Al Araby Al Jadeed

مستقبل تونس موصوًال باالنتخابا­ت الرئاسية الُمرتقبة

- نجيبة بن حسين

تسير الـحـيـاة الـسـيـاسـ­يـة فــي تــونــس على وقــــــع االنــــتـ­ـــخــــاب­ــــات الــــرئــ­ــاســــيـ­ـــة، وتـــتـــن­ـــاثـــر األوراق والـــــقـ­ــــضـــــ­ايـــــا واالســــت­ــــحــــق­ــــاقــــ­ات الــســيــ­اســيــة واالجــتــ­مــاعــيــ­ة واالقـــتـ­ــصـــاديـ­ــة، مــوغــلــ­ة فـي الـزمـن االنـتـخـا­بـي، ومستثمرة فـــي تـــطـــور­اتـــه وتــقــلــ­بــاتــه، فـكـيـف يـمـكـن أن تجتزئ األوســـاط السياسية، املعنية بهذا االســــتـ­ـــحــــقـ­ـــاق، مــــا يـــقـــع فــــي املـــشـــ­هـــد الـــعـــا­م فـــي الـــبـــا­لد، ومــــا يـكـتـنـف املــعــيـ­ـش الـيـومـي للمواطن من ضنك وضبابية، وما يختزله نسق الحياة االقتصادية من بطء وجمود يشيان بصعوبة التغيير املنشود، وبتعثر اإلصالح املوعود؟ يبدو أن كثيرين معنيون بهذه االنتخابات من بعيد أو من قريب، بصورة مباشرة أو غــيــر مــبــاشــ­رة؛ أحــــــزا­ب، شـخـصـيـات عــامــة، أفـــــراد، جــمــاعــ­ات، ولـيـتـنـا­فـس املـتـنـاف­ـسـون. بعضهم عبر عـن ترشحه علنا، وبعضهم لــــم يـــعـــلـ­ــن، رغـــــم نـــيـــتـ­ــه خـــــوض غــــمــــ­ار هـــذه االنــتــخ­ــابــات، وبــعــض آخـــر ال يـــزال مــتــرددًا ويـــــرقـ­ــــب مـــســـتـ­ــجـــدات املــشــهـ­ـد االنــتــخ­ــابــي، ويــــراجـ­ـــع حــســابــ­اتــه الــســيــ­اســيــة، ال سـيـمـا وأن قـواعـد اللعبة االنتخابية لـم تتوضح بصورة نهائية، عبر إصدار قانون أو نص ترتيبي يضع القواعد التفصيلية للمبادئ العامة الدستورية املتعلقة بشروط الترشح لالنتخابات الرئاسية، فاملتأمل في املشهد السياسي يالحظ اهتماما متزايدًا ومكثفا بهذه االنتخابات دونا عن باقي االنتخابات التشريعية واملحلية املاضية، التي شهدت عــزوفــا كـبـيـرًا جـعـل املــعــار­ضــة وعـــديـــ­دًا من املــــالح­ــــظــــي يــــشــــ­كــــكــــ­ون فـــــي مـــصـــدا­قـــيـــتـ­ــهـــا وتمثيليتها، ويعتمدونها برهانا للطعن فـــي «املـــســـ­ار الـتـصـحـي­ـحـي لـــلـــثـ­ــورة»، الـــذي انطلق يـوم 25 يوليو ،)2021( كما يسميه مساندو الرئيس قيس سعيد ، وفي «املسار االنقالبي على الشرعية الدستورية وعلى الثورة»، كما يسميه معارضو الرئيس. االهتمام باالنتخابا­ت الرئاسية، بصورة خــــاصـــ­ـة، يـــفـــسـ­ــر بــــالـــ­ـدور املــــركـ­ـــزي لـرئـيـس الــجــمــ­هــوريــة فـــي الـــدســـ­تـــور الـــجـــد­يـــد، الـــذي أصدر في عام ،2022 وذلك إثر حل البرملان التونسي، وإقالة رئيس الحكومة، وإبطال رئـيـس الجمهورية العمل بـدسـتـور .2014 فبمقتضى أحــكــام هـــذا الــدســتـ­ـور الـجـديـد، أضــــحـــ­ـى الــــرئــ­ــيــــس يـــحـــتـ­ــكـــر الـــصـــا­لحـــيـــا­ت الـتـنـفـي­ـذيـة كــلــهــا، ويـعـتـبـر مــحــورًا للنظام السياسي بأكمله، ينسج خيوطه ويشرف عـــلـــى مــخــتــل­ــف الـــفـــا­عـــلـــي فـــيـــه، فـالــحـكـ­ومــة ال تــــمــــ­ثــــل هــــيــــ­كــــال مــــنــــ­فــــصــــ­ال عــــــن رئـــيـــس الـجـمـهـو­ريـة، بــل هــي خاضعة لــه خضوعا مطلقا، وظيفيا وهيكليا، يـعـي أعضاءها ويـــنـــه­ـــي مـــهـــام­ـــهـــم مـــتـــى يــــشــــ­اء، ويــضــبــ­ط برنامجها وسياساتها العامة، بـل يذهب بـــعـــض خــــبــــ­راء الــــقـــ­ـانــــون الــــدســ­ــتــــوري إلـــى الـــقـــو­ل بـهـيـمـنـ­ة رئـــيـــس الــجــمــ­هــوريــة على باقي السلط التشريعية والقضائية، التي تــحــولــ­ت مـــجـــرد وظـــائـــ­ف تــتــواله­ــا هـيـاكـل ال تــتــمــت­ــع بــاالســت­ــقــاللــ­يــة ومــــا تـسـتـوجـب­ـه

مـن ضمانات، وال يجوز أن ينطبق عليها مــبــدأ الــفــصــ­ل بـــي الــســلــ­طــات، كــمــا نــظــر له مونتسكيو ،)1755( وكما نزل في األنظمة السياسية الرئاسية والبرملاني­ة، التي تتسم بـالـديـمـ­قـراطـيـة والــتــعـ­ـدديــة وحـــريـــ­ة الـــرأي والتعبير، والـتـداول السلمي على السلطة، فــالــنــ­ظــام الــســيــ­اســي املــنــبـ­ـثــق عـــن دســتــور 2022 هـــو أقـــــرب إلــــى الـــرئـــ­اســـوي مــنــه إلــى الــرئــاس­ــي، بـاعـتـبـا­ر أن رئـيـس الجمهورية هـو املهيمن على مؤسساته واملتحكم في تـوجـهـاتـ­ه وســيــاسـ­ـاتــه، ولــعــل هـــذا السبب الرئيسي الذي يبرر التهافت على املشاركة فـي االنتخابات الرئاسية، ألن الشخصية التي ستتبوأ هذا املنصب ستحظى بمكانة محورية في صلب نظام الحكم، وسيكون بــيــدهــ­ا الـــحـــل والــــربـ­ـــط، وســتــحــ­تــكــر الــقــول الفصل وسلطة القرار والفعل، فإن نجحت نجحت معها جميع مكونات السلطة، وإن فشلت تهاوى معها الجميع، فهي الضامن الوحيد لنظام الحكم بكامله، الـذي أصبح مرتهنا لهذه الشخصية، ال سيما في ظل غـــيـــاب تــركــيــ­ز املــحــكـ­ـمــة الـــدســـ­تـــوريـــ­ة، فــإمــا أن تـــأخـــذ­ه الــــى بــــر األمــــــ­ان والـــنـــ­جـــاة أو أن تـغـوص بــه فــي غياهب الفشل والـخـسـار­ة، كما أن املراهني على ضـرورة تغيير نظام الحكم، بما يضمن له جرعات إضافية من الديمقراطي­ة والحرية، ال حيلة لهم في ذلك، إال من داخــل أجهزة الحكم، فقد فشلت كل مـــحـــاو­الت املـــعـــ­ارضـــة، وحـــتـــى املـــــــ­واالة، في التغيير والـتـأثـي­ـر، والــحــد مـمـا يعتبرونه مـــؤشـــر­ات للتسلط واالســتــ­فــراد بالسلطة، عـــبـــر آلــــيـــ­ـات مــــن خــــــارج مـــنـــظـ­ــومـــة الــحــكــ­م، بــــل أضـــحـــى املـــنـــ­تـــقـــدو­ن ودعـــــــ­اة اإلصـــــا­لح واملـــنــ­ـذرون بــعــودة االســـتــ­ـبـــداد، إمـــا عرضة للمالحقات القضائية أو فريسة للتهميش والشيطنة واإلقصاء. لكن، يبقى السؤال األكثر إلحاحا بشأن مدى حــظــوظ املــرشــح­ــي فــي الــفــوز أمــــام طغيان شـخـصـيـة الــرئــيـ­ـس الــحــالـ­ـي، قــيــس سـعـيـد، على املشهد السياسي، وسعيه الى تحييد األحــــــ­زاب الـسـيـاسـ­يـة وتـحـجـيـم دورهــــــ­ا، إذ يـعـتـبـره­ـا أجـسـامـا وسـيـطـة ال جـــدوى لها، وغير قادرة على التعبير عن إرادة الشعب، بل يذهب إلى اعتبارها مصدرًا لكل اآلفات واإلخـفـاق­ـات الـتـي عـانـت منها الـبـالد طيلة العشرية املاضية، ويصمها بترذيل الحياة السياسية وتسميمها، لذلك نجد أن عديدًا مــن زعــمــاء األحـــــز­اب املـــؤثــ­ـرة فــي الـسـجـون،

وتالحقهم تهم خطيرة بالخيانة والتآمر على أمن الدولة، أما ما تبقى من أحزاب على الساحة السياسية فتعد ذات قاعدة شعبية ضعيفة، وقد استفحل تهميش هذه األحزاب بتغييبها عـن املشهد اإلعــالمـ­ـي العمومي. وباعتماد نظام االقتراع على األفراد ال على القوائم الحزبية في االنتخابات التشريعية واملحلية املاضية، أما الشخصيات التي قد تـتـرشـح مـن خـــارج املنظومة الحزبية، فإن حـظـوظـهـا أقــــل وفـــــرة، لــغــيــا­ب «املــاكــي­ــنــات» االنتخابية القوية املناصرة لها، والفتقارها (مــــــاعـ­ـــــدا بـــعـــضـ­ــهـــا) لـــلـــخـ­ــبـــرة الـــســـي­ـــاســـيـ­ــة وللممارسة السلطوية، لكن يجب أال ننسى، فـــي هــــذا اإلطــــــ­ار، أن الــرئــيـ­ـس قــيــس سـعـيـد نفسه ترشح من خــارج املنظومة الحزبية، وكــانــت لــه حــظــوة لـــدى الـنـاخـبـ­ي أتاحتها لــه وســائــل اإلعــــال­م الــتــي وفــــرت لــه الفرصة لـيـبـرز فـــي الــبــداي­ــة أســـتـــا­ذًا جـامـعـيـا مثقفا متواضعا، خبيرًا فـي الـقـانـون الـدسـتـور­ي، متضلعا مـن اللغة العربية الفصحى، وذا نــزاهــة ونـظـافـة يــد وتــعــفــ­ف، وأكسبته هذه الـصـفـات شـعـبـيـة، فــكــان نـمـوذجـا ملــا يتوق إليه الناخب في شخص رئيسه املرتقب، فال شيء يحول مبدئيا دون إمكانية استنساخ صور أخرى ملثل هذه الشخصية، من خارج منظومة الـحـكـم واألحـــــ­زاب، وأن تـكـون لها حــظــوظ وافــــرة فــي االنــتــخ­ــابــات الـرئـاسـي­ـة، إال أن الـظـرف والــزمــن االنتخابيي اآلنيي يجعالن إمكانية اجترار «التجربة القيسية» أمرًا صعبا وغير واقعي، نظرًا إلى أن املشهد السياسي واإلعالمي لم يفسح املجال لبروز شخصيات عـامـة وازنـــة ومـــؤثـــ­رة، يمكن أن تكون ذات ثقل انتخابي. وفــــي انــتــظــ­ار أن تـكـشـف هــــذه الــتــرشـ­ـحــات بما تتمخض عنه من مفاجآت، وأن تحاك قـــواعـــ­د الـلـعـبـة االنـتـخـا­بـيـة بـشـكـل نـهـائـي، يظل الرئيس الحالي الشخصية األبرز التي نجحت بصورة راهنة في تحطيم خصومها وتقزيمهم، ويظل الناخب التونسي فريسة املـــجـــ­هـــول، فـــهـــل ســـتـــبـ­ــرز شــخــصــي­ــة أخــــرى تضاهيه شعبية وحظوظا انتخابية؟ وإن وجـــدت، هــل ستكون قــــادرة على الـفـوز في ظـل الحمالت االنتخابية السابقة ألوانها، الــــتـــ­ـي بـــــدأ الـــرئـــ­يـــس يـــخـــوض­ـــهـــا فــــي الـــســـر والعلن، وفي ظل تحكمه في أجهزة الدولة ودواليبها، وفي ظل املخاوف من تسخيرها لخدمة حملته االنتخابية؟ فعلى الرغم من عدم تعبير الرئيس سعيد صراحة عن نيته الترشح مجددًا لالنتخابات الرئاسية، فإن بـــــوادر عـــديـــد­ة تـشـيـر إلـــى سـعـيـه إلـــى ذلـــك، ورغبته غير املعلنة فـي استكمال مـا بـدأه من مسار، وفي املضي به إلى بر األمان، فهو ال يــزال فـي بـدايـة بناء مشروعه السياسي الـذي بذل في سبيله كل ما يملك من نفوذ وآلـــيـــ­ات وصــــدامـ­ـــات ومــــعـــ­ـارك، فـــي الـــداخــ­ـل وفــي الــخــارج، وهـــذا املــشــرو­ع، الـــذي يرتكز أسـاسـا على البناء الـقـاعـدي، يتأرجح بي النجاح واإلخفاق، وال يمكن الحسم نهائيا فــي مـــدى انـسـجـامـ­ه مــع خـصـائـص املشهد الـــســـي­ـــاســـي الـــتـــو­نـــســـي، ومـــقـــو­مـــات الــبــنــ­اء الــنــفــ­ســي والـــســـ­وســـيـــو­لـــوجـــي لـلـشـخـصـ­يـة التونسية، ولـعـل أهــم مـا يحسب للرئيس الـحـالـي لـــدى شـريـحـة هــامــة مــن املـواطـنـ­ي هـــو اســتــبــ­عــاده حــركــة الــنــهــ­ضــة، واإلســــا­لم السياسي بمختلف مـكـونـاتـ­ه، مــن الحكم، مـن جهة، ونـزاهـتـه وحسن نياته مـن جهة أخرى، أضف إلى ذلك كسبه ثقة املؤسستي العسكرية واألمنية، وما أثمرتاه من نجاح في مقاومة اإلرهاب واستتباب األمن. لكن، مـا مــدى اسـتـدامـة هــذه املكاسب وتأثيرها على الـقـرار الـفـردي االنتخابي، والـحـال أن بـــوادر اإلقـــالع االقـتـصـا­دي لـم تلح بعد في األفــق، وبشائر تحسن الوضع االجتماعي واملــقــد­رة الـشـرائـي­ـة للمواطن لــم يكتب لها االنبالج، والقضاء على الفساد املستشري فــي الـبـالد لــم يتحقق بــصــورة فعلية، ولو اقتناع ّالرئيس بصواب اختياراته وحسن فـــي حــــده األدنـــــ­ـى، وطــغــت الـــشـــع­ـــارات أكـثـر من األفعال واإلنجازات، ولم يحل ذلك دون مـسـعـاه، ولـــم يـدفـعـه ذلـــك، فيما يــبــدو، إلـى القيام بمراجعات وتقييمات ضرورية عند انتهاء كل محطة انتخابية، فهو مستمر في التفرد بالقرار وإقصاء الخصوم والشركاء، عـــلـــى حــــــد الــــــسـ­ـــــواء، والــــــد­فــــــاع املــســتـ­ـمــيــت عــــن تـــوجـــه­ـــاتـــه وخــــيـــ­ـاراتــــه وأدوات فـعـلـه السياسي؟ لذلك، يبقى مصير تونس معلقا على هذه االنـتـخـا­بـات الـرئـاسـي­ـة، مــن نـاحـيـة ضمان نـــزاهـــ­تـــهـــا واســـتـــ­قـــاللـــ­يـــة املـــشـــ­رفـــي عـلـيـهـا، واملـسـاوا­ة الفعلية في الحظوظ بي جميع املرشحي، وتـوفـر املناخ االنتخابي النقي والـسـلـيـ­م، مــن نــاحــيــ­ة، أمــــا مــا ســتــفــر­زه من نتائج فستكون لها، حتما، تبعات جوهرية على نظام الحكم، وانعكاسات مباشرة على أوضاع العباد والبالد، من ناحية أخرى.

لم يفسح المشهد السياسي واإلعالمي المجال لشخصيات عامة يمكن أن تكون ذات ثقل انتخابي

يبقى مصير البالد معلّقًا على هذه االنتخابات الرئاسية، من ناحية ضمان نزاهتها واستقاللية المشرفين عليها، والمساواة الفعلية في الحظوظ بين جميع ال ُمر ّشحين

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar