جوقة غزة لكّل العيون الحزينة
في عام ،2016 انطلقت تجربة موسيقية مثيرة في قطاع غزة، تحمل اسم «جوقة غزة للشباب». لم تصدر الجوقة سوى ألبوم واحد، يحمل عنوان «تحية لغزة»، ويضم ست أغنيات تراثية، فضًال عن أربع أغان خاصة أُلّفت ولُّحنت للفرقة
تثير تجربة جوقة غزة للشباب كــثــيــرًا مـــن الـــدهـــشـــة واإلعــــجــــاب. أغنياتها العشر جـــاءت تعبيرًا عــــن أفــــضــــل مــــا يـــمـــكـــن أن يــــخــــرج مــــن أداء جماعي لفرقة ضمت نحو 40 شابًا وفتاة، مع حرص املنتجني على توفير كل وسائل الدعم الفني والتقني، ولتجمع األسطوانة بني أغنيات حديثة كتبت خصيصًا للفرقة، وأغنيات تراثية، لها مكانتها في الوجدان الـشـعـبـي الفلسطيني والـــعـــربـــي. لــكــن، في الوقت عينه، تثير التجربة قدرًا من األسى والـــتـــعـــجـــب، إذ رغـــــم مــــــرور قــــرابــــة ثــمــانــي سنوات على إطالق أسطوانة «تحية لغزة»، بــقــيــت «جـــوقـــة الـــشـــبـــاب» واحــــــدة مـــن فــرق «األلبوم الواحد»، حتى مع النجاح وجودة العمل. اشتركت جهات عدة وأفراد عديدون فــي إنــجــاح األلــبــوم األول واألخـــيـــر. ويـبـدو أن كــثــرة الــجــهــات واألفــــــراد صـعـبـت مهمة التقائهم مرة أخرى. جــــوقــــة غــــــزة لـــلـــشـــبـــاب هـــــي إحـــــــدى الـــفـــرق الـــتـــابـــعـــة ملـــعـــهـــد إدوارد ســـعـــيـــد الـــوطـــنـــي لــلــمــوســيــقــى، وتـــحـــديـــدًا فــــرع غـــــزة، وصـــدر ألـبـومـهـم الـوحـيـد عـــام ،2016 بـتـعـاون بني املـعـهـد وشــركــة Kirkelig Kulturverksted (كــي كــي فــي) الـنـرويـجـيـة، بـدعـم مــن وزارة الـخـارجـيـة النرويجية، وممثلية النرويج فـي فلسطني، مـن خــالل املنتج الفني أريـك هيليستاد، وإشراف تقني ملهندس الصوت الـــنـــرويـــجـــي مــــارتــــن أبــــراهــــمــــســــن، وصــمــم لوحات األسطوانة الفنانة اللبنانية تانيا صالح.
األغنية التي كتبتها لك
ضــمــت األســـطـــوانـــة ســـت أغـــنـــيـــات تــراثــيــة، هـــــــي: «مـــــوطـــــنـــــي»، و«زورونـــــــــــــــي كـــــل ســنــة مــــــرة»، و«بـــكـــتـــب اســـمـــك يـــا بـــــــالدي»، و«ملـــا بــدا يتثنى»، و«الـحـلـوة دي»، و«يـمـا مويل الــهــوا». كـذلـك ضمت مــن األعــمــال الجديدة موال «يا حروف الوطن»، و«وطني يا مهد األحـــرار»، و«تحية لـغـزة»، التي أخـذ منها األلـبـوم عنوانه، وأيـضـًا ضمت األسطوانة معزوفة عنوانها «األغنية التي كتبتها لك»، وتراوح زمن األغنيات بني دقيقتني ونصف إلى ست دقائق. بدأت األسطوانة بواحد من أشـهـر األنـاشـيـد الفلسطينية، الـــذي وضع كلماته ابن مدينة نابلس، الشاعر إبراهيم طـوقـان 1905( - ،)1941 ولحنه املوسيقي الــلــبــنــانــي مــحــمــد فـلـيـفـل 1899( ـــــ ،)1986 املــتــمــرس بــاملــوســيــقــى الــعــســكــريــة، ويــقــول مطلعه: «موطني الجالل والجمال.. والسناء والـــبـــهـــاء فــــي ربــــــــاك.. والـــحـــيـــاة والـــنـــجـــاة.. والهناء والرجاء في هـواك.. هل أراك». جاء أداء جـوقـة الـشـبـاب جماعيًا متماسكًا في غاية القوة، وحـرص املشرفون على إخراج األســـطـــوانـــة عــلــى أن تـــكـــون نـسـخـتـهـم من النشيد متوافقة تمامًا مع اللحن األصلي املتسم بالحماسة، وال سيما بعد أن تكرر أداؤه مـــن بــعــض املــطــربــني الفلسطينيني بإيقاع أبطأ، وأسلوب هادئ، قد يكون أقرب إلـى التطريب، وهـو ما أفقد النشيد روحه الثورية الشابة املتدفقة. هكذا، أعادت جوقة الشباب النشيد إلى مكانته. في عـام ،1973 كتب املطرب اللبناني إيلي شويري 1939( ــ )2003 ولحن نشيده الذي اشــتــهــر الحـــقـــًا «بــكــتــب اســـمـــك يـــا بـــــالدي»، فــــصــــار مــــن أكــــثــــر األنــــاشــــيــــد انــــتــــشــــارًا فـي األراضــي الفلسطينية عمومًا، وقطاع غزة خصوصًا. اخــتــارت الفرقة النشيد ليكون ضــمــن مــحــتــويــات األســـطـــوانـــة، ويـــبـــدو أن طارق عبوشي الذي أشرف على توزيع عدد من أغنيات األلبوم، مال في هذا النشيد إلى تـوزيـع يحافظ كثيرًا على الـــروح الشرقية الـــتـــي يــتــســم بـــهـــا الـــعـــمـــل؛ فـــجـــاء فــــي غــايــة اإلطـــــراب والــشــجــن. تــقــول كـلـمــاتــه: «بكتب اسمك يا بــالدي.. ع الشمس املا بتغيب.. ال مالي وال والدي.. على حبك ما في حبيب.. يــا دار األوفــــى دار.. يـالـلـي بـقـلـك األشــعــار.. تــبــقــي ع الــــدايــــم مـــضـــويـــة.. مــــزروعــــه مجد وغـــــار.. ع الـــبـــرج الــعــالــي وقـــفـــوا الــخــيــالــي.. وســـيـــوف تــــاللــــي.. وشـــمـــســـك مـــا تـــغـــيـــب.. ال مالي وال والدي.. على حبك ما في حبيب».
يا حروف
ومـــن أهـــم مــكــونــات األســـطـــوانـــة، مــــوال «يــا حــــروف الــــوطــــن»، مـــن كــلــمــات مــحــمــود أبــو ســـمـــرة وألــــحــــان أحـــمـــد أبــــو داود، مـوظـفـًا حـروف كلمة «فلسطني» بعد مقدمة تقول: «والــــلــــه يـــا حـــــروف الـــوطـــن مــثــل الــعــقــد في الصدر ما أحاله.. ثم تتوالى الكلمات: الفاء فلسطني الحبيبة مــا أغـــال الــوطــن يــا عـرب مــا أغــــاله.. والـــالم ملــا اتــوحــدوا كــان الحجر مقواه.. والسني سؤال السجني.. وين الفرج
ألــقــاه.. والـطـا طلعت بــدر على الشهيد في ثـــــراه.. والــيــا يــا أهـــل املـــراجـــل لـــم الـشـمـل ما أحـاله.. والنون نون النبي قدسنا مسراه». بــالــطــبــع، املـــــوال ال يـصـلـح لــغــنــاء جـمـاعـي، فــاخــتــارت الــجــوقــة صــوتــني لــشــاب وطــفــل، لـيـغـنـي كـــل واحـــــد مـنـهـمـا إحـــــدى شــطــرات املـوال، الذي فرض السياق تلحينه مسبقًا، باملخالفة للمعتاد من ارتجال في األغلبية الساحقة من املواويل. بــعــد املــــــوال، تــأتــي أغــنــيــة «وطـــنـــي يـــا مهد األحــرار»، من كلمات إبراهيم داود وألحان إبـــراهـــيـــم الـــنـــجـــار، وتــمــيــز نــصــه بـالـتـغـنـي ملختلف أجــزاء الوطن الفلسطيني: الضفة الـــغـــربـــيـــة، وقــــطــــاع غــــــزة، والـــــقـــــدس، يـــقـــول: «وطــــنــــي يــــا مـــهـــد األحــــــــــرار.. يــــا قــلــعــة حـب وفخار.. يا نجما كلله الغار.. يعلو هامات الثوار.. ستعيد لوطني ماضيه.. مهما طال الـلـيـل وجــــار.. وأذان الـنـصـر سنعليه فـوق القدس وكـل مـــزار.. غـزة هاشم أرض النار.. والـــضـــفـــة إكــلــيــل الــــغــــار.. والــــقــــدس عـــروس األحرار.. واملهد كنيسة أنوار». «سالم لغزة»، هي األغنية األخيرة والرئيسة فــــي األلـــــبـــــوم، وهـــــي أيـــضـــًا األطـــــــول زمــنــيــًا بــمــقــدار ســت دقـــائـــق، وضـــع كلماتها فــؤاد سـروجـي، ولحنها سهيل خـــوري، بتوزيع النرويجي خيتيل بييركستراند، وتضمنت معانيها تحية إكبار ألهل غزة وصمودهم فــــي وجـــــه االحـــــتـــــالل. جــــــاءت كــلــمــاتــهــا فـي صورة قصيدة، وجاء لحنها أقرب ما يكون إلى قالب الطقطوقة، بحيث صار مطلعها مذهبًا يتكرر بني أغصان ثالثة. بـــعـــد مـــقـــدمـــة حــمــاســيــة تــنــتــمــي إلـــــى عــالــم املــارشــات العسكرية، يـبـدأ املــذهــب: «سـالم لــــغــــزة ســــــالم ســـــــــالم.. ســــــالم لـــكـــل الـــعـــيـــون الـــحـــزيـــنـــة.. تـفـيـض دمــوعــهــا بـــأســـًا وعـــــزة.. ســـالم ســـالم لــغــزة ســــالم. ثــم يــأتــي الغصن األول: ســـــالم لــشــعــب أبــــــي عـــنـــيـــد.. بـسـهـل خزاعة يلم الحصيد.. وحني يصد وحوش الحروب.. يشيع في كل يوم شهيد.. ويصمد
في وجـه كل الخطوب.. بعزم وفخر وبأس شــديــد.. فقد علمته قضايا الـشـعــوب.. بأن الحديد يفل الحديد». وبـــالـــلـــحـــن نــفــســه تـــقـــريـــبـــًا، يـــأتـــي الــغــصــن الثاني: «سـالم لغزة خلف الـحـدود.. بصبر وعـــــزم لـجـمــع الـــقـــيـــود.. لـطـفــل قــضــى تحت قصف املباني.. ألم تعاني وشاب يخوض.. تــضــج دمـــــاؤه بــالــعــنــفــوان.. ويـــعـــرض فــوق عــــيــــون الـــــســـــمـــــاء.. ويـــــفـــــرض فــــــوق الــــركــــام انـــــتـــــصـــــار.. لــــغــــزة شـــعـــب يـــفـــك الــــحــــصــــار». ثــــم يـــأتـــي الـــغـــصـــن الــــثــــالــــث: «ســــــالم ســـالم لـشـط رفــــح.. وفـــي بـيـت الهـيـا وديـــر الـبـلـح.. وللبرتقال بـحـوض املـــغـــازي.. مـــزارع أرض لفجر سرح.. يشد الخطا رغم أنف الجنود.. وصياد بحر تحدى الـوعـود.. سالم لشعب عزيز مقاوم.. يقدم درسًا بعلم الصمود». ال ريب أن الكلمات في هذه األغنية تقاسمت البطولة مع اللحن الحماسي واألداء القوي للمجموعة. سجلت موسيقى األسـطـوانـة خالل ديسمبر/ كانون األول عام 2015 في استوديو املعهد الوطني للموسيقى في رام الله، ثم استكملت في يناير/ كانون الثاني 2016 في استوديو أصايل في غزة، وكانت أهم إنتاج معهد إدوارد سعيد للموسيقى في قطاع غزة، الذي تديره منال عواد، والتي قالت في تصريحات صحافية متكررة إنها -منذ السابع من أكتوبر- ال تعرف أي شيء عن املعهد، وال إن كان مبناه ما زال قائمًا، أو قد هـدم تحت قصف االحـتـالل اإلسرائيلي الشديد الذي طاول املنطقة حوله. ظـــل املــعــهــد لـــســـنـــوات يــمــثــل أهــــم مـؤسـسـة مـوسـيـقـيـة فـــي الـــقـــطـــاع، وعــمــل دومــــًا على تـرسـيـخ الــهــويــة املـوسـيـقـيـة الفلسطينية، وإحـــــيـــــاء الـــــتـــــراث الـــغـــنـــائـــي الــفــلــســطــيــنــي، وكانت «جوقة غزة للشباب» من أهم ثمرات اهتمامه باألجيال الجديدة. لكن من يستمع إلـــى أغـنـيـات األســطــوانــة، فسيتطلع حتمًا إلى أعمال جديدة للفرقة، وهو ما تستبعده األهوال التي تعانيها غزة وشعبها.
بقيت جوقة غزة للشباب واحدة من فرق «األلبوم الواحد»
بدأت األسطوانة بواحد من أشهر األناشيد الفلسطينية «موطني»