Al Araby Al Jadeed

الكتابة من المسافة صفر

باسم خندقجي تبقى «قناع بلون السماء» نصًا قاسيًا، خرَج من واقٍع قاس، هو الواقع الفلسطيني، حيث جاء محتلون كي يفرضوا سردية تاريخية مزيفة على بلٍد بأسره محاولة الوصول إلى الذاتية الفلسطينية

- سومر شحادة

«قــــــــن­ــــــــاع بـــــــلـ­ــــــون الـــــــس­ـــــــمــ­ـــــاء» لـــــلـــ­ــروائــــ­ـي الــفــلــ­ســطــيــن­ــي األســـيــ­ـر بـــاســـم خـنـدقـجـي )1983( رواية من الداخل، ليس من داخل فــلــســط­ــن املـــحـــ­تـــلـــة فـــقـــط، ولـــيـــس ألنـــهـــ­ا خـــرجـــت مـــن ســـجـــون االحــــتـ­ـــالل، بـــل هي روايــــة تـقـرأ فلسطن بـصـوت يـخـرج من عـمـق الــــذات الفلسطينية الـتـي فصمها واقـــع االحـــتــ­ـالل. إنــهــا كـتـابـة مــن املسافة صفر. من لحظة راهنة، هي أحداث حي الــشــيــ­خ جـــــراح ،)2021( يــقــرأ خندقجي حكاية فلسطن، ومــا إن نعرف أن بطل الــروايــ­ة يعمل فـي اآلثـــار، ويشتغل على رواية عن مريم املجدلية، حتى ندرك أنها حـكـايـة لصيقة بـالـتـاري­ـخ كــلــه. الـتـاريـخ الذي يؤرق الراوي كي يعيد إخراج نقاط مهملة منه. ينتحل بطل الحكاية الفلسطيني هوية مستوطن إسرائيلي، والـصـراعـ­ات التي تــشــتــم­ــل عـــلـــى الــــــرو­ايــــــة، هــــي صــــراعــ­ــات الـــواقــ­ـع الـفـلـسـط­ـيـنـي بــكــل تــعــقــي­ــداتــه. إذ ينتحل الفلسطيني هوية املستوطن؛ كي يستطيع الــتــجــ­ول فــي بــلــده، والــوصــو­ل إلـــــى أرِض روايـــــت­ـــــه الـــتـــا­ريـــخـــي­ـــة، حــيــث املستوطنة التي بناها الصهاينة على أنقاض قرية عربية قرب القدس. إذًا، مـن اسـتـخـدام نــور لهوية مستوطن يـدعـى أور يبدأ شـقـاق الهوية بالتأثير عـلـى مـجـمـل الــحــكــ­ايــة، وبــــدا أن لـلـداخـل الفلسطيني الـذي يعيش واقـع االحتالل هــــويـــ­ـتــــن؛ إحــــداهـ­ـــمــــا تــــريـــ­ـد أن تــطــحــن األخــرى، إحداهما نشأت من قتل أخرى. إحـــداهــ­ـمـــا مـــزيـــف­ـــة ال تــشــعــر بــاالنــت­ــمــاء، وال بـــأهـــم­ـــيـــة الـــهـــو­يـــة بــــاملــ­ــبــــدأ. وأخـــــرى فلسطينية تدافع عن وجودها، وتحاول استعادة وجهها األصلي. فالهوية التي وجــدهــا نـــور، ســرعــان مــا صـــارت قناعًا. لـــكـــن يـــؤكـــد الــــــــ­ـراوي، لـــيـــس ذلـــــك الــقــنــ­اع األبـــيــ­ـض الـــــذي يـــرتـــد­يـــه الـــرجـــ­ل األســــود كــــي يــشــعــر بـــاالنــ­ـتـــمـــا­ء إلـــــى املـــســـ­تـــعـــمـ­ــر، وكي يقبل به املستعمر، وإنما هو قناع الستعادة رواية املستعمرين، قناع أشبه بـــأداة للنزال، ال للتزلف أو التماهي مع القتلة. لــــكــــ­ن مـــصـــيـ­ــر الـــــقــ­ـــنـــــا­ع، مـــهـــمـ­ــا كــــــــا­ن، أن تــــنــــ­تــــهــــ­ي صـــــالحـ­ــــيـــــ­ة اســــــتـ­ـــــخــــ­ــدامـــــ­ـه، أن يــتــقــا­دم، أن يـسـقـط. ويـخـتـار خندقجي، كـــي يـــســـقـ­ــط الـــقـــن­ـــاع، ولــيــســ­تــعــيــد بطله صـورتـه وأصـالـتـه؛ أن يواجهه مـع وجـه فـلـسـطـيـ­نـي آخـــــر، مـــع ســـمـــاء إســمــاعـ­ـيــل، الـبـنـت الفلسطينية الــقــادم­ــة مــن حيفا، الــبــنــ­ت الــعــربـ­ـيــة الــتــي تـنـضـم إلـــى فـريـق التنقيب إلـــى جــانــب (أور/ نـــور) برفقة عــدد مـن الجنسيات األوروبــي­ــة، والفتاة اإلسرائيلي­ة. وضمن هـذا التعدد، تكون لغة سماء هي األوضح، ويكون للحقائق الـــــتــ­ـــي تـــحـــكـ­ــيـــهـــ­ا عــــــن الــــهـــ­ـولــــوكـ­ـــوســــت الـــــذي يـــقـــوم بـــه الــصــهــ­ايــنــة يـــومـــي­ـــًا ضــد الفلسطينين الصوت األعلى. حــــتــــ­ى إن صــــوتـــ­ـهــــا كـــــــان األعـــــل­ـــــى عــلــى الــــصـــ­ـوت الــفــلــ­ســطــيــن­ــي الــــــذي اســتــخــ­دم قــنــاعــًا كـــي يـسـتـطـيـ­ع تـــدبـــر الــعــيــ­ش في واقــــع االحــــتـ­ـــالل. ومــــا أســقــط قــنــاع نـــور، ليست عاطفته لسماء، وال هـوسـه بها، بــل صـوتـهـا، جــدارتــه­ــا، أحـقـيـتـه­ـا، وهـي تـــعـــبـ­ــيـــٌر مـــبـــاش­ـــٌر عــــن فــلــســط­ــن الــــتـــ­ـي ال تـــمـــوت، وال تـــتـــلـ­ــون، وال تــغــيــر وجـهـهـا. تــبــقــى الــكــتــ­ابــة عـــن املـــجـــ­دلـــيـــة مــشــروعـ­ـًا يتحدث عنه نور ويخطط له ويفكر كيف سـيـكـون وكــيــف سـيـكـتـب. لـكـن فـعـلـيـًا، ال تتعدى روايته عن مريم املجدلية، كونها ذريعة يتعلل بها كي يقول الحكاية التي أراد كتابتها، والـروايـة التاريخية قناع ســردي لحكايته املعاصرة التي ترتبط بـتـمـزق األرض، وبـتـمـزق الفلسطينين بـــفـــعـ­ــل االحـــــت­ـــــالل الـــــــذ­ي ســـــرق الـــبـــي­ـــوت، وسرق الهوية ويستمر بتجريب السطو على الـتـاريـخ. إن مــحــاوال­ت نــور لكتابة الـــــــر­وايـــــــ­ة، ال تـــتـــعـ­ــدى كـــونـــه­ـــا مـــحـــاو­لـــة للوصول إلى ذاتيته الفلسطينية التي لم يخربها االحتالل. إنها طريقة للتشافي. وهـــي ليست هــروبــًا مــن واقـــع االحــتــا­لل،

بــقــدر مــا هــي مـحـاولـة تـجـاهـل، محاولة كــــي تــســتــق­ــيــم الـــحـــي­ـــاة فــــي بـــلـــد مــحــتــل، ال سـبـيـل ألن تـــكـــون الـــحـــي­ـــاة فــيــه حــيــاة طـبـيـعـيـ­ة؛ بـبـسـاطـة ألن االحـــتــ­ـالل قـائـم، وألن االحـتـالل هـو املشكلة، وهــو األزمــة التي ال تبقى عامة، بل تنتهي ألن تكون أزمة شخصية مع واقع فرضه االحتالل. يذهب املرء إلى هذا االعتقاد، بأن الرواية عن املجدلية ليست أكثر من وسيلة لقهر واقــــع قــــاس، عـبـر االسـتـعـا­نـة بشخصية مـــــراد، األســـيــ­ـر، وهـــو صــديــق نـــور خلف قـضـبـان الـصـهـايـ­نـة، يـرسـل الـكـتـب إلـيـه، يكتب له، ويخبره عن روايته، وكأنه يرفع تقريره الخاص إلـى جهة يريد منها أن تـعـطـيـه شـــرعـــي­ـــة. وهـــــذه الــشــرعـ­ـيــة الـتـي يـعـوزهـا نـــور مـمـن هــو خـلـف القضبان، هي شرعية من قرر أن يقاوم، ومن رفض االحتالل بوضوح. بمؤازرة هذه الثنائية الواضحة للصديق املقاوم، وللفتاة املقاومة؛ يتكشف القناع الذي لجأ إليه نور، كي يستطيع العيش وسط صعوبات االحتالل. يتكشف قناعه عن وهم إمكانية هذا العيش، فاالحتالل يرفض الفلسطيني بتعريفه فلسطينيًا. كـــمـــا يــلــمــح الـــــقــ­ـــارئ وهـــمـــًا آخـــــر تــفــتــت­ــه الــروايــ­ة، وهــو وهــم التسوية السياسية مع االحـتـالل بالصورة التي هو عليها.

تفسير للواقع أمام اتّساع المأساة واتّساع عملية السطو كما أن النص في جوهره، رفض للهوية الـــــتــ­ـــي يـــــريــ­ـــد االحــــــ­تــــــالل فــــرضـــ­ـهــــا عــلــى الفلسطينين؛ ومــا تـــأزم شخصية نور إال تــــأزم للشخصية الفلسطينية التي اعتقدت بإمكانية العيش مع االحتالل. أقـــصـــد، الــعــيــ­ش الـــعـــا­دي الـــــذي يـتـجـاوز على املــجــاز­ر، يتجاوز على العنصرية، يتجاوز على التطهير العرقي. هذا وهم تنسفه الرواية. إذ يلقي نور نجمة داوود عــــن صـــــــدر­ه، ويــــمـــ­ـزق هـــويـــة املــســتـ­ـوطــن التي انتحلها، ليخرج مـن تلك التورية بـــالـــك­ـــامـــل، وهـــــو إلـــــى جـــــــوا­ر ســــمــــ­اء فـي السيارة خارجًا من موقع التنقيب. هذه اللحظة االنفعالية التي تحدث في النهاية تقدم إحـدى حقائق الشخصية. بـاملـثـل، ذلــك الــوشــم «حيفا »1948 الــذي وشــمــتــ­ه ســـمـــاء عــلــى ســـاعـــد­هـــا. مـــواقـــ­ف تــمــثــل تـعـريـفـًا لــهــذه الـشـخـصـي­ـات الـتـي وجـــــدت نـفـسـهـا تــعــيــش فـــي بـــلـــده­ـــا، مع عـــصـــاب­ـــات تـــهـــدم بـــلـــده­ـــا، تـــجـــرف­ـــه، وقـــد زرعوا الغابات فوق املقابر الجماعية. الـــــروا­يـــــة الـــتـــي حــصــلــت عـــلـــى «الـــجـــا­ئـــزة العاملية للرواية العربية» (البوكر) لدورة هــــذا الــــعـــ­ـام، والـــــصـ­ــــادرة عـــن دار اآلداب )2023( نـــص قــــاس، ألنـــه خـــرج مــن واقـــع

ٍٍ قــــاس، ومـــا قــد يـعـتـقـده الــنــاقـ­ـد تــأويــال­ت ورمــــــو­زًا، ال يــعــدو كــونــه مـــفـــرد­ات الــواقــع الفلسطيني ذاتـــــه، حــيــث جـــاء محتلون كي يفرضوا سردية تاريخية مزيفة على بلد بأسره. ومفهوم أن يعود نور للبحث عن يسوع، وعن تالمذته، وعن املجدلية. وكأنما أمام اتساع املأساة، واتساع أمداء عملية السطو احتاج نور تفسيرًا للواقع، وقرر أن يستلفه من صلب «ابن الله».

 ?? (حسين بيضون) ?? الكاتبة الفلسطينية سامية عيسى في «حديث األلف» وصورة الكاتب األسير باسم خندقجي في الخلفية
(حسين بيضون) الكاتبة الفلسطينية سامية عيسى في «حديث األلف» وصورة الكاتب األسير باسم خندقجي في الخلفية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar