Al Araby Al Jadeed

مئتا يوم من الصمود ولهيب التضامن الذي يعصف بالعالم

- مصطفى البرغوثي (أمني عام املبادرة الوطنية الفلسطينية)

مئتا يوم من العدوان وحرب اإلبادة الجماعية على قطاع غزة، كانت أكثر من كافية لكشف مـــجـــمـ­ــوعـــة مـــــن الـــحـــق­ـــائـــق حــــــول إســــرائـ­ـــيــــل، ونضال الشعب الفلسطيني ضـد االحتالل، وما حققه من تأثير في العالم بأسره. أولها أن املجتمع اإلسرائيلي، ومنظومته الحاكمة، ينجرفان نحو الفاشية والتعصب األصولي الديني الـيـهـودي، والعنصرية املطلقة ضد الشعب الفلسطيني، بل ضـد العرب عمومًا. ثاني الحقائق أن حكومة بنيامني نتنياهو وجــيــش االحـــتــ­ـالل فـشـال فــي تحقيق أي من األهداف األربعة املعلنة، فال استطاعا اقتالع املقاومة، وال فرض السيطرة العسكرية على قطاع غــزة، ولـم ينجحا في اسـتـرداد أي من األســـرى بـالـقـوة العسكرية. واألكــثــ­ر أهمية، أنهما لم ينجحا في انجاز الهدف الرئيس لـــلـــعـ­ــدوان، وهـــو الـتـطـهـي­ـر الــعــرقـ­ـي وتهجير الشعب الفلسطيني من أرض وطنه، بسبب صمود وبسالة سكان غزة، ومنهم 700 ألف لم تنجح إسرائيل في إجبارهم على مغادرة شمال القطاع، وعشرات اآلالف ممن نجحوا فـي الــعــودة إلــى الـشـمـال، رغــم مخاطر املـوت برصاص االحتالل. ثـــالـــث الـــحـــق­ـــائـــق، انـــكـــش­ـــاف نـــقـــاط الــضــعــ­ف اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـيـــة، وهـــشـــا­شـــة بـــنـــيـ­ــان املــجــتـ­ـمــع اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـي، الـــــذي يـــتـــمـ­ــزق بــتــأثــ­يــر تـفـاقـم الــــــصـ­ـــــراعــ­ــــات الـــــداخ­ـــــلــــ­ـيـــــة، بــــــني املــــتــ­ــديــــنـ­ـــني والعلمانين­ي، وبني النظام الحاكم وعائالت األسـرى، التي تستشعر أن نتنياهو ال يعبأ بــحــيــا­ة أبــنــائـ­ـهــا، بـــل يــفــضــل مــوتــهــ­م وقــــودًا الستمرار حربه الهمجية، الهادفة إلى إنقاذه من نهايته السياسية املحتومة. ولم يسبق أن بدت هشاشة البنيان اإلسرائيلي واضحة كما هي الـيـوم، بعد أن ثـبـت أن ذلـك البنيان لــم يـكـن ليصمد أمـــام قـــوة مـقـاومـة صغيرة الــحــجــ­م واإلمـــكـ­ــانـــات لــــوال الـــدعـــ­م األمــيــر­كــي والـغـربـي غير املــحــدو­د، بالسالح والقذائف والـــــدع­ـــــم الـــســـي­ـــاســـي واملـــــا­لـــــي، وآخـــــــ­ره مـنـح الــواليــ­ات املـتـحـدة إسـرائـيـل 26 مليار دوالر إلنقاذ جيشها واقتصادها من االنهيار. رابع الحقائق، أن الضفة الغربية تواجه مثل قـطـاع غـــزة مخاطر التطهير العرقي نفسه، بـتـعـرضـه­ـا لـهـجـمـات مــســعــو­رة مـــن قطعان املستوطنني املـدعـومـ­ني بـاملـال والــســال­ح من الحكومة اإلسرائيلي­ة، ووزرائها املستوطنني الفاشيني، وفشل محاوالت تشويه صورة ما يـجـري على أنـــه حــرب بـني إسـرائـيـل وحركة حــــمــــ­اس، إذ صـــــار واضــــحــ­ــًا أنــــهـــ­ـا مــواجــهـ­ـة بـــني االحــــتـ­ـــالل ومــنــظــ­ومــتــه الــعــنــ­صــريــة من جــهــة، والــشــعـ­ـب الفلسطيني بــكــل مـكـونـاتـ­ه وفـــي أمــاكــن وجــــوده كـــافـــة، مــن جـهـة أخـــرى، وأن مـــــا يـــــجـــ­ــري هـــــو امــــــتـ­ـــــداد لـــلـــمـ­ــواجـــهـ­ــة بـــــني الـــفـــل­ـــســـطــ­ـيـــنـــي­ـــني وحــــمـــ­ـلــــة االســـتــ­ـعـــمـــا­ر االســتــي­ــطــانــي اإلحـــالل­ـــي الـصـهـيـو­نـيـة، الـتـي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر. وخــــامــ­ــس الـــحـــق­ـــائـــق، أن إســــرائـ­ـــيــــل أعـــــادت احتالل كامل الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر، وسـلـبـت السلطة الفلسطينية كـــل مــا تبقى لها مـن سلطة، وجعلتها سلطة بـال سلطة تـحـت االحـــتــ­ـالل، وجـــاء الـــ«فــيــتــو» األمـيـركـ­ي على قـبـول دولـــة فلسطني فـي مجلس األمـن ليؤكد مدى زيف األوهام بإمكانية االعتماد على الواليات املتحدة املنحازة بشكل مطلق ومـــتـــو­اصـــل لـــلـــعـ­ــدوان اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـي. ســـادس الــحــقــ­ائــق، انــكــشــ­اف عــــورة الــنــظــ­ام الــعــامل­ــي، وادعــــــ­ــــاء ات الـــغـــر­ب بـــشـــأن الـــقـــا­نـــون الـــدولــ­ـي واحـــتـــ­رام حـقـوق اإلنـــســ­ـان، وانــفــضـ­ـاح درجــة االنحطاط فـي استخدام املعايير املـزدوجـة، وآخـــرهــ­ـا الــبــيــ­ان الــــذي يـطـالـب بـــاإلفــ­ـراج عن جميع األسرى اإلسرائيلي­ني؛ الـ ،130 من دون ذكر أحد من آالف األسـرى الفلسطينين­ي في السجون ومعسكرات االعتقال اإلسرائيلي­ة، بـمـن فيهم مــئــات األطـــفــ­ـال. ســابــع الـحـقـائـ­ق، أن الـــشـــع­ـــب الــفــلــ­ســطــيــن­ــي يـــخـــوض مــعــركــ­ة وجـود وبقاء، ألن وجــوده، ومستقبله سواء فــي الـــداخــ­ـل أو فــي الـضـفـة الـغـربـيـ­ة أو غـــزة، صار مهددًا باإلبادة والتطهير العرقي، من منظومة عنصرية تنجرف فـي ممارساتها نحو الفاشية. فـي مقابل ذلـك كـلـه، انتشر لهيب التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد ما يتعرض له من إبادة جماعية، في العالم بأسره. وبتأثير الــــتـــ­ـحــــول الـــحـــا­صـــل طــــــوال األشــــهـ­ـــر الــســتــ­ة املـاضـيـة فـي أوســـاط جيل الـشـبـاب العاملي، بــــــدأت ثــــــورة طـــالبـــ­يـــة عـــاملـــ­يـــة فــــي الــــوالي­ــــات املتحدة باالنتشار، كالنار في الهشيم، من جـامـعـة إلـــى أخــــرى، حـتـى وصـلـت إلـــى أكثر مــن مئتي جامعة وكـلـيـة جامعية، وفشلت كـــــل مـــــحـــ­ــاوالت قـــمـــعـ­ــهـــا، حـــتـــى بـــاســـت­ـــخـــدام الــــشـــ­ـرطــــة والــــــح­ــــــرس الــــوطــ­ــنــــي األمــــيـ­ـــركــــي، وامتدت خالل أقل من يومني إلى الجامعات األوروبـــ­ـيــــة وجـــامـــ­عـــات أســـتـــر­الـــيـــا، وأصــبــح مؤكدًا أنها ستنتشر لتشمل العالم بأسره، بما فـي ذلــك الجامعات العربية، الـتـي طال انتظار مشاركتها. وفشلت كذلك املحاوالت اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة الــيــائـ­ـســة لـــوســـم هــــذه الـــثـــو­رة الطالبية العاملية بالـ«ال سامية»، خصوصًا أن عـــددًا ال يستهان بــه مــن الــطــالب اليهود املعادين للصهيونية يشاركون فيها. ويجمع املراقبون على أن ثورة جيل الشباب الــطــالب­ــيــة ال ســـابـــق لـــهـــا، مــنــذ مـثـيـلـتـ­هـا في الستينيات مـن الـقـرن املــاضــي، ضــد الحرب األمـيـركـ­يـة على فيتنام، الـتـي أجـبـرت حكام الواليات املتحدة على وقفها. وتذكر الثورة الــــجـــ­ـديــــدة بـــقـــوة الـــتـــأ­ثـــيـــر الـــشـــع­ـــبـــي عــنــدمــ­ا يــخــرج مـــن قـمـقـمـه فـــي فـــرض الـتـغـيـي­ـر، كما جـرى مع حركة املقاطعة وفـرض العقوبات، التي أسهمت فـي إسـقـاط نظام األبارتهاي­د العنصري في جنوب أفريقيا. ويمكن للثورة الطالبية العاملية أن تتحول إلى أوسع حركة عاملية لفرض العقوبات، واملقاطعة الشاملة، على إسرائيل، ليس لوقف العدوان الجاري على قطاع غزة فقط، بل وإلسقاط كل منظومة االحــتــا­لل والتمييز العنصري واالستعمار اإلحاللي االستيطاني الصهيوني. وبــــــــ­ذلــــــــ­ك أثــــــبـ­ـــــتــــ­ــت فــــلــــ­ســــطــــ­ني رغــــــــ­ـــم صـــغـــر حــجــمــه­ــا، وضـــعـــف إمــكــانـ­ـاتــهــا، أنـــهـــا كـانـت قـــــادرة بــصــمــو­دهــا ونــضــالـ­ـهــا ومــقــاوم­ــتــهــا، وتضحياتها الـغـالـيـ­ة، عـلـى تـحـريـك العالم بأسره، وعلى شق طريق حريتها الحقيقية والكاملة، مهما بلغت الصعاب.

أثبتت فلسطين رغم صغر حجمها، وضعف إمكاناتها، أنها كانت قادرة بصمودها ونضالها ومقاومتها، وتضحياتها الغالية، على تحريك العالم بأسره

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar