Al Araby Al Jadeed

الخطوة األخيرة لبول أوستر

- عائشة بلحاج

«أحيانًا يصبح وهني عظيمًا، وأشعر بأن خطوتي التالية لن تحدث أبدًا»، فـ«هذه هي األشياء األخيرة. إنها تتوارى الواحد تلو اآلخر وال تعود ألبتة. في مقدوري إخبارك عن تلك التي شاهدتها، أو التي انعدمت. ولكني أشك في أنه سيكون لدي متسع من الوقت». رحل بول أوستر صاحب «بالد األشياء األخيرة» (ترجمة شارل شهوان، دار اآلداب، بيروت، ،)1993 و«اختراع العزلة» (ترجمة أحمد العلي، أثر للنشر والتوزيع، الدمام، ،)2016 و«ثالثية نيويورك» (ترجمة. كامل حسني، دار اآلداب، بيروت، ،)1993 تاركًا خريطة مرئية ألدب الغربة، الغربة الداخلية، وغربة األشياء األخيرة، بعد حياة خاطفة في أحسن األحــوال. لم يكن بول محظوظًا بأبيه وال بابنه وال بحفيده. أي لعنة هذه لـ«رجل في الظالم»، الذي كانت الحياة بالنسبة إليه «موسيقى املصادفة». مجموعة من األحداث الغريبة التي تقع لشخص، وكان يمكن أن تحدث آلخر. لكنه هو من تعثر في كومة األحداث تلك، وأدى إلى بعثرتها في طريقه. كما حدث معه في عالقة غريبة مع أبيه، التي كانت محور «اختراع العزلة»، أعقبتها عالقة أغرب مع ابنه املدمن، الذي انتحر بعدما تسبب في مقتل رضيعه.

ٍَ هل يجتذب الكتاب مصائر أبطالهم؟... ربما. وربما هذه، ترتفع نسبها عند أوستر، الــذي ال يـتـردد في منح اسمه لشخصيات روايـاتـه، مثل شخص عشوائي يتصل

ُِ بـه البطل أو كاتب مجهول. مـصـرًا على أنـــه، أوسـتـر، يمكن أن يكون أيــًا كــان، كما فعل بشكل مباشر في أحد أضخم وآخـر مشروعاته »1234« (نقلها إلى العربية وراجــعــه­ــا أحــمــد أحــمــد. شــــارك فــي الـتـرجـمـ­ة: حــســام مـوصـلـي وســوســن سـالمـة، مــنــشــو­رات املــتــوس­ــط، مـيـالنـو، .)2018 روايــــة ضخمة تـفـتـرض أربـــع نـسـخ لحياة شخص واحــد؛ «آرتـشـي فيرغسون»، في األســرة نفسها، ولكن بمصائر مختلفة ألفـرادهـا، ما يــؤدي إلـى مصير مختلف آلرتـشـي. يـصـرح بـول في هـذا العمل، بأن حياتنا نتيجة ملا يحدث قبلنا وحولنا، نتيجة األسرة والثقافة والديانة، وحني نصل عمرًا يمكن لنا فيه تحديد من نحن، يكون األوان قد فات على تغير هوياتنا التي تشكلت قبلها نتيجة الختيارات آبائنا. لكني أفضل ما كتبه أوستر قبل ذلك، إذ قدم لقطات سريعة ألحـداث ورؤى وهواجس، وصـدف كان لتركيبتها الخاطفة مفعول السحر. لعل القارئ الباحث عن معنى مباشر، من كل رواية وكتاب، سيخذل، لكن إن كان محبًا إلعمال العقل، فسيحب عالم أوستر، إذ ال شيء مطلق وال نهائي. كل شيء ممكن «في املدينة تتعلم أال تسلم فيها جدال بمطلق شيء، أغلق عينيك لحظة، استدر لتنظر إلـى شـيء آخـر، وسيتوارى فجأة ما كـان أمامك. ال شـيء يــدوم، وال حتى األفكار داخلك. وينبغي أال تضيع وقتك بحثًا عنها». هذا ما يحدث في «بالد األشياء األخيرة»، لكن أال نعيش فيها جميعًا؟ ألسنا نحن «األشياء األخيرة»؟ فكل منا يختفي اختفاء نهائيًا، ألنه ما من نسخ لنا. بل فقط هذه القابلية العجيبة على االختفاء بال سابق تحذير؛ نوبة قلبية، جلطة، نوبة سـكـري، حــادث سير، حادث عمل، صدمة نفسية... عدا عن االختفاء من حياة أحدهم هكذا.. كأننا لم ندخلها. كم صديقًا وحبيبًا غادرناه أو غادرنا، ولم نعد مرة أخرى إلى حياة بعضنا؟ غادرنا بول أوستر تاركًا لنا نسخًا كثيرة منه في كتبه، شخصًا غريبًا غرابة مألوفة، مرتبك، متعثر، لكنه يواصل املشي، له تصرفات غير منطقية، لكنها مفهومة كما يفهم أحـدنـا تناقضاته. هـذا ما مـيـزه، أنــه لم يطرق املعنى بصخب، ليسمع العالم الصدى عاليًا، بل كركبه على شكل حصى تقعقع، حتى تصل إلـى سفح الجبل، وتستقر في شكل لم يتوقعه أحدنا. فإفهامنا لم يكن مهمة أوستر في الحياة، بل فقط اإلشارة إلى املنجم الذي قد يختبئ فيه املعنى، وسط جبال من الحجارة. نحن أيضًا قد نكون هذه القطعة الصغيرة من الرصاص أو الفضة أو الذهب، وسط جبال من الحجر، وفقط الصدفة، حسب منظور أوستر، من سيقود املنقبني إلينا. فنحن، أشياء وجدت وسط بيئة غير محفزة، وال تسمح بالنمو أو باإلزهار، فتموت بال ندم على ما تركته خلفها. ال فرق بني أن تتالشى أو أن تجدها يد تنحتها حتى تلمع. لكن ليس اإلنسان وحده املفتقر للفرادة، عند أوستر، بل األمكنة أيضًا. فـ«من خـالل التجوال دونما هـدف، أصبحت كـل األماكن متساوية... كانت نيويورك هي الالمكان الذي بناه حول نفسه، وأدرك أنه ال يعتزم مغادرتها أبدًا».

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar