Al-Watan (Saudi)

ذاكرة للنسيان ميسون الدخيل

- Maydkhiel@alwatan.com.sa

عالم همجي، فعلا نعيش في عالم همجي، يتبجح بانتصارات فوق جثث أطفال وأشلاء نساء، متجاهلا أرواحا تلاشت تحت القصف والعدوان! انتصار؟! مع المأساة العربية أي نصر هو انتصار ورقي مجرد اتفاقيات وبنود كتبت بدماء كانت تتدفق في عروق حية، فأي انتصار هنا هو خيانة للأمانة واغتصاب محلل للإنسانية! يريدون أن ننسى ونطوي الأرض ونقدمها مهرا لأعراسهم، يريدون أن نحمل الهواء في حقائبنا وبعضا من الذاكرة... وننسى الهوية!

تعبت يا أخي من الانتظار؟! معك حق فإن لم يتحدث أمثالك فمن الذي يجب أن يشتكي؟! تجلس في وطنك وسط أهلك لا اعتداء لا رصاص ولا حرائق ولا دخان، تمسك قلمك الذهبي لتكتب اعتراضا صارخا وربما تمتمة، وأنا أمسك فحما من جدار كان بيتي لأسطر شتاتي في ملحمة! تعبت يا أخي من أدمع سالت يوما على خدك الناعم النقي؟ هل تخاف على جمال وجهك أن يختفي؟! معذور فأنا جفت كل أدمعي ولو كان عندي منها شيء لأرسلته إليك لعل وعسى تشعر وترتقي!

يا للمفارقة... يا للسخرية! فأنا مع كل ذلك وقبل ذلك وبعد ذلك، ما زلت أناديك... أخي! أعرف أنك تعبت من المشوار الذي مشيته أنا وتريد أن تغادره أنت، طريق الذي لم تدسه أقدامك يوما، تريد أن ترتاح لتعيش وتزرع شجرتك وتحفر بئرك وتشرب وتنتشي، وأقدّر لك أنك أعطيت يوما وإن مننت بعدها وجلست تعيد وتعدد وتشتكي، ونسيت أنني يوما أعطيت ولم أسجل ولم أمنن ولم أحفظها لأولادي وأحفادي نشيدا عند كل فجر لتهدأ فطرة العطاء ومع مرور الزمن تختفي!

هل تعرف ماذا يعني أن تكون الذاكرة سلاحك وذخيرتك كلمات؟ هل تعلم ماذا يعني أن تحمل رائحة أمك وعرق أبيك جديلة ابنتك وابتسامات بنيك؟ هل تعرف ماذا يعني صدى حكايات جدتك وأهازيج عرس صديق؟ هل تعرف كيف تحمل رحيق الزهر عبر وحشة الطريق؟ هل تعرف ماذا يعني أن تسافر وسط الزحام وأنت وحيد، حرقة الاشتياق وآلام غربة تذبحك من الوريد إلى الوريد؟! معذور! فأنت إن اغتربت عدت للاحتفال بوليد، أرض ودار وأهل وأحلام تزهر فوق جبين حفيد!

أحمل وطنا مغدورا في قلبي وتئن أنت وتشتكي وتطالب بالمزيد! نعم حين تطالب بالنسيان أنت تطالب بالمزيد،

حين تطالب بالتقسيم أنت تطالب بالمزيد، حين تطالب بأنسنة المعتدي أنت تطالب بالمزيد! ترش ملحك على الجرح وتدعي أنك طبيب، دائي اكتوى بنيران شتى وأشلائي أكلتها كلاب الطريق... داست شيخوختي أقدام نجسة وحوصرت إنسانيتي بجدران بحواجز بعسكر يتسلى بإذلالي من خلف بندقية، من قلب دبابة بأموال أجنبية وهو المسكين بنظرك وأنا المعتدي! أنا من يرفض السلام، أنا الجبان، وأنا المتخلف الرجعي العنيد!

أيها المفكر... أيها المثقف... أيها الفيلسوف مهلا فنحن لا نسمو لمستوى نور فكرك ولا نقوى على مجاراة قلمك! تجمع لنا حججك من فوق أرض صلبة ونحن فوق بركان يغدر ويكرر ويعيد! هل قرأت كتبا؟ نحن قرأنا الحياة! هل تحلم بالسلام وتحب الإنسانية وتغرد للجمال؟ نحن نحلم بالحرية ونناشد الضمائر، طيورنا هاجرت ولم تعلمنا التغريد بل تركت لنا قضية! تتحدث عن الفلسفة والمنطق والتحليل، ونحن ننزف جيلا بعد جيل! المنطق لم يُعِد لنا شجر الزيتون ولا الزعتر ولا الطرخون! فاملأ كتبك وزين صفحاتها بفكرك لمن يزايد لمن يرضى لمن يخون، واصعد المنابر واصرخ بأعلى صوتك »أنا عربي« سوف تُصدق سوف تُكرّم سوف تُرفع على الأكتاف ولن تهان أو تهون، واترك لنا الأرض والبيادر والجدران والأحراش والجنائن، طالب بالنسيان من أجل أن تسير المراكب من أجل أن تُمحي بفكرك وعلمك ما اقترفناه نحن من همجية، واترك لنا الذاكرة نسلمها لأجيال لن تنسى بأنها هي قلب وضمير وروح الإنسانية!

أيها المفكر... أيها المثقف... أيها الفيلسوف مهلا فمن صلبك سيأتي من ينصف، من صلبك سيخرج من يدعم، من صلبك سيرد على فكرك على قلمك على حلمك! لا تصدق؟! انتظر فالذاكرة التي تريد لها النسيان تجري في دمك في جيناتك فإن لم تخرج بالجيل الأول سوف تخرج في الذي بعده أو الذي بعده، وترد على كل حرف كل كلمة كل تعبير سطره قلمك، نعم من صلبك ومن لحمك ومن دمك! فعلى هونك تمهل ولا تندفع فالذاكرة كالتاريخ لا ترحم ولا تداهن، اسمك وصفك مكانتك اليوم كالذهب يلمع وغدا من يدري بأي معدن سيقارن! الحق معك؟ الحق معي؟ ربما أنت وربما أنا، الزمن سيشهد والتاريخ سيدعم، ولكن إلى ذلك الوقت تذكر أنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وكي لا يضيع حقنا سنُبقي على الذاكرة لنحيي غصن الزيتون واجعلها أنت مقايضة للنسيان من أجل حمامة السلام!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia