هل الصبح قريب؟
مآسينا أو مـخـازيـنـا، وكـاهـمـا، لألسف، صحيحان في حالنا نحن العرب، أكثر من أن تعد أو أن تحصى. أينما وليت وجهك تــفــجــع بــــالــــواقــــع اآلســــــن والـــكـــئـــيـــب الــــذي عليه أمتنا. تتساوى هنا، إلـى حـد كبير، األنظمة والشعوب. وحتى ال نستطرد في ســرد الــجــراح، نكتفي بــواحــد هــو أشـدهـا نزفا اليوم في جسدنا، وفـي الوقت ذاتـه، أكثرها تجسيدًا ألملنا في مستقبل أفضل. تــعــربــد إســرائــيــل فــي قــطــاع غــــزة، تـــدمـــره، وتـــبـــيـــد نــــاســــه، ويــــمــــوت أطـــفـــالـــه جـــوعـــا، وتـبـتـر أعــضــاء مصابيه مــن دون مـخـدر، وال مــــعــــدات طـــبـــيـــة، بــســكــني مــطــبــخ على طاولة طعام، ليس لهم من عـزاء ومخفف لـأللـم الـرهـيـب إال آيـــات مـن الـذكـر الحكيم يـــتـــلـــونـــهـــا، ومـــــع ذلــــــك، ال تـــتـــحـــرك نــخــوة أنظمة، بعضها شريك متورط في حصار غـــــزة وأهـــلـــهـــا، وأخـــــرى ســاعــيــة للتطبيع معها (إسرائيل)، وثالثة تمدها بالطعام والــبــضــائــع. األدهـــــى، أال تــســتــفــز شهامة غالبية شعوب العرب، املغلوبة هي األخرى على أمرها. تــرى، كيف ستحاكم األجيال القادمة هذه الحقبة التاريخية، التي هي راهننا؟ بل كيف ستنظر إلينا؟ لن يكون هناك مجال للتشكيك في الحيثيات، فهي مـوثـقـة صـوتـا وصــــورة. وال أدري إن كان من الائق التساؤل: تراها ستكون هناك أجـــيـــال عــربــيــة قـــادمـــة أحـــســـن مـــن جيلنا حـــتـــى تــنــظــر إلــــى هــــذه املـــرحـــلـــة الـــســـوداء فــــي تـــاريـــخـــنـــا الـــجـــمـــعـــي بـــعـــار وجــــلــــل؟... أتمنى ذلك. لكن مستقبا أزهى ال يصنع بالتمني، وإنـمـا برؤية نهضوية شاملة، عميقة وجامعة، وبتخطيط استراتيجي واع ومـحـكـم، وبعمل متقن رصـــني، وقبل ذلك، بطليعة فكرية وتنظيمية، متجاوزة لحساسيات االنتماءات القبلية والقطرية واأليـــديـــولـــوجـــيـــة والـــســـيـــاســـيـــة، ولــديــهــا القابلية والـقـدرة على تقديم التضحيات الــجــســام. حـتـى نجيب عــن ســـؤال: «أليس الصبح بقريب؟»، ال بد لنا، أوال، أن نحدد أي صبح نريد؟ أعلم أن هذا سؤال شائك، حـــتـــى لـــــدى الـــنـــخـــب الـــســـاعـــيـــة لـلـتـغـيـيـر، إذ تـــتـــنـــازعـــه الـــتـــحـــيـــزات اإليـــديـــولـــوجـــيـــة والـتـفـصـيـات الــفــرعــيــة. لــكــن، عـلـى األقـــل، بــعــض خــطــوطــه الـــعـــامـــة مــعــلــومــة. نــريــد صبحا تكون فيه بادنا أوطانا لشعوبها ال سجونا لها. نريد عقد مواطنة وحقوق، ال تـبـعـيـة وخــــنــــوع. نـــريـــد حـــريـــة وكـــرامـــة وديمقراطية حقيقية، ال مكان فيها لقمع وال لفساد محصن. نريد شكا من أشكال
ُُ ُُ الــــوحــــدة الـــعـــربـــيـــة، تـــضـــعـــف، إن لـــم تـــلـــغ،
َِّ العقلية القبلية والــقــطــريــة املقيتة. نريد مــشــاريــع اقــتــصــاديــة وإنــمــائــيــة حقيقية
ُّ متكاملة. نــريــد قـــوة تـــرغـــم اآلخــريــن على احـتـرامـنـا. إذا كــان فــي راهـنـنـا مــن شاهد فهو أن العالم غابة متوحشة، مهما زعم ســــادتــــه وجـــــــود مــــؤســــســــات ومـــعـــاهـــدات واتفاقيات وإعانات تؤكد حضاريته. في هـذا العالم الـقـوي وحــده هو من يستحق الـحـيـاة مـرفـهـا ومـنـعـمـا وفـــوق كـــل قـانـون وأي محاسبة. خطاب «املعايير املزدوجة» هـو بكائية الضعفاء، أمــا األقـويـاء فإنهم يمارسونها، في الوقت ذاته الذي يدعون فيه تفوقا أخاقيا، واستثنائية إنسانية. ألــيــس هـــذا مــا تفعله الـــواليـــات املــتــحــدة؟ أليس هذا ما تمارسه إسرائيل؟ تدمر غزة عـن بكرة أبيها، يقتل أطفالها ونساؤها وعجائزها ورجالها بالساح األميركي، على أيــدي جنود إسرائيليني متوحشني عــديــمــي األخـــــــاق، ومــــع ذلــــك يـــقـــولـــون إن إلسرائيل «الحق في الدفاع عن نفسها». أمــا الشعب الفلسطيني، فليس لـه إال أن يقبل اإلبــادة واإلخضاع ونـزع إنسانيته. إنـه قانون القوي في عالم، كـان، وال يزال، وســـيـــبـــقـــى، مـــتـــوحـــشـــا، وال يــكــســر بـعـض حدته إال امتاك أسباب القوة املضادة. كثير مـن أنظمة الـعـرب تـظـن أن خاصها وبقاءها يكون عبر سحق شعوبها وكسر كرامتها، في الوقت ذاته الذي تنحني فيه ذال وتبعية أمــام أطــراف خارجية أجنبية.
ما يجري ُمخز حّقًا؛ أنظمة ُتفّضل أن تبقى تابعة خانعة مفعوًال بها
تـــرى هــل أفـلـحـت هـــذه املــقــاربــة؟ هــل رفعت مــن قــدر أصحابها وشـأنـهـم؟ هــل تـطـورت بـــــادهـــــم؟ بــــل هــــل حـــمـــتـــهـــم؟ هــــم يــرهــنــون مـــصـــائـــرهـــم بـــيـــد مــــن يـــدعـــمـــهـــم مــــا دامـــــوا أقـويـاء، أمـا حني تــزل قـدم أحدهم يكونون كالسكني عـلـى رقـبـتـه، ومـــا زيـــن العابدين بـن علي، وحسني مـبـارك، وعلي عبد الله صالح، إال حلقات غابرة في سلسلة طويلة من البيادق القابلة لاستبدال. إن ما يجري مــخــز حــقــا؛ أنظمة تـفـضـل أن تبقى تابعة خـانـعـة مـفـعـوال بـهـا، عـلـى أن تعيد النظر فـــي مـــســـارهـــا، وتــســعــى فـــي طـــريـــق إنــجــاز استقال حقيقي، ودول قوية بمواطنيها، وبناء منظومة عربية متماسكة قادرة على فرض هيبتها واحترامها على العدو قبل الصديق. الشعوب العربية، أيضا، رضيت، فــي جـلـهـا، حـيـاة املـهـانـة واسـتـمـرأتـهـا، بل إن فيها من يبررها، ويعدها أمـرًا طبيعيا جينيا في صلب هويتها وإنسانيتها. ومن ثم، ترى تلك الشعوب تتخطف واحدة تلو أخـــرى، فـي الـعـراق، فـي سـوريـة، فـي اليمن، في السودان، في ليبيا... وإذا بقي الحال من دون تغيير فإن الدور سيصل إلى الجميع. لـــكـــن، االنـــكـــســـار واالســـتـــكـــانـــة والــــرضــــوخ والتبعية ليست بالضرورة قـدرًا علينا إال إذا قبلنا بها واستسلمنا لها.