أصول بتريليون دوالر
ينتاب القلق إسرائيل والشركات الداعمة لها من احتجاجات الطالب في الجامعات األميركية واألوروبية على جرائم الجيش اإلسرائيلي في غزة، والتي تطالب بسحب االستثمارات من إسرائيل والشركات الداعمة لها، وربما تكرار تجربة االحتجاجات ضد جنوب أفريقيا التي قضت على نظام ال
مـــا أشـــبـــه الــلــيــلــة بـــبـــارحـــة نـظـام «الفصل العنصري» فـي جنوب أفــــــريــــــقــــــيــــــا، حــــيــــنــــمــــا تــــحــــولــــت املـعـارضـة الطالبية لنظام جـنـوب أفريقيا الــعــنــصــري وقــتــهــا مـــن األدوات املــعــنــويــة والــلــســانــيــة فـــي االحــتــجــاج إلـــى املــعــارضــة الــعــمــلــيــة والـــضـــغـــط املـــبـــاشـــر عـــلـــى أدوات التمويل واالسـتـثـمـار. وحـتـى اآلن، يسطر الــتــاريــخ نــجــاح ثـــالث ثـــــورات طـالبـيـة ضد الــظــلــم والـــحـــرب فـــي الــعــالــم، حــيــث نجحت الثورة الطالبية في أميركا في الستينيات مـــن الـــقـــرن املـــاضـــي بــكــتــابــة نــهــايــة الــحــرب األميركية ضد «فيت ـ كونغ» وعودة فيتنام حـــرة، كما نجحت االحـتـجـاجـات الطالبية كذلك في القضاء على النظام العنصري في جنوب أفريقيا، مستخدمة «ضرب املحافظ املالية» التي أجبرت الشركات والحكومات عــلــى ســحــب أمــوالــهــا مـــن جــنــوب أفـريـقـيـا. واليوم، يلجأ الطالب في أميركا إلى نفس األسلوب؛ حيث يضغطون على الجامعات بــــســــحــــب اســــتــــثــــمــــاراتــــهــــا مــــــن إســــرائــــيــــل وشركاتها ومشروعاتها، عبر حرمانها من ضخ أمـوال صناديق الوقف في الجامعات من األسهم والسندات املستثمرة بالشركات الداعمة للكيان املحتل. وبــــالــــتــــالــــي، يـــتـــزايـــد الـــقـــلـــق فــــي تــــل أبــيــب وشركائها في جرائم الحرب القذرة على غزة من تطور املظاهرات الطالبية من املعارضة املـــعـــنـــويـــة إلـــــى املــــعــــارضــــة الــعــمــلــيــة الــتــي ستضرب املال، عبر سحب االستثمارات من إسرائيل ومقاطعة الشركات التي تدعمها، وفق مراقبني. فالثورة العارمة ضد جرائم إسرائيل التي تجتاح أميركا وأوروبـا ضد العدوان البشع على الفلسطينيني في غزة تــعــيــد إلــــى األذهـــــــان مــشــهــد االحــتــجــاجــات الطالبية التي انتظمت الجامعات في القرن املاضي ضد نظام امليز العنصري في جنوب أفريقيا والتي تواصلت حتى كتبت نهايته. ففي جامعة كولومبيا في نيويورك، على سبيل املثال، يطالب املتظاهرون الجامعة بـــإعـــادة تــوجــيــه كـــل أمـــوالـــهـــا، بــمــا فـــي ذلــك وقــفــهــا، بـعـيــدًا عـــن الــشــركــات واملــؤســســات الــــتــــي تـــســـتـــفـــيـــد مـــمـــا يـــســـمـــونـــه «الـــفـــصـــل العنصري اإلسرائيلي واإلبـــادة الجماعية واالحــتــالل فــي فلسطني»، وفــق قـنـاة «سي بي أس» األميركية. وتشمل الشركات التي يقولون إنها تستفيد مـــن هــــذه الــصــنــاديــق، شـــركـــات كــبــرى مثل غوغل وأمــــازون ومايكروسوفت. وطالبت لـجـنـة الــتــضــامــن مـــع فـلـسـطـني فـــي جامعة تكساس في مدينة بوسنت إدارة الجامعة، بإلغاء مـاليـني الــــدوالرات الـتـي تستثمرها في الشركات التي تصنع األسلحة، والتي قالت إنها «متواطئة في اإلبـادة الجماعية في غـزة». كما تم تقديم مطالب مماثلة في حرم الجامعة في داالس من قبل طالب من أجل العدالة في فلسطني. وتتوسع املعارضة ضد إسرائيل وجرائمها الـوحـشـيـة فــي أمــيــركــا، حـيـث انـضـمـت إلـى الــجــامــعــات األمــيــركــيــة املــــــدارس الــثــانــويــة وحــتــى بـعـض املـــــدارس االبــتــدائــيــة، حسب مـــا نـقـلـتـه وســـائـــل الـــتـــواصـــل االجــتــمــاعــي. وبــــات هــنــاك مـطـلـب أســاســي ومــوقــف يقع في قلب االحتجاجات على الحرب في غزة، ينتظم حاليا بالحرم الجامعي في جميع أنحاء الواليات املتحدة وحول العالم، وهو أن تــســحــب الــجــامــعــات اســتــثــمــاراتــهــا من إسرائيل والشركات الداعمة لها. وهذا يعني سحب األموال التي استثمرتها أوقافهم في شــركــات مـرتـبـطـة بــدولــة االحـــتـــالل، وربـمـا تـــتـــطـــور إلـــــى وقـــــف الــــتــــعــــاون الـــعـــلـــمـــي مـع املؤسسات البحثية اإلسرائيلية. ويعد سحب االستثمارات االحتجاجية هو شكل مـن أشـكـال املـعـارضـة العملية، حيث يـقـوم املساهمون عـمـدا ببيع أصولهم من الشركة إلحداث تغيير اجتماعي. ومن خالل بيع األسهم أو السندات، يأمل املتظاهرون
فــي الـتـأثـيـر عـلـى ربـحـيـة الــشــركــات، وربـمـا بـث الـذعـر وســط املستثمرين فـي أسهمها بالبورصات، مما يعني هروب املستثمرين مـــن أدواتــــهــــا املــالــيــة وربـــمـــا الـــوصـــول إلــى انـهـيـارهـا. وال يـــدري البعض الـقـوة املالية لصناديق الـوقـف التي تملكها الجامعات األميركية، ولكنها قـوة مالية كبيرة تفوق الــتــريــلــيــون دوالر. ووفـــــق بــيــانــات املــركــز الـقـومـي إلحـصـائـيـات التعليم فــي أميركا، فإن حجم صناديق الوقف في الـ02 جامعة الكبرى في الواليات املتحدة بلغ في نهاية عام 2021 نحو 927 مليار دوالر. وتوجد في أميركا وحدها نحو 3982 جامعة وتنضم إلــى هــذه الجامعات نظيراتها فـي أوروبـــا وأستراليا والـيـابـان. وهــذا يعني أن حجم األمـــــوال فــي صـنـاديـق الــوقــف بالجامعات األمـــيـــركـــيـــة تـــفـــوق رقـــــم الـــتـــريـــلـــيـــون دوالر بكثير، وقــد تصل إلــى أكـثـر مـن تريليوني دوالر وفـــق تــقــديــرات غــيــر رســمــيــة عندما تنضم لها الـجـامـعـات األوروبـــيـــة. وكمثال على ذلـك، فإن جامعة هارفارد لديها وقف يبلغ 53 مليار دوالر نشط في االستثمارات بــــــأســــــواق املـــــــــال، ولــــــــدى جـــامـــعـــة يـــيـــل 42 مـلـيـار دوالر، وتــكــســاس 40 مـلـيـار دوالر، وستانفورد 38 مليار دوالر، وبرينستون 37 مليار دوالر، وذلك حسب بيانات املركز القومي إلحصائيات التعليم في أميركا. يضاف إلى هذا الثقل املادي، الثقل املعنوي واحـــــتـــــمـــــال تــــطــــور الــــضــــغــــوط لـــتـــصـــل إلــــى صـــنـــاديـــق الـــبـــلـــديـــات واملـــؤســـســـات املــدنــيــة
مــثــل املــســتــشــفــيــات والـــخـــدمـــات مــثــل املــيــاه والـــكـــهـــربـــاء الـــتـــي ســـبـــق أن تـــضـــامـــنـــت مـع املـــعـــارضـــة الـــطـــالبـــيـــة ضــــد الــعــنــصــريــة فـي جـنـوب أفـريـقـيـا. وتشير دراســـة فـي جامعة «يـيـل األمـيـركـيـة»، إلــى أن قضية العقوبات ضد النظم تحوز نسبة نجاح كبيرة، كما هو الحال في قضية جنوب أفريقيا. حينما تم تطبيق العقوبات ضد النظام العنصري في جـنـوب أفريقيا فـي منتصف الثمانينيات. وهذه الجامعات العريقة تمثل قيادة التقدم الـــتـــقـــنـــي والـــوظـــيـــفـــي فــــي كـــبـــرى الـــشـــركـــات واملؤسسات األميركية املدنية والحكومية، وهـو ما يعني أنها ستلعب دورًا كبيرًا في نــشــر الـــوعـــي ضـــد نــظــام «املـــيـــز الـعـنـصـري» و«االســـــتـــــيـــــطـــــان اإلســـــرائـــــيـــــلـــــي» لــــأراضــــي
جامعات ترضخ لضغوط الطالب وتجري محادثات لسحب األموال
الـفـلـسـطـيـنـيـة واحــتــاللــهــا بــالــقــوة وتـشـريـد أهلها. وحتى اآلن، لعبت هذه االحتجاجات دورًا كبيرًا فـي بـث الـوعـي وتثقيف الشعب األمــــيــــركــــي بـــالـــقـــضـــيـــة الــفــلــســطــيــنــيــة، كـمـا كشفت مـزاعـم وأالعـيـب «أبـيـاك» واملنظمات األخـــرى املـنـاصـرة إلســرائــيــل. ومــن املتوقع أن تــتــضــافــر عــمــلــيــات ســحــب اســتــثــمــارات
الجامعات مـن الشركات الداعمة إلسرائيل إلـــــى جــــهــــود مــنــظــمــة «بـــــي دي أس »BDS الــتــي تــكــونــت مــنــذ عـــام 2014 وتـــقـــوم بـــدور نــشــط فـــي مـقـاطـعـة الــبــضــائــع اإلســرائــيــلــيـة والــشــركــات الـداعـمـة لنظام املـيـز العنصري واالحـــتـــال اإلســرائــيــلــي. وحــتــى اآلن، تهدد اللوبيات والشركات الكبرى الداعمة للكيان اإلسرائيلي وعلى رأسـهـا «أيــبــاك»، الطاب بحرمانهم من الوظائف في املستقبل، كما يهدد بعض األثـريـاء الجامعات بحرمانها من التبرعات. وفي الكونغرس مرر «اللوبي الصهيوني» الداعم إلسرائيل قانون تجريم «مــــــعــــــاداة الــــســــامــــيــــة» وربـــــــط بـــيـــنـــهـــا وبـــني معارضة السياسة اإلسرائيلية والحرب ضد غزة. ولكن هذه التحركات الداعمة إلسرائيل تـثـيـر الــســخــريــة والـــغـــن فـــي آن مــعــًا، وســط الحركات الطابية التي تؤمن بـأن «انتقاد إســرائــيــل ال يـعـنـي مـــعـــاداة الــســامــيــة»، وأن املجرم ليس له جنس أو دولة، وأن ما ارتكب ويــرتــكــب فـــي غــــزة مـــن جـــرائـــم ضـــد املــواطــن الفلسطيني ال عـاقـة لـه بـمـعـاداة السامية. ورغـــم رفــض بعض إدارة الـجـامـعـات حتى اآلن ســـحـــب اســـتـــثـــمـــاراتـــهـــا مــــن إســـرائـــيـــل والشركات الداعمة لها، فإن جامعات أخرى رضـــخـــت لـــضـــغـــوط الــــطــــاب. وقــــالــــت إنــهــا ستجري محادثات مع الطاب املتظاهرين حـــول سـحـب االســتــثــمــار أثـــنـــاء محاولتها قــمــع االحــتــجــاجــات املـــتـــزايـــدة، وذلــــك وفــق تــقــريــر بــقــنــاة «ســــي بـــي أس األمـــيـــركـــيـــة». وتأتي هذه التهديدات بسحب االستثمارات
فـــي وقــــت تـــراجـــع فــيــه وكــــــاالت الـتـصـنـيـف االئتماني، تصنيف األصــول اإلسرائيلية. كما تأتي الضغوط الطابية في وقت يئن فيه االقتصاد اإلسرائيلي من كلف الحرب على قطاع غزة ويحاول اجتياح رفح وهو بــحــاجــة إلــــى مـــزيـــد مـــن الــتــمــويــل. وتـرتـفـع الديون في إسرائيل إلى أكثر من 300 مليار دوالر، وفق البيانات الرسمية. كما يعاني الكيان من هــروب املستثمرين من بورصة تـل أبـيـب، ويـتـواصـل اهـتـزاز الشيكل. وهو ما يعني أن حكومة نتنياهو بحاجة ماسة لــلــحــصــول عــلــى أمـــــوال عــبــر طــــرح ســنــدات ديــن دولـيـة أو محلية خــال الـعـام الـجـاري لتمويل العجز بامليزانية، وتترقب اكتتاب الشركات والجامعات األميركية واملساهمة في تغطية تلك السندات.
كيف سقط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؟
واجـــهـــت الـــشـــركـــات األجــنــبــيــة صــعــوبــة في مـــمـــارســـة األعــــمــــال الـــتـــجـــاريـــة فــــي جــنــوب أفـريـقـيـا بـسـبـب الــضــغــوط الــتــي تواجهها بـــــلـــــدانـــــهـــــا األصـــــلـــــيـــــة املـــــطـــــالـــــبـــــة بـــســـحـــب االســتــثــمــارات، وقــــادت هـــذه الـضـغـوط إلـى تـضـاؤل جاذبية جنوب أفريقيا للشركات الـــعـــاملـــيـــة. وحـــســـب دراســــــة «يــــيــــل»، أوضـــح أحــــد املـــســـؤولـــني الــتــنــفــيــذيــني فـــي مـصـرف «تـــشـــيـــس مــــانــــهــــاتــــن» األمــــيــــركــــي وقـــتـــهـــا، انسحاب شركته من جنوب أفريقيا بقوله: «شعرت أن املخاطر املرتبطة باالضطرابات الـسـيـاسـيـة وعــــدم االســـتـــقـــرار االقــتــصــادي أصبحت مرتفعة للغاية في جنوب أفريقيا وقـررنـا االنـسـحـاب». وتـابـع «لــم تكن النية أبـــــدا تـسـهـيـل الـتـغـيـيـر الـسـيـاسـي بجنوب أفريقيا، وتم اتخاذ القرار بناء على ما هو في مصلحة املصرف ومستثمريه». ونــشــأت األزمــــة املـالـيـة فــي جــنــوب أفريقيا بسبب قـــرارات بنوك القطاع الـخـاص التي رأت تــــدهــــورا بــالــوضــع االقـــتـــصـــادي الـــذي زرع الشكوك في الجدارة االئتمانية للباد وقتها. وتقول الدراسة إن تداعيات الضغوط على الشركات بسحب استثماراتها، كانت أكبر بكثير من العقوبات العامة التي تلت ذلـــــك مــــن الـــــــــدول. وفـــــي أغـــســـطـــس مــــن عـــام ،1985 ألقى الرئيس الجنوب أفريقي وقتها، بــيــتــر بـــوتـــا، خـــطـــابـــا قــــدم فــيــه إصـــاحـــات بنظام الفصل العنصري. لكن اإلصاحات كـانـت أقــل بكثير مـن املطالب الجماهيرية والـــطـــابـــيـــة. وعـــنـــدمـــا اشــــتــــدت األزمـــــــة فـي جـــنـــوب أفـــريـــقـــيـــا انــخــفــضــت عــمــلــة الـــرانـــد املحلية أكثر. وفي أواخــر أغسطس، أغلقت الحكومة الـبـورصـة مـؤقـتـا، وكـذلـك أســواق الصرف األجنبي وعلقت مدفوعات الفائدة على ديونها. وانتهت الضغوط إلى خروج نيلسون مانديا من السجن، وفي 9 مايو ،1994 تم انتخابه رئيسًا لجنوب أفريقيا. ولم تكن رئاسة مانديا التاريخية ممكنة على اإلطاق خال فترة الفصل العنصري، والــتــي تحققت نهايتها جـزئـيـا مــن خـال ســـحـــب االســــتــــثــــمــــارات االحـــتـــجـــاجـــيـــة مـن جنوب أفريقيا.