Al-Watan (Saudi)

الإخوان والموقف منهم التجليات العملية الملموسة للجماعات السياسية الإسلامية أكثر دلالة على التحجر الفكري، واصطفافا في وجه التنمية ورفض الحداثة

-

موقف التفاصل والتجافي بين جماعة »الإخوان المسلمون« وما تناسل منها من الجماعات الإسلامية السياسية، وبين المجتمعات الإسلامية، هو الموقف نفسه من القطيعة والتباعد بينهم وبين العديد من علماء الدين المعاصرين لهم، سواء كانوا من علماء المؤسسات الدينية التقليدية، أم من العلماء المستقلين.

فإذا كان في كتب الإخوان ما يقدح في الشيخ محمد عبده، النهضوي المستنير ومفتي مصر في مطلع القرن العشرين، قدحا يخرم المروءة ويطعن في العقيدة ويشين الأخلاق، فقد انسحب هذا القدح في الكتب نفسها على رفيقه الأبرز في طليعة النهضة والإصلاح الديني جمال الدين الأفغاني، وتلاميذهما.

ومن ثم على الفكرة الجوهرية للنهضة الإسلامية التي كان محركها الأساسي، وهو الإعجاب بالتقدم الغربي، منظورا إليه من زاوية الجهل والدروشة والخرافة والتخلف والاستبداد في العالم العربي والإسلامي. وهذه زاوية مفصلية لتفهّم فكرة »الأسلمة« لدى سائر جماعات الإسلام السياسي، وهجوم تلك الجماعات على الأنظمة والمجتمعات الحديثة، لأنها ترينا التفاصل بين تلك الجماعات وبين العصر الذي ألبسته بكامله المصطلح الراديكالي الأكثر رسوخا لديها »جاهلية القرن العشرين« ولوازمه. كانت مؤسسة الأزهر الشريف إحدى القلاع التي استعصت كثيرا على الجماعات الدينية السياسية. وكان إنكار العديد من علماء الأزهر وشيوخه للتوظيف السياسي للدين من قبل الإخوان، هو الدلالة الأوضح في علاقة التنافي التي وسمت علاقة الإخوان بأمثال محمد مصطفى المراغي، ويوسف الدجوي، ومصطفى عبدالرازق، ومحمود شلتوت، وعبدالحليم محمود... وغيرهم. وكتاب حسين القاضي »موقف الأزهر الشريف من جماعة الإخوان« مرجع غني بالتفاصيل.

وهو إنكار كان يرتد من جماعة الإخوان أو من بعض كوادر الجماعات المتناسلة منها على أولئك العلماء بالنقد وأحيانا الهجوم... وليس آخره ما تعرّض له مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وهما الشاهدان على لحظة حكم الإخوان وعلى سقوطه، وقد تكبدا مرير المعاناة من تعجرفهم ودعاواهم الانتهازية للدين.

ولا يختلف عن ذلك، عديد العلماء الرسميين والمستقلين في المملكة العربية السعودية، سواء من جهة موقفهم من الإخوان والجماعات الدينية السياسية المشابهة، أم من جهة وقوعهم في موضع النقد والهجوم والتشنيع من عديد الكوادر الإخوانية ومن يشبههم. وقراءة إجمالية لآراء ابن باز، وصالح اللحيدان، وصالح الفوزان، وعبدالعزيز آل الشيخ، وصالح آل الشيخ، مثلا، ترينا وجهة التطابق لديهم مع علماء الأزهر في شأن الوصف لوجهة الإخوان بأنها »سياسية«. وتتنوع آراؤهم بعدئذ في توصيف ما ينتج عنها من »فُرْقة البلاد« ومن »تقمُّص الإسلام لآرائهم وأهوائهم وخداع الناس« ومن ارتهانهم إلى »الحب والبغض في الجماعة«... الخ.

وأظن أن الوقوف على العلاقة بين الشيخ محمد متولي الشعراوي وبين الجماعات الإسلامية السياسية وعلى الأخص جماعة الإخوان، موقف جامع ودال بأكثر من صورة. ذلك أن الشيخ الشعراوي لا يعبر من موقعه عن موقف مؤسسي، بل عن موقف فردي، وكانت علاقته بهم متدرجة إلى القطيعة، وانتهت إلى بيان مبدئي حاسم بشأن الظاهرة برمتها.

التحق الشيخ الشعراوي -فيما يورد عنه سعيد أبو العينين في كتابه »الشعراوي الذي لا نعرفه«- بجماعة الإخوان مبكرا، وفارقها مبكرا -أيضا- عام 1938. وحكاية الشيخ لذلك تكشف عن تصوّره للدين خارج قفص الحزبية السياسية ونفعيتها، وهو تصور كانت الجماعة تتحيّفه من منظورها المحدود وتنتقصه وتعيد إنتاجه على مقاسها.

كان سبب اختلافه مع الجماعة قصيدة امتدح فيها سعد زغلول ومصطفى النحاس، في احتفال بذكرى سعد، فلما علم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة بخبر القصيدة غضب لامتداحه النحاس، ودار نقاش مع البنا وأعضاء الجماعة، كشف للشيخ الشعراوي عن المفاصلة بين الطموح السياسي للجماعة الذي غفل عنه، وبين مقصده الديني البريء.

يقول قال أحد أعضاء الجماعة عن النحاس: »هو أعدى أعدائنا... لأنه زعيم الأغلبية، أما غيره من الزعماء وبقية الأحزاب فنحن نبصق عليها فتنطفئ«. ويعقِّب الشيخ على ذلك بقوله: »كان هذا الكلام جديدا ومفاجئا لي... وعرفت ليلتها النوايا، وأن المسألة ليست مسألة دعوة وجماعة دينية وإنما هي سياسية وأغلبية وأقلية وطموح للحكم. وفي تلك الليلة اتخذت قراري، وهو الابتعاد، وقلت »سلام عليكم«... ما ليش دعوة بالكلام ده«.

ورواية الشيخ الشعراوي هذه تشهد على أزمة الضمير الديني لدى جماعة الإخوان، وما يشبهها من الجماعات الدينية السياسية، أعني: إظهار مقصد ديني وإبطان آخر سياسي، فأزمة الضمير هنا تبدو في تنافي هذين الوجهين من جهة اتصاف الديني بالمطلق واتصاف السياسي بالنسبي، بحيث أصبحت السياسة تستخدم الدين وتتلاعب به، وغدا المطلق رهنا لتلاعب النسبي، أي لتلاعب الرغبة والشهوة والهوى الذي لا تبرأ منه السياسة.

وخطورة المسألة هنا هي في التلبيس على براءة المتدينين الذين يغيب عنهم، كما غاب عن الشيخ الشعراوي، الوجه الدعائي الديني المستخدم لغرض الترويج لاختيار سياسي، على نحو يصعد بذلك الاختيار من نطاق الحرية والمباح إلى الضرورة والواجب، فيغدو الاختلاف معه اختلافا مع الدين، والتخلي عنه تخليا عن الدين.

وهنا تحديدا موضع المفاصلة، وهذه علتها، فليست المشكلة في المنشط السياسي على إطلاقه، بل في تلبيسه بالديني الذي يوجب تحديد الديني (أي الإيماني) تحديدا من وجهة سياسية لا غيرها والعكس كذلك، أي تحديد السياسة من وجهة دينية »وأن ينقسم الناس إلى قوم نبصق عليهم... وقوم نناصبهم العداء«. وقرار هذه المسألة فيما انتهى إليه الشيخ الشعراوي، هو في نسف مبدأ التسمية الدينية للسياسي من أصلها، حين قال: »لا يضر إسلامي شيئا إن لم أنتمِ إلى هذا الحزب... لأننا كلنا مسلمون وليسوا هم وحدهم من أسلموا«.

ولا وجه لتبرير الوجهة الدينية للجماعات السياسية الإسلامية، بالأحزاب الدينية الأوروبية، وبعضها أحزاب قوية وذات شعبية عريضة، كما هو حال حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا الذي تتزعمه المستشارة الألمانية حاليا أنجيلا ميركل. فهذه الأحزاب مختلفة في تكوينها وفي سياقها، إذ هي أحزاب ديمقراطية علمانية، والشعب -لا الدين- مرجعيتها، ولذلك كانت مستقلة عن الكنيسة، ولا تفرض قيمها على الآخرين، ولا يقتصر الانتماء إليها على صفة دينية، فذلك تمييز مرفوض قانونا كأي تمييز فئوي، وهذا ما جعلها مفتوحة لجميع المواطنين حتى لو كانوا مسلمين أو ملحدين.

كما لا وجه لتبرير الجماعات السياسية الإسلامية، بما يشيع لدى أعضائها من انتقاد لجمود الفكر الإسلامي وتقليديته، ولا باصطفاف علمائه مع الرسمي والاستبداد­ي، ذلك لأن التجليات العملية الملموسة لهذه الجماعات أكثر دلالة على التحجر الفكري، واصطفافا في وجه التنمية ورفض الحداثة، وأكثر انحيازا ضد المرأة، ومحاربة للفنون، وإمعانا في الفاشية التي تغدو الدولة معهم متسلطة على أدق تفاصيل حياة الناس، وكبتا لأنفاسهم، واستعادة عهد جديد من محاكم التفتيش. وهم في المجمل أقل اكتراثا بما يوطد الأمن ويصون العدالة، وأدل على الرعونة والمجازفة والأنانية.

أما النماذج ذات الأصل الإخواني في تركيا وتونس والمغرب، فلا نجاح لها إلا بالقطع جوهريا مع فكر الإخوان الشمولي والأممي، والتخلص من التصنيم للزعيم على شاكلة إمام المذهب أو شيخ الطريقة، والإيمان بالاختلاف الذي لا بديل له إلا الاستبداد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia