Al Araby Al Jadeed

المانحون وسيادة الدول

- حسن مدن

يكثر الحديث، ليس اليوم فقط وإنما منذ سنوات، بل وعقود، عن وصفات (روشتات) البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي أصبحت بمثابة املقرر اإلجباري الذي على كل الـدول التي تحتاج القروض املالية اتباعه، رغم ما تظهره التجارب من التداعيات املـؤملـة لـهـذه «الــروشــت­ــات». فتجد هــذه الــــدول، الـتـي تـعـود أسـبـاب حاجتها للقروض

ّْ ّّ مــن املــؤســس­ــتــن املـالـيـت­ـن الـعـاملـي­ـتـن األشـــهــ­ـر، ومـــن سـواهـمـا مــن صـنـاديـق ودول، إلـــى تـعـثـرهـا االقــتــص­ــادي ألســبــاب مختلفة، بينها ســـوء اإلدارة وغــيــاب التخطيط الصحيح، وتفشي الفساد في أوسـاط القوى املتنفذة املاسكة بزمام السلطة واملال.

ّْ ومعلوم أن سلطة البلدان املتمكنة ماليًا في هاتن املؤسستن مرتبطة بحجم إسهاماتها املالية فيهما، وألن األغنى هو األكثر قدرة على الدفع، فإنه يحوز سلطة أقـوى، ومن ثم، تجد البلدان الفقيرة نفسها أسيرة أغنياء العالم، الذين يضعونها تحت الوصاية، ألنها لن تقوى على تسديد ديونها، وحتى تسديد أرباح هذه الديون، وستجد نفسها محمولة على تخفيض مستوى معيشة شعوبها استجابة لشروط الدائنن. ومـــن الــوصــفـ­ـات املـــعـــ­تـــادة الــتــي ُّ تـــجـــبـ­ــرالـــــ­دول املــديــن­ــة عـلـى تـنـفـيـذه­ـا: رفـــع أسـعـار املحروقات، وزيادة الضرائب بشكل مطرد، وتقليص الخدمات أو رفع كلفتها، وحمل الحكومات على التخلي عن كثير من التزاماتها تجاه مواطنيها في مجاالت حيوية مثل الصحة والتعليم، والبنى التحتية والـخـدمـا­ت البلدية، والحماية االجتماعية. ولو تتبعنا تاريخ الثورات واالنتفاضا­ت واالحتجاجا­ت الشعبية التي شهدتها كثير من البلدان التي توصف بـ«النامية»، لوجدنا أن شرارة اندالعها هي فرض تدابير من وصفات البنك الدولي، وقرينه صندوق النقد الدولي، وغيرهما، حن تجد الغالبية الفقيرة في هذه البلدان نفسها محمولة على االحتجاج، ألن ليس في طاقتها تحمل املزيد من األعباء املعيشية بسبب تلك الوصفات، الخالية من الحس اإلنساني السوي، والتي ال يبالي فارضوها بمعاناة الفقراء واملعدمن وكل ذوي الدخل املحدود، ألنهم، هم بالذات، من يتعن عليهم دفع األثمان الباهظة لخطط «اإلصــاح»، التي ال تقدم سوى الحلول املعهودة من تقليص أو حتى رفع الدعم عن أسعار مواد غذائية حيوية. ورغـم أن الحكومات تلجأ، في أغلب األحــوال، إلى إلقاء الائمة في تلك التحركات على «تــدخــات خـارجـيـة» ومــا إلـيـهـا، إال أن التجربة برهنت على أن غالبية هذه االحتجاجات تنطلق عفويًا من غضب الشارع. ليس الفقراء وذوو الدخل املحدود وحدهم من تطاولهم بالتأثير السلبي وصفات املانحن املالين، وإنما، أيضًا، قطاعات واسعة من الفئات الوسطى، ولو أخذنا بلداننا العربية مثاال، لوجدنا أن بعض الباحثن يتحدثون عما يصفونه بـ«انشطارات» الطبقة الوسطى، في إشارة إلى أن هذه الطبقة ليست كتلة واحدة، وإنما هي فئات متنوعة، وأحد أسباب ذلك هو تعدد وتنوع املنابت االجتماعية لهذه الفئات، وهو األمر الذي ينعكس على تكوين مزاجها السياسي والفكري، الذي يبدو، هو اآلخر، متنوعًا ومتعددًا، وهو أمر نجد تجليات له واضحة في مجتمعاتنا الخليجية، التي تشكل حالة خاصة في خصائص تطورها االجتماعي، وبنيتها االقتصادية القائمة على االقتصاد الريعي، ومع األزمات االقتصادية العاملية، والتوتر اإلقليمي بأبعاده الدولية، وتقلبات أسعار الطاقة، إضافة إلى سوء اإلدارة واإلنفاق وآفة الفساد، فإن بعض الحكومات تعجز عن الوفاء بكثير من التزاماتها االجتماعية التي اعتادها مواطنو هذه الدول، ما يدعو إلى الوقوف بجدية أمام اآلراء التي يلحظ أصحابها أن استمرار ارتفاع األسعار والتضخمّ املتزايد، وثبات األجور عند حالها، تؤدي موضوعيًا إلى تآكل الفئات الوسطى، وتعرض أجزاء منها لإلفقار، وهو أمر يمكن أن يزداد في الفترة املقبلة أيضًا، وطبيعي أنه تترتب عن ذلك مفاعيل اجتماعية واقتصادية عدة، خاصة إذا ما تذكرنا القاعدة القائلة إن الفئات الوسطى هي حافظة التوازنات االجتماعية. لـأمـر جـانـب آخــر على قـــدر كبير مـن األهـمـيـة، يتصل بـسـيـادة الـــدول وقـراراتـه­ـا الـداخـلـي­ـة، فـــإذا مـا ارتـهـنـت الحكومات فـي نهجها االقــتــص­ــادي، الـــذي هـو العصب األساسي ألي مجتمع، إلـى «الهوامير» من املانحن املالين الدولين الذين يملون عليها شروطهم قسرًا، فعن أّي سيادة بعدها نتحدث؟

َُ أصبحت لدى إسرائيل اآلن جبهات عسكرية عديدة نشطة فعليًا، تتراوح شدتها بني قوية ومتوسطة، فما زالت حربها داخل قطاع غزة مستمرة، وهي أسخن الجبهات، إذ تحشد إسرائيل لها معظم قواتها، والجبهة التي تليها، هي تلك املحاذية لجنوب لــبــنــا­ن، فـقـد شـهـد جـانـبـا الــحــدود قصفًا شـبـه يـومـي أدى إلـــى إفــــراغ املستوطنات اإلسرائيلي­ة الحدودية من سكانها، كما تسبب في هجرة كثيرين من سكان قرى الجنوب اللبناني. ورغــم أن هــذه الجبهة لـم تـهـدأ، إال أن شدتها تعلو وتهبط على إيــقــاعـ­ـات سياسية مــحــددة، ويمكن عـد مـا يحدث عبر الـحـدود تمهيدًا متصاعدًا، مرشحًا ملزيد من السخونة بحسب تطور األوضـــاع. ونستطيع عـد سورية جبهة أخرى، رغم أنها، في الغالب، جبهة من طرف واحد، فتنفذ إسرائيل، بوتائر سريعة، هجمات على أهداف فيها، يطاول بعضها منشآت أو أشخاصًا، وأنشطة في الداخل السوري، أشدها ضربة القنصلية اإليرانية في دمشق، التي أذنت بفتح جبهٍة جديدٍة في مواجهٍة مباشرٍة مع إيران. تعد إسرائيل العدة لهجوم كبير على رفح، وذلك يتطلب حشد قوة عسكرية كبيرة من الضباط واملجندين، وقوات االحتياط الذين استدعوا فعال، فيما تتفاعل الجبهة ضد حزب الله، إذ نفذت إسرائيل، قبل أيـام، هجومًا قيل إنه طـاول 40 نقطة، وهو هجوم واسع يحمل كثيرًا من التحدي، أعقبته هجومات متواترة أودت إحداها بحياة القيادي في الجماعة اإلسالمية في لبنان مصعب خلف، ما يعني أن لدى إسرائيل نيات مبيتة ملزيد من التصعيد، بل تسعى إلى تسخني الجبهات التي تبدو خامدة أو متوسطة الشدة، ويبدو أنها لم تستمع إلى النصيحة األميركية، وال إلى نصائح حلفاء غربيني آخرين، بالتروي تجاه إيران، بعد استيعاب ضربة الـ003 قذيفة، والرد بالهجوم على أصفهان، فتزيد من زخـم نيرانها على جبهة الشمال، حيث لبنان وسورية، وتتابع االستعدادا­ت للهجوم على رفح. هذا االندفاع العسكري املتعدد يأتي كله في وقت واحد. لدى إسرائيل خبرة سابقة في الحرب على أكثر من جبهة، فهي خاضت حربني، واجهت خاللهما جيوشًا نظامية كبيرة، كان ذلك في العام ،1967 عندما شنت ما سمته حربًا «وقائية» على الجبهتني السورية واملصرية، كما وقفت في العام 1973 أيامًا عدة للدفاع، قبل أن تتحول إلى الهجوم على الجبهتني. ما ميز تلك الحروب أنها كانت قصيرة املــدة، فلم تتعد الحرب األولـى أيامًا ستة حتى سكنت املدافع، وبدأت الجيوش تحصن الخطوط التي وقفت عندها، فيما استمرت الحرب الثانية 18 يومًا، بدأت في 6 أكتوبر/ تشرين األول )1973( وتوقفت فعليًا في الـ42 منه، وهما حربان استطاعت إسرائيل إدارتهما، وكان زمنهما القصير عامال في مصلحتها، ولكن حربها في غزة تجاوزت ستة أشهر من دون نصر حاسم. خاضت إسرائيل حروبًا سابقة في غزة، تفاوتت بني التوغل أو االكتفاء بالقصف من بعيد، وهي على درايـة بجغرافيا غـزة، وكانت مسيطرة بشكل تام على القطاع منذ 1967 وحتى .2005 جنوب لبنان، هو اآلخــر، كـان مرتعًا للقوات اإلسرائيلي­ة منذ العام ،1978 مـرورًا باجتياح لبنان في عام ،1982 والحروب مع حزب الله بعد العام .2000 هذا التمرس يعطي إسرائيل نقاطًا إضافية، ولكن معركة غزة األخيرة تحرمها مــن ميزة الـحـرب السريعة، وهنا مـن املمكن أن تتدخل الــواليــ­ات املتحدة فــي الحسم ملصلحتها، ولـكـن تبقى لــدى إسرائيل نقطة ترتكز عليها، وهــي عدم رغبة األطراف األخرى في التصعيد، وقد ظهر ذلك واضحًا خالل مالبسات الفترة املاضية، األمـر الـذي يمكن أن تستغله إسرائيل فتستفرد بتلك الجبهات، كل على حدة، وهي إن نفذت هجومهًا على رفح، وأنهت األمر، فسيشكل ذلك حافزًا بالنسبة إليها، لفتح جبهة أخرى بشكل مباشر.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar