Al Araby Al Jadeed

مفهوم النهضة في الغرب مسكون بحقبته الكولونيال­ية

- سيف الدين عبد الفتاح

تشير أزمات املفاهيم إلى ثالثة مستويات، مــن حـقـنـا أن نـتـوقـف عـنـدهـا، فنصححها بناء أو استعماال أو تــداوال. ترتبط األزمة األولــــى بــأصــل الــوضــع؛ وضـــع املــفــهـ­ـوم. إن الــقــضــ­يــة األســـاسـ­ــيـــة الــتــي تـتـعـلـق بمعنى املفهوم ،)concept( في الغرب، إنما ترتبط فـــي أصــولــهـ­ـا بــاملــجـ­ـال الــطــبــ­ي الــــذي يشير إلـى معنى الــوالدة أو الوضع، وكــأن وضع املفهوم ال بد أن يكون بعد فترة حمل تعبر عن الظاهرة (االســم أو املفهوم) وتكونها. أمـــا األزمـــة الثانية، فترتبط بعملية حمل املــــفــ­ــهــــوم ونــــقـــ­ـلــــه، وربـــــمـ­ــــا تـــرجـــم­ـــتـــه، ومـــن أهـــم صـــور ذلـــك «االرتـــحـ­ــال املـفـاهـي­ـمـي» أو «املــفــاه­ــيــم الــــرحــ­ــالــــة»، ســـــواء ارتـــحـــ­لـــت من مـــجـــال مـــعـــرف­ـــي إلـــــى آخـــــر أو ارتـــحـــ­لـــت مـن ثقافة إلى أخرى، ومن أكثر أدواتها أهمية الــتــرجـ­ـمــة، ومـــا قــد تـتـركـه مــن آثــــار سلبية في اإلدراك والفهم والتصور، فيحدث ذلك خـــلـــال أســـاســـ­يـــا واســتــرا­تــيــجــي­ــا، يـــؤثـــر في منهج النظر إلى املفهوم أو الظاهرة. بينما تتعلق األزمـــة الثالثة بـالـتـداو­ل والتعامل في عالم املفاهيم. إن معظم األزمـــات تولد فــي هـــذه املـنـطـقـ­ة الــكــبــ­رى، إنــهــا تــوجــد في منطقة االسـتـعـم­ـال والــتــوا­صــل والـتـفـاع­ـل، فـــتـــطـ­ــل عـــلـــيـ­ــنـــا أزمـــــــ­ــات تـــتـــول­ـــد عـــنـــهـ­ــا فــي التصورات وفي املواقف. تـشـيـر هـــذه األزمـــــ­ات فــي أحـــد مستوياتها إلــى الــوقــوف على تلك املفاهيم والكلمات التي أصابها ذلك الظلم البي، إن بالغفلة، وإن بـااللـتـب­ـاس والـحـيــر­ة، وإن بالتلبيس من صاحب القوة واحدًا من املسالك األكثر أهمية. يقول البشير اإلبراهيمي: «إن ظلم الــكــلــ­مــات بـتـغـيـيـ­ر داللــتــه­ــا كــظــلــم األحــيــا­ء بتشويه خلقتهم، كالهما منكر، وكالهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط لـلـتـاريـ­خ، وتضليل للسامعي، ويــا ويلنا حـــي نــغــتــر بــهــذه األســـمــ­ـاء الــخــاطـ­ـئــة، ويــا ويـح تاريخنا إذا بني على هـذه املقدمات الـــكـــا­ذبـــة، ونــغــش أنـفـسـنـا إذا صـــدقـــن­ـــا.. يا قومنا، إن للواقع عليكم حقا، وإن للتاريخ حقا، وإن لألمة التي تعملون لها حقوقا، فـــأنـــص­ـــفـــوا الـــثـــا­لثـــة مــــن نـــفـــوس­ـــكـــم»، وهـــو

يشير فـي تلك الكلمات الدقيقة إلـى جملة مـــن املــعــان­ــي املـــهـــ­مـــة مـــن الــكــشــ­ف والـفـضـح لهذه الكلمات التي تظلم عيانا بيانا في االســـتــ­ـخـــدام واالســـتـ­ــعـــمـــ­ال، فــتــنــح­ــرف عـن مــعــانــ­يــهــا وتـــنـــت­ـــهـــك مــبــانــ­يــهــا وتــغــتــ­صــب مــــغــــ­ازيــــهــ­ــا، وهــــــــ­ـذا كـــــلـــ­ــه يـــوجـــه­ـــهـــا عــكــس مقصدها، فـي سـيـاق يجعل ذلــك الطغيان في عالم الكلمات أقسى من تشويه األحياء وخلقتهم. وكــــان ذلــــك الــخــيــ­ار الــكــاشـ­ـف والــــفــ­ــارق من اإلبراهيمي للكلمة النموذج في هذا املقام، التي تتعلق بالظلم الفادح للكلمات، فتقع بـــي خـــــذالن واغـــتـــ­صـــاب، وهــــو مـــن األمــــور التي تـمـر مـع تـوالـي األزمـــان، وتمرير ذلك الـخـطــأ مـــن جــــراء اغــتــصــ­اب تـلــك الـكـلـمـا­ت. الــكــلــ­مــة الـــنـــم­ـــوذج الـــتـــي اخـــتـــا­رهـــا فـــي هــذا املـقـام كـانـت «االسـتـعـم­ـار»، تشير إلــى هذا اإلشــــكـ­ـــال الــخــطــ­يــر فـــي اســـتـــخ­ـــدام وتـــــداو­ل الكلمة على نحو فرضه صاحب القوة في عـالـم الترجمة، وفــي عـالـم إطـــالق الكلمات على ظواهر لقيطة، فتنتهك شرف الكلمات وتـــدنـــ­س املــعــان­ــي الــتــي تـتـعـلـق بــهــا ضمن عــمــلــي­ــة اســـتـــي­ـــالء عـــلـــى الـــعـــق­ـــول مــــن خـــالل الكلمات واملفاهيم. «عـــجـــيـ­ــب! وهــــل االســتــع­ــمــار مــظــلــو­م؟ إنـمـا يــــقــــ­ول هــــــذا (كـــــولــ­ـــون الــــشـــ­ـمــــال) أصـــحـــا­ب الكيمياء التي أحالت السيد عبدًا، والدخيل أصـــيـــا­ل، أمـــا أنـــت فـتـوبـتـك أن تـحـشـر كلمة (مظلوم) هذه في الكلمات املظلومة.. هون عــلــيــك فــــإن املـــظـــ­لـــوم هــنــا هـــو هــــذه الـكـلـمـة العربية الجليلة التي ترجموا بها ملعنى خسيس.. مـادة هذه الكلمة هي (العمارة)، ومـــن مشتقاتها التعمير والــعــمـ­ـران، وفـي القرآن: (هو أنشأكم من األرض واستعمركم فـيـهـا) (هــــود: ،)61 فـأصـل هـــذه الكلمة في لـغـتـنـا طـــيـــب، وفـــروعــ­ـهـــا طــيــبــة، ومـعـنـاهـ­ا القرآني أطيب وأطيب، ولكن إخراجها من املعنى العربي الطيب إلــى املعنى الغربي الخبيث ظلم لها، فاستحقت الـدخـول من هذا الباب، واإلدراج تحت هذا العنوان». « فـــالـــذ­ي صــيــر هــــذه الـكـلـمـة بـغـيـضـة إلــى النفوس، ثقيلة على األسـمـاع، مستوخمة فــي األذواق، هــو معناها الـخـارجـي - كما يـقـول املـنـطـق - وهـــو معنى مــــرادف لـإثـم، والـــبـــ­غـــي، والـــــخـ­ــــراب، والـــظـــ­لـــم، والـــتـــ­عـــدي، والـــفـــ­ســـاد، والـــنـــ­هـــب، والـــســـ­رقـــة، والـــــشـ­ــــره، والقسوة، واالنتهاك، والقتل، والحيوانية، إلــــى عـــشـــرا­ت مـــن مـــئـــات مـــن هــــذه الـــرذائـ­ــل تـــفـــسـ­ــرهـــا آثــــــار­ه وتــنــجــ­لــي عــنــهــا وقــائــعـ­ـه. وأعجبا، تضيق األوطان على رحبها بهذه

َِّ املجموعة، وتحملها كلمة ال تمت إلى واحد منها بـنـسـب، وإذا كــنــا نـسـمـي مـــن يجلب هذه املجموعة - من كبائر اإلثم والفواحش إلـى وطـن - ظاملا، فأظلم منه مـن يحشرها فـــي كـلـمـة شــريــفــ­ة مـــن لـغـتـنـا، لــيــخــد­ع بها

ويـغـر، وليهون بها على الفرائس شراسة املفترس، وفظاعة االفــتــر­اس». «أمــا والله، لو أن هذا الهيكل املسمى باالستعمار كان حيوانا لكان من حيوانات األساطير بألف فم لاللتهام، وألف معدة للهضم، وألف يد للخنق، وألــف ظلف لـلـدوس، وألــف مخلب لـلـفـرس، وألـــف نـــاب للتمزيق، وألـــف لسان للكذب وتزيي هذه األعمال، ولكان مع ذلك هائجا بادي السوءات واملقابح على أسوأ مــا نـعـرفـه مــن الــغــرائ­ــز الــحــيــ­وانــيــة. ســمــوا االســـتــ­ـعـــمـــا­ر تــخــريــ­بــا - إذ ال تـــصـــح كـلـمـة اســـتـــخ­ـــراب فـــي االســتــع­ــمــال - ألنــــه يـــخـــرب األوطان واألديان والعقول واألفكار، ويهدم القيم واملــقــا­مــات، واملــقــو­مــات والـقـومـي­ـات.. وخـــــذوا الــعــهــ­د عــلــى املــجــام­ــع الــلــغــ­ويــة أن تمنع استعمال هذه الكلمة في هذا املعنى الذي ال تقوم بحمله عربة مزابل». مـــــن هـــــــذا الــــــــ­ـذي دلــــــــ­ـس عــــلــــ­ى الـــكـــل­ـــمـــة فــي أصلها ووضعها األجنبي )colonialis­m( فترجمها إلى الكلمة العربية «االستعمار» التي ال تـدل على هـذه الكلمة مـن قريب أو بعيد؛ إال أن يـكـون صـاحـب هــذه الترجمة املعجمية صاحب قصد متحيز ألهـل هذه الـظـاهـرة الـكـولـون­ـيـالـيـة؛ ومــن غـرضـه دس هـــذا فـــي املــعــجـ­ـم الــعــربـ­ـي تــمــريــ­رًا وتـــزويــ­ـرًا عـلـى األســمــا­ء والــظــوا­هــر مـعـا؛ ربـمـا يكون مـــســـتـ­ــشـــرقــ­ـا خـــبـــيـ­ــثـــا خــــــدم هــــــذه الـــظـــا­هـــرة وخـــدم عليها. هــذا عـن املـفـهـوم فـي وضعه ونقله بترجمة منكرة ثم كتب لها الشهرة فــــي الـــــتــ­ـــداول والــــشــ­ــيــــوع فــــي االســـتــ­ـعـــمـــا­ل وتــمــريـ­ـرهــا فـــي االســـتــ­ـخـــدام؛ لــقــد ضغطت الكلمة على الجميع فاستخدمها القاصي والــــدان­ــــي فـــي اسـتـعـمـا­لـهـا الــخــبــ­يــث، حـتـى مع وعي املفكرين بالفجوة بي الكلمة في األصل والترجمة العربية، إن سطوة الكلمة املترجمة واالختيار البائس لكلمة عربية لــــم يـــكـــن إال تــقــبــي­ــحــا لــلــحــس­ــن وتــحــســ­يــنــا للقبيح. ملـاذا اختار من ترجم هذه الكلمة، رغم أنه كان له سعة في اختياره التعريب بالنقل الصوتي، مثل كلمات الديمقراطي­ة والليبرالي­ة. أمــــــا عــــن الـــتـــش­ـــريـــح الـــتـــا­ريـــخـــي لــلــظــا­هــرة الكولونيال­ية، فيتأكد مـن أن «االستعمار شـكـل مــن أشــكــال الـهـيـمـن­ـة؛ إنــــه عـلـى مــدار الــــقـــ­ـرون الــخــمــ­ســة املـــاضــ­ـيـــة أو يـــزيـــد، كــان االستعمار الركيزة املفاهيمية األساسية للتاريخ السياسي واالقتصادي والثقافي الــــحـــ­ـديــــث. ويـــشـــي­ـــر االســـتــ­ـعـــمـــا­ر تــاريــخـ­ـيــا إلــــــى الـــســـي­ـــطـــرة عـــلـــى الــــحـــ­ـكــــم، واألرض، والــــنــ­ــاس، ويـــكـــو­ن ذلــــك مـتـعـلـقـ­ا بـالـسـلـط­ـة الــســيــ­اســيــة. وتـــحـــد­يـــدًا عــلــى مــــدى الـــقـــر­ون الـخـمـسـة املـــاضــ­ـيـــة، أشــــار االســتــع­ــمــار إلــى الــــفـــ­ـرض الـــقـــس­ـــري لــلــســي­ــطــرة الــعــســ­كــريــة، واالقــــت­ــــصــــا­ديــــة، والـــســـ­يـــاســـي­ـــة األوروبـــ­ــيـــــة (واألوروبــ­ــــيـــــ­ـة األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة) عـــلـــى الـصـعـيـد الـعـاملـي؛ أي أنـــه، عبر املــراحــ­ل، والـوسـائـ­ل، واألساليب املختلفة، كـان بشكل عـام لبنة أسـاسـيـة لـبـنـاء الـعـالـم الـحـديـث وتعريفه. يـمـكـن الــقــول إن الــخــط الــزمــنـ­ـي الـتـاريـخ­ـي لـــلـــقـ­ــوة االســـتــ­ـعـــمـــا­ريـــة األوروبـــ­ـــيــــــ­ة (الـــتـــي تعرف على نطاق أوسع على أنها غربية)، وبـــالـــ­تـــالـــي يــتــطــل­ــب ذلـــــك فــهــمــا مــتــقــا­طــعــا ملـــفـــا­هـــيـــم الــــحـــ­ـداثــــة األوروبـــ­ــــيـــــ­ــة ومــــراحـ­ـــل األشـــكــ­ـال الـحـديـثـ­ة لـلـرأسـمـ­الـيـة، فتتداخل اإلمـــبــ­ـريـــالــ­ـيـــة واإلمــــب­ــــراطـــ­ـوريــــة مــــع الــفــهــ­م املعاصر لالستعمار بنواحيه السياسية، والعسكرية، واالقتصادي­ة، وكذلك الثقافية واملـــعــ­ـرفـــيـــ­ة»، كــمــا تـــؤكـــد رنــــا بـــركـــا­ت. ومــن هنا، فــإن خطاب النهوض من دول الغرب االســـتــ­ـعـــمـــا­ري لــيــس بــريــئــ­ا أبـــــدًا فـــي حـالـة الـسـيـطـر­ة والـتـحـكـ­م بـاالسـتـي­ـطـان أوال، ثم بالتحكم عــن بـعـد فــي سـيـاق فـهـم معادلة «االستعمار والقابلية لالستعمار». إن تـشـريـح مـفـهـوم االسـتـعـم­ـار مفاهيميا وتـاريـخـي­ـا وارتــبــا­طــه بـالـحـضـا­رة الغربية ومسار نهوضها ألمر مهم؛ ذلك الرتباطه بجملة من مستويات وأشكال التلبيس في عـالـم املفاهيم؛ «االسـتـعـم­ـار» .)!( فـي عالم التاريخ في تشريح الظاهرة الكولونيال­ية. في إخفاء تلك العالقة بي النهضة الغربية و«االستعمار» .)!( وأخـــيـــ­رًا، فــــإن الــتــصــ­ورات الـغـربـيـ­ة لحزمة مـــفـــاه­ـــيـــم تـــعـــلـ­ــقـــت بـــالـــن­ـــهـــضــ­ـة ال تـــــــزا­ل فـي حـــاجـــة إلـــــى فـــحـــص جـــديـــد ودرس دقــيــق وبــــحـــ­ـث عـــمـــيـ­ــق، وإن فـــهـــم كـــــل مــــا يـحـيـط بـاملـفـهـ­وم الـغـربـي مــن ســيــاق وظــــالل، ومـن ســـبـــاق ولــــحـــ­ـاق، قــــد يــفــيــد فــــي صـيـاغـتــ­نـا لسؤال النهوض، الصياغة النابعة بحق ال الصياغة التابعة املفعمة باملزالق والفخاخ.

كلمة «االستعمار» تشير إلى اإلشكال الخطير في استخدام الكلمة على نحو فرضه صاحب القوة في عالم الترجمة، وفي عالم إطالق الكلمات على ظواهر لقيطة

التصورات الغربية لحزمة مفاهيم تعلقت بالنهضة ال تزال في حاجة إلى فحص جديد ودرس دقيق وبحث عميق

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar