Al-Watan (Saudi)

التحدي هو البحث عن كل ما لم يقل أو ينشر

-

شدني أخيرا تحقيق صحفي أجري عام 2003 من قبل قسم التحقيقات الصحفية الخاص بصحيفة » ‪BOSTON GLOBE‬ « عن التحرش الجنسي من قبل بعض من رهبان الكنيسة في مدينة بوسطن، لم يكن الأمر سهلاً، ولم يكن عابراً، بل تم العمل عليه لفترة طويلة امتدت لأشهر، وكان الأمر شاقاً خاصة في البحث عن الضحايا ممن لديهم استعداد للتحدث، كان الأمر شاقا خصوصاً أنه لم يتطرق إليه أحد من قبل نظراً لحساسية الموضوع بالنسبة للكنيسة التي كان لديها قوة ودعم المنتسبين إليها، والذين كان يعتبرون أن حمايتها من حماية الدين، وبالطبع أيضا لما تتمتع به من سلطة داخل المجتمع بجميع شرائحه، لقد قام فريق عمل قسم الضوء الكاشف »SPOTLIGHT« بمجهود جبار حتى استطاعوا إظهار الحقائق، التي تم التأكد من كل جزء فيها ومراجعة القسم القانوني في الجريدة قبل النشر، وفي النهاية خرج التحقيق الذي كما أطلق عليه فيما بعد »التحقيق الذي هز الفاتيكان .«

من أجل التوضيح فقط هنالك فرق بين الخبر الصحفي الذي يتضمن بضعة أسطر من المعلومات المصاحبة والتحقيق الصحفي الذي يغوص في الأعماق وأحيانا يخاطر حتى يصل إلى الحقائق، الأول قد يعتمد على حدث معين أو تصريحات عابرة نشرت أو أطلقت عن طريق وسيلة إعلامية ما، ومن ثم يلجأ الصحفي إلى مجموعة من الأفراد بينهم مختصون للتعليق، وبعدها ينتهي الخبر دون متابعة أو ملاحقة للمستجدات أو التغييرات، فيما نجد أن التحقيق الصحفي يكون عادة من قبل شخصين أو أكثر يعملان على موضوع لمدة أشهر دون أن تظهر أسماؤهم على أي عمل خلال تلك الفترة، بمعنى أنهم يخرجون إلى الميدان ويعودون بالمادة التي يتم مراجعتها والبحث في الوثائق والتأكد من دقتها والقيام بعمليات التحليل والربط أو تحديد الحلقات المفقودة، المهم هنا أن كل خطوة تدرس وبدقة ويتعامل معها بكل مهنية، ولكن الأهم هنا أن الفريق يعمل تحت حماية الصحيفة والقانون ما لم يتم تجاوزه من أي عضو في الفريق، كأن ينتحل شخصية أخرى خلال التحدث إلى أحد الشهود أو اللجوء إلى تسجيل مكالمات دون علم الآخر أو سرقة مستندات...الخ، الهدف ليس البحث عن فضيحة لشخص أو لمؤسسة عامة أو خاصة، الهدف هو البحث عما لم يتم إعلانه في حين أن هذا الأمر له تأثير سلبي على العامة، والبحث عمن تعدى حدود سلطاته في اتخاذ قرارات أدت إلى أو قد تؤدي إلى حدوث أزمات من الناحية الصحية أو المالية أو الاجتماعية أو حتى السياسية، والأهم من ذلك التحقيق الصحفي لا يوجه التهم بل يقدم الحقائق ويترك الحكم للجمهور والجهات الرسمية للتحرك، لأن المحققين الصحفيين ليسوا الجهة الوحيدة في المجتمع التي تلاحق وتظهر عدم الكفاءة والفساد والكذب وعدم الوفاء بالاتفاقيا­ت والوعود، هنالك أيضاً جهات رسمية مثل جهاز الأمن والشورى ومجالس البلديات والمحاكم وهيئات المتابعة الرسمية من الدولة، نعم الشرطة تلقي القبض على من قام بخرق القانون ولكن ليس لديها الوقت أو العدد الكافي لملاحقة جميع الحالات خاصة التي يتم التعتيم عليها من قبل الفرد أو المؤسسة، فهم لا يستطيعون فعل أي شيء ضد من يتصرف بشكل سيئ دون أدلة واضحة طالما ظاهريا لا يخالف القانون، هنا يأتي دور المحقق الصحفي الذي رغم أنه لا يستطيع أن يحكم أو يعاقب ولكنه يستطيع أن يلقي الضوء على المخالفات والتجاوزات ويضعها بالأدلة الموثقة أمام الرأي العام معتمداً على أن المجتمع سوف يقوم بالبقية من أجل القبض على المخالفين أو حتى الضغط لتغيير خطأ في نظام ما.

التحقيق الصحفي مهنة المصاعب لكل صحفي جاد مؤمن بأنه صوت من لا صوت له، يتعامل مع المعلومة بتدقيق وصدق وتوثيق، يتأكد من المعلومة وصحتها ألف مرة قبل النشر، وينشر نتائج التحقيق الصحفي حتى لو لم يتفق مع ما يجده، يخاطر وهو مدرك أنه قد يتعرض للتهديد، ولكنه لا يتعدى على حقوق الغير، لديه الموهبة والمهارات والقدرات لكي يفرق بين الخبر العادي أو المعلومة العادية وبين التي وراءها أمر أكبر وأهم، قد يمر عليه الكثير من المعلومات ولكنه لا يتركها تمر بسلام لأنه يعلم أنه أحيانا تكون المعلومة العابرة أو البسيطة تحمل في طياتها ما هو أخطر، والأمر الثاني أنه لا يكل ولا يمل ويظل يبحث رغم أنه قد يتعرض للتهديد والمضايقات فهو مؤمن برسالته واثق من أهدافه، أما الشهرة قد تكون ضمن أجندته ولكنها ليست الهدف بدليل أن الكثير من التحقيقات الصحفية دوت وكان لها تأثير كبير بينما نادرا ما يعرف أسماء من كان خلفها من محققين، مثل تحقيق »WATERGATE« و» ‪ABUSE IN‬ ‪،«THE CATHOLIC CHURCH‬ بالطبع حصل الفريق على جوائز عدة ولكن الشهرة كانت ضمن جمهور المتخصص فقط، وهنالك الكثير من التحقيقات التي نالت جوائز صحفية كانت حول تعديات لشركات كبرى عالمية وغيرها محلية، ومحاكم وقضاة، وجرائم وأخطاء طبية وأدوية فاسدة، وإصلاحيات وجمعيات خيرية والقائمة تطول لكنها لا تنتهي طالما أن هنالك من يظن أنه فوق القانون ويستطيع من خلال سلطته أو ذكائه أن يتحايل ويخفي ويتعدى على حقوق الغير من العامة كأفراد أو كمجموعات.

كنت أتمنى أن يكون لدينا جائزة محلية للتحقيقات الصحفية INVESTIGAT­IVE» JOURNALISM« التي استطاعت أن تؤثر في الرأي العام وأدت إلى تغييرات في القوانين الخاصة بالشركات أو الخاصة بالشؤون الوضعية كقضايا المرأة، وكنت أتمنى أن يكون بين طاقم الصحافة في إعلامنا من يعمل على مثل هذه التحقيقات، لا نريد تقارير إنجازات بل مخالفات؛ حيث توجد، تقدم على شكل سلسلة من التحقيقات عميقة وليست سريعة »سلق بيض« لنعبئ فراغا في الصفحات، فمثلا يمكن أن يأخذ خيط مسارات السيل في المناطق ويتابع وثائق البيع والشراء لتلك المسارات، أو يتابع مسار السيل الذي يتم رمي مخلفات البناء في أجزاء منه بحيث يشكل خطرا على مساره في حالة الأمطار الغزيرة، أو يدرس خارطة توزيع أبراج الكهرباء التي تبنى بجانبها منازل أو مجمع تجاري أو حتى تشيد إلى جانبها بعد البناء وعلاقة كل ذلك بالتقارير الطبية للمجتمع المحيط، وفي الزراعة متابعة نوعية البذور التي تباع أو توزع على المزارعين إن كانت معدلة جينيا وما تأثير ذلك على المنتجات الزراعية وبالتالي على المستهلك، هل وصلت إلينا وتباع منتجاتها الغذائية في أسواقنا، وما هي الشركة التي أطلقت هذا الاكتشاف ومدى قوتها وتأثيرها على المزارعين والمنتج الغذائي عالميا ومحليا؟ وهل هي حل لمشكلة أم تحكم في نوعية وكمية الغذاء العالمي؟ ما هو تاريخ هذه الشركة وما هو عدد القضايا، إن وجدت، التي قدمت ضدها خاصة فيما يخص تلويث البيئة وتعرض الناس لأمراض عدة منها الخبيثة؟ هل كل ما سبق مجرد أخبار أم وقائع أم حقائق؟ لا أدري ولكنها مهمة فريق التحقيق الصحفي في صحفنا للمتابعة والتدقيق والتوثيق، وهنا يكمن التحدي لمن سيقبل ويبدأ بالبحث، فالقضايا كثيرة تنتظر من يدخل الميدان بشجاعة ويكتشفها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia