Al Araby Al Jadeed

جامعاتنا وجامعاتهم... الفرق والخلل

- محمد صيام

تــتــصــد­ر مــنــذ أيــــام أخـــبـــا­ر ثــــورة الــطــاب في الجامعات األميركية عناوين قنوات األخـبـار العاملية ومواقعها، وكــأن الكام يـدور عن حـدث غير عـادي، وغير معهود من ناحية الحجم والتفاعل، كما أنه حدث غير متوقع على ما يبدو لدى املجتمعني األكـــــا­ديـــــمــ­ـــي والــــســ­ــيــــاسـ­ـــي األمــــيـ­ـــركــــي­ــــني، ســيــمــا مــــع اتــــســـ­ـاع رقـــعـــت­ـــه الـــتـــي وصــلــت الــــيـــ­ـوم إلـــــى بـــعـــض الـــجـــا­مـــعـــات الــكــنــ­ديــة والـبـريـط­ـانـيـة واألســتــ­رالــيــة، وإلـــى معهد العلوم السياسية في بـاريـس. واملفاجأة األكــبــر فــي هـــذا الــحــدث أن الـقـضـيـة التي يــتــحــد فـــي نــصــرتــ­هــا هــــؤالء الـــطـــا­ب هي نفسها التي يتحد في خذالنها الساسة األميركيون، وأتباعهم من الغرب، فهؤالء هـم طابهم وأوالدهـــ­ـم، ولــن يتمكنوا من اتــهــامـ­ـهــم بــكــراهـ­ـيــة الـــغـــر­ب أو مـعـاداتـه­ـم القيم الحضارية. وأعجب مــن هـذا وذاك، أننا معشر العرب في الشرق الغافي، رغم هــذه اليقظة الكبيرة كلها، مـا زال دورنــا مقصورًا، ويا لألسف، على املشاهدة. يـرقـب الواحد منا ثـورة الطاب املشتعلة حـالـيـا فــي الــجــامـ­ـعـات األمــيــر­كــيـة بـأربـعـة أعــــني. أولـــهـــ­ا، عـــني الـــفـــر­ح؛ أن قـــيـــض الـلـه للشعب املذبوح في قطاع غزة من ينصره، ويـتـضـامـ­ن مــعــه، ويـــدافــ­ـع عــنــه، هــنــاك في أقصى األرض، في عقر دار الدولة الداعمة لإلبادة الصهيونية، في وقــت استطاعت فيه وسائل اإلعام الحديثة، نقل األحداث لحظيا ساعة وقوعها، ما جعل إخفاءها عـــن أعــــني األحــــــ­ـرار فـــي الـــعـــا­لـــم ضـــربـــا من مستحيل. ومـــع اســتــمــ­رار تــدفــق املـشـاهـد املــروعــ­ة، التي تبث على مــدار الساعة من داخـــل الـقـطـاع، لـم تحتمل نـفـوس الطاب األبية الحرة مزيدًا من صمت، فقرروا القيام بما يمليه عليهم اشتراكهم مع الضحايا

ًّ في اإلنسانية، والحق في الحرية، ووقف اإلبادة، فكانت ثورتهم عارمة، صارخة في وجه اإلدارة األميركية، فاضحة للمشروع الـصـهـيـو­نـي االســـتــ­ـعـــمـــا­ري، وكـــاشـــ­فـــة عن وجـهـه الحقيقي القبيح، وكــاســرة واحــدًا من «تابوهات» السياسة األميركية، التي تتبنى السردية الصهيونية، وهي سردية كـــــان يـــحـــظـ­ــر االقـــــت­ـــــراب مــنــهــا أو تــوجــيــ­ه النقد واالعـــتـ­ــراض على سـلـوك االحــتــا­ل، مهما بلغ مـن همجية. لكن ثــورة الطاب أنـــهـــت عـصـر الـتـغـيـي­ـب هــــذا، كـمـا أطـلـقـت، فـي الـوقـت ذاتـــه، عصر الحقيقة، احتراما لـعـقـول الــطــاب وذكــائــه­ــم، ووقــفــا لعملية االستغباء، التي تجعل كل نقد واعتراض يوجه إلى الكيان الصهيوني، موجها إلى اليهود، لكن هؤالء الطاب األحرار جاؤوا ليغيروا هذا الثابت الزائف، وليقولوا إن انتقاد االحـتـال، ومهاجمة جيش الدولة اللقيطة، هـو بسبب أنـهـا تـمـارس اإلبــادة بحق غزة، منذ أشهر عدة. الـــعـــن­ي الــثــانـ­ـيــة هـــي عـــني الـــفـــخ­ـــر؛ الـفـخـر بـــالـــغ­ـــزيـــني فــــي الـــقـــط­ـــاع، الــــذيــ­ــن حـــركـــو­ا أحـــــــر­ار الـــعـــا­لـــم بـــصـــمـ­ــودهـــم، رغـــــم سـيـل الحمم املـاطـرة عليهم منذ أكثر من 200 يــــوم، كـــل يـــوم مـنـهـا هــو قــيــامــ­ة صــغــرى، فيها مــن األهــــوا­ل والـقـتـل والــرعــب مــا ال يمكن للكلمات تـصـويـره ووصــفــه، لكن الـــكـــا­مـــيـــرا­ت تــكــفــل­ــت بــــذلـــ­ـك، وأثـــبـــ­تـــت أن الفلسطينين­ي في غزة، لم ينكسروا تحت ســـطـــوة الـــجـــي­ـــش اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـي وقــصــفــ­ه الــهــمــ­جــي، فــكــان صــبــرهــ­م عــلــى الـــجـــر­اح، رسالة عابرة للقارات واملحيطات، قطعت الــبــحــ­ار واألنـــهـ­ــار والـــقـــ­فـــار، لـتـسـتـقـ­ر في الـــوعـــ­ي الــجــمــ­عــي لــلــعــا­لــم الــــحـــ­ـر، وبــثــت الـــحـــم­ـــاســـة فـــــي نــــفــــ­وس طــــــاب جــامــعــ­ة كولومبيا ابـتـداء، فيقود عمى البصيرة رئـيـسـة الـجـامـعـ­ة، نـحـو خــيــار اسـتـدعـاء الشرطة لـفـض اعتصام الــطــاب، ليكون شرارة أشعلت الثورة في باقي الجامعات التي حق أن نضرب لها ولطابها تعظيم سام. العني الثالثة التي ترقب الحدث، هي عني الــدهــشـ­ـة؛ تــنــدهــ­ش أمــــام مـشـهـد الــطــاب الثائرين، وتندهش من الـدافـع والحافز الـــــذي جــعــلــه­ــم يــقــفــو­ن فـــي وجــــه املــوجــة العاتية، يدافعون عن عقولهم وإرادتهم من حيث املبدأ، رافضني اتهامهم بأنهم مـضـلـلـون، فتحدى هـــؤالء الـطـاب تـيـارًا عــارمــا تــرعــاه اإلدارة األمــيــر­كــيــة، يـزيـف الـحـقـائـ­ق، ويــدعــم االحـــتــ­ـال، ويـــحـــر­م أي مـسـاس بـالـروايـ­ة الصهيونية. تندهش العني مـن إصـــرار هــؤالء الـطـاب األحــرار

يَر ُق ُب الواحد منّا ثورة الطالب المشتعلة حاليًا في الجامعات األميركية بأربع أعين. أولها، عي ُن الف َرح

على انــتــزاع حقهم الــدســتـ­ـوري الضامن حق تظاهرهم وحرية تعبيرهم، تندهش مــن ثباتهم فــي وجـــه الــشــرطـ­ـة والجيش اللذين حـاوال تفريقهم، ولكنهم يقولون لــن نتحرك مــن مكاننا فــي بوسطن قبل وقــف إطـــاق الـنـار فـي غـــزة، تندهش من مغامرتهم بمستقبلهم العلمي واملهني، وعدم مباالتهم بقرارات الفصل الجائرة فـــي حــقــهــم، هــــذا كـــلـــه، ألجــــل دعــــم شـعـب

ِِ بـعـيـد عـنـهـم جــغــرافـ­ـيــًا ونــــصـــ­ـرتــــه، لـكـنـه قــريــب منهم إنـسـانـيـًا. لــعــمــر­ي! مــا الــذي يـتـعـلـمـ­ه هــــؤالء الـــطـــا­ب فـــي جـامـعـاتـ­هـم األميركية، وغير موجود في جامعاتنا الـــعـــر­بـــيـــة؟ هــــذا ســـــؤال مــــركـــ­ـزي، يــقــودنـ­ـا إلــى العني الرابعة واألخــيــ­رة التي ترقب الـحـدث، وهــي عني الحسرة؛ حسرة على جامعات عربية ميتة سريريًا، ال أثر لها وال صوت، ال لون، وال طعم، ولكن رائحة مــبــان جامعية فــاحــت مــن طـــول الــركــود، تـــحـــتـ­ــاج إلـــــى إنــــعـــ­ـاشــــات عـــلـــهـ­ــا تـصـحـو مـــن نـــوم عــمــيــق، وارتـــعــ­ـاد الــفــرائ­ــص من بـــطـــش أنـــظـــم­ـــة ديـــكـــت­ـــاتـــور­يـــة مــتــســل­ــطــة، جعلت من قمع الحريات، وتكميم األفواه مهمتها الــكــبــ­رى، ووظيفتها األولـــى. إن جـامـعـات لــم تـحـركـهـا نــخــوة عربية، وال إنــســانـ­ـيــة، وال حــمــيــة أخــاقــيـ­ـة لـعـشـرات آالف الــشــهــ­داء، وعــشــرات آالف الجرحى، ومئات آالف املشردين، لن تكون يومًا من األيام منارة للعلم أو األخاق أو الحرية، وال مــنــارة لـلـشـارع املـــجـــ­اور، عـلـى عكس الحال في جامعات مثل كولومبيا، التي كانت فــي عــام 1968 مــن أوائـــل الكيانات األكاديمية التي انتفضت ضد الحرب في فيتنام، وها هي اليوم تثبت أنها ما زالت تورث الحرية واإلنسانية لطابها، جيا بعد جيل، وصوال إلى العام .2024 فــي خـضـم هـــذه الـتـفـاعـ­ات، يـبـرز تـسـاؤل كــبــيــر بــحــجــم الــــحـــ­ـدث، وهــــو ســـــؤال حــول العامل الـــذي جعل طــاب تلك الجامعات األمــيــر­كــيــةيـن­ـتـفـضـونل­ـلـمـطـالـ­بـةبحرية شــعــب آخـــر وإنــصــاف­ــه، فــي حــني أن طـاب الجامعات العربية، وجميع األواصر التي تربطهم بالشعب نفسه أقــوى من األوجـه كـــلـــهـ­ــا؟... الـــجـــو­اب ال يــتــســع لـــه مــجــال في مقالة صحافية، كما ال يمكن حصره في سبب أو ســبــبــن­ي... أو عــشــرة، ألن الجواب يجرنا مرغمني إلى الحديث عن منظومة كاملة من أساليب التربية وطرائقها في تلك املجتمعات والــجــام­ــعــات، كما يجرنا إلى الحديث عن دولة املؤسسات، ومبادئ التكافلاال­جــتــمــا­عــي،ومناهجالتد­ريس، واحـــــــ­تـــــــرا­م الــــقـــ­ـيــــم، ومـــــمــ­ـــارســــ­ـة الــــحـــ­ـريــــة، ومـــنـــظ­ـــمـــات املـــجـــ­تـــمـــع املـــــدن­ـــــي، واحـــتـــ­كـــام الــجــمــ­يــع لــلــدســ­تــور والــــقــ­ــانــــون. بـــــدءًا من الرئيس، وصوال إلى أصغر مواطن. هــــــذه الــــعـــ­ـوامــــل كــــلــــ­هــــا، وغــــيـــ­ـرهــــا، تـسـهـم مــجــّتــمــعــة فـــي والدة مــثــل هــــذه الــنــفــ­وس األبـــــي­ـــــة لــــــدى الــــطـــ­ـاب الـــجـــا­مـــعـــيـ­ــني، وقـــد ُّ

ُّ رأيــنــا أن املـعــلــ­م الــحــر ســيــخــر­ج للمجتمع طــالــبــًا حــــــرًا، وانـــظـــ­ر لـــو أحــبــبــ­ت إلـــى عــدد األســـــا­تـــــذة الــــذيــ­ــن اعـــتـــق­ـــلـــوا مــــع طــابــهــ­م، وانظر إلى أهالي هــؤالء الطاب يهرعون لدعم أبنائهم وبناتهم، مــن خلف أســوار الــجــامـ­ـعــة املـــحـــ­اصـــرة، ويـــمـــد­ونـــهـــم بــاملــاء والطعام، ويحثونهم على الثبات، الثبات من أجل تأكيد حقهم في التظاهر وحرية التعبير، بــالــقــ­در نفسه مــن الــثــبــ­ات ألجــل الفلسطينين­ي فــي غــــزة، وفـــي كــل مــا ذكــر أعـــاه، أمــل كبير، فـي حـريـة قريبة لشعب فلسطني، وعدالة واجبة لقضيته الشرعية، ألن طاب اليوم هم قادة املستقبل.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar