري دونـــزيـــلـــي ،)1973( أن تقبض على مـامـح عــاقــة إنسانية تنشأ
ُُ صـــدفـــة فـــي حـــانـــة لـيـلـيـة بـــن امـــــرأة تــدعــى بــانــش (فــيــرجــيــنــي إفــــيــــرا)، ورجــــل يــدعــى غريغوار (ميلفيل بوبو)، فتبدأ قصة حب بينهما. تـدخـل الــصــور األولـــى مشاهديها إلـــى عـــالـــم رومـــانـــســـي جــــــذاب، يــبــدو الــحــب فيه كـأنـه وقـــود ضـــروري للجسد، لتكتمل فــرحــتــه وبــهــجــتــه. لـــكـــن الـــجـــســـد، املـنـتـشـي بالحب واللذة، يضطرب في مشاهد أخيرة، ويصبح ثقيا وأكثر نفورًا من جهة املرأة. املـــــوضـــــوع عـــــــــادي، لـــكـــن فــيــلــمــهــا الــــروائــــي الطويل السادس هذا قوي في املعالجة، وفي طرح أسئلة نفسية عميقة عن الفتور الذي يصيب الـعـشـاق بعد الــــزواج. رغــم محاولة دونزيلي ابتكار صور سينمائية مذهلة، في الكادر واللعب بالضوء والظل، يبدو «الحب والغابات»، في لحظة، غارقًا في رومانسية عمياء، ترى في الحب مشاهد جنسية فقط. يحيل هـذا إلـى أفــام فرنسية كثيرة، يغدو الجنس فيها تدريبًا جسديًا على استفزاز الــعــن، وتـحـريـك الــداخــل. إلــى درجـــة تتكرر فيها هــذه املـشـاهـد، وتخضع إلــى تسلسل
ٌٍ ســطــحــي ال يــــولــــد صــــــــورًا وإيــــقــــاعــــات. أمــــر كـهـذا بـــات مـألـوفـًا فــي سينما فرنسية بـدأ يصيبها الشرخ منذ لحظة إدراكها ضرورة انفتاحها عـلـى تــحــوالت الــواقــع الفرنسي. أفــام فرنسية، تعرض في قنوات وصـاالت تجارية ومنصات ومواقع، ال تقدر على دفع صــورهــا إلــى الامنتهى، الـــذي يـعـد شرطًا أساسيًا لفعل اإلبداع واالبتكار. في السينما الفرنسية، املنتجة واملـصـورة واملــعــروضــة فــي صـــاالت عـربـيـة وأجـنـبـيـة، هــنــاك اســتــبــدال ملـفـهـوم «الــنــظــر» بالحكي. فـــالـــنـــظـــر يـــــحـــــول كـــتـــابـــة الـــســـيـــنـــاريـــو إلـــى عملية فـكـريـة، ترتكز على فعل النظر إلى حــــد يــصــبــح فــيــهــا الــفــيــلــم أشـــبـــه بمختبر فـكـري، وشــال بصري تفيض منه الـصـور والعامات واألزمنة واألفكار. هكذا، تضمر الــــصــــورة الــســيــنــمــائــيــة أكـــثـــر مـــمـــا تـــبـــوح، ألنها تغدو عبارة عن كتلة بصرية مركبة، هاجسها التأمل ال الحكي. فـــي «الــــحــــب والـــغـــابـــات» تــعــطــي دونــزيــلــي لــلــصــورة بـــعـــدًا حــكــواتــيــًا. فـــالـــصـــور تـقـول، واألجـــــســـــاد تـــعـــلـــن وتـــنـــتـــشـــي. هـــكـــذا تــبــدأ عملية الــحــدس بالنسبة إلـــى املــشــاهــد، إذ يصبح عـارفـًا، يتوقع مـا يمكن أن يحصل بعد دقـائــق. أمــر كهذا ُُ يـذكـربـأفـام هندية تــافــهــة، يسخر منها املــشــاهــد، العتمادها خــطــًا ســـرديـــًا رتــيــبــًا، وحــكــايــة رومـانـسـيـة مألوفة، قبل املشاهدة. هذا غير مقبول في تـــراث سينمائي فـرنـسـي، يـتـشـدق صناعه بأنهم األفضل عامليًا، رغم أن تحوالت فنية كثيرة تـدحـض هــذا الـــرأي، فـي مهرجانات وصــاالت. لم يعد الفيلم الفرنسي مطلوبًا، ما دام الكثير من إنتاجه سطحيًا وترفيهيًا، ويــنــحــو إلــــى الـــتـــجـــارة أكـــثـــر مـــن الـسـيـنـمـا. بيد أن هـذا ال يمنع عن «الحب والغابات» مـتـعـتـه الـحـسـيـة، ألنـــه غــامــر بـــصـــور قابلة لـتـكـثـيـف الـــتـــأمـــل فـــي مــفــهــوم الـــحـــب، وفــي عاقته بـالـزمـن. كما أن مــا يـمـيـزه احتفاء فـــالـــيـــري دونـــزيـــلـــي بـــالـــيـــومـــي الــــعــــادي في حياة الناس. فالسينما الحقيقية منشغلة بهذا اليومي الرتيب، وبتحويله إلى عملية شعرية منتجة للحكايات. فيه تقاطعات بــن مــا تعيشه الـشـخـصـيـات مــن حــــب، ومـا تــريــد املــخــرجــة قــولــه، إذ لـديـهـا وعـــي دقيق بانكسارات الحب، تبدأ لحظة انتقال بانش لــلــعــيــش مـــع غـــريـــغـــوار، إذ يــتــعــطــل الـــحـــب، والــجــســد غـيـر قــــادر عـلـى إنــتــاجــه. لــكــن، في غــمــرة هـــذا الــتــصــدع الـجـسـدي بفعل سلطة الزوج على زوجته، والتمادي في استنطاقات واسـتـجـوابـات، تــقــرر بـانـش خــرق الـقـاعـدة، ووضـع حد لهذه العاقة، بالهجران أوال ثم بالخيانة، التي تصوره فاليري دونزيلي في املشاهد األخيرة كأنه نوع من تحرر جسدي، قائم على االنعتاق عبر اللذة. يندرج «الحب والغابات» في سلسلة أفام تــــقــــدم ســيــنــمــا واقـــعـــيـــة بـــمـــقـــاديـــر مــغــايــرة ومعاصرة، الجتراح أفق بصري جديد، وإن كانت أفـام كثيرة غير قــادرة على مامسة هذا العمق البصري، الذي يحول منتوجها إلـى مــادة فكرية مفيدة للمشاهد والناقد. مـعـضـلـتـه أن املـــشـــاهـــد يــحــدس بــكــل شـــيء ُّ في الحكاية وتمثاتها البصرية. مرد ذلك غياب نــوع مـن تفكير المـرئـي، يـحـولـه إلى سيرة ال مرئية، تستدعي التفكير والتأمل. فالصور عبارة عن براديغمات ال تقرأ وال تــشــاهــد بــاملــفــهــوم الــتــقــلــيــدي، بـــل يـــحـــدس
َْ وقعها ويحس بإيقاعها. وفق هذا التصور السينمائي، يغدو األمر أداة لتمطيط مفهوم الحكاية، إذ يغلب بشكل أكـبـر على مسار الفيلم بطريقة فجة أحيانًا، تجعل دونزيلي تــــدخــــل شـــخـــصـــيـــات أخـــــــرى فــــي الــحــكــايــة األصل، رغم أن ال أثر فنيًا لهذه الشخصيات على فروعها. فكل صــورة واقعية من دون فــعــل تـخـيـيـلـي تــقــتــل الــســيــنــمــا، الـــتـــي رغــم انـتـمـائـهـا الفلسفي الـــقـــوي ّْ والـــجـــذريإلـى الــواقــع، تظل فنًا إبـداعـيـًا محضًا. إذ يعثر في األفـــام، التي تعتبر أكثر واقعية، على نــفــس تخييلي، يـغـدو فيها الــواقــع خـيـاال. وانخفاض منسوب الخيال في الفيلم يعطل التخييل، ويجعله باهتًا يلهث وراء نزوات عابرة، وقصص مألوفة، كتابة وإخراجًا.