Al-Watan (Saudi)

السيادة على المشاعر المقدسة في مكة في الماضي والحاضر

-

لم يَعُد خافيا على كثير من المتابعين للأحداث أنه كلما وقع خلاف سياسي بين المملكة وبين هذه الدولة أو تلك تبرز إلى السطح دعاوى تسييس المشاعر المقدسة، ثم سرعان ما يتلقّفها المطبِّلون والراقصون على أنغام تلك الدعاوى التي أصبحت في عرف كثير من العقلاء بمثابة أسطوانة مشروخة لا تستحق الاستماع إليها، ولا الالتفات إلى مطلقيها ومردّديها، لكون السيادة على المشاعر المقدسة في مكة من الأمور المقطوع بها والمسلّم بحقيتها شرعا وعرفا، بأنها من اختصاص الدولة التي تتولى مقاليد الحكم فيها، ذلك ما استقصيناه في مظان التاريخ بمختلف عصوره، فقد كانت السيادة على مكة والمشاعر المقدسة قبل الإسلام منوطة بقريش لا ينازعها فيها أحد من قبائل العرب، وكانت لقريش السّقاية والرِّفَادَة والسِّدَانَة، وكانوا يُعْرفون بالحُمْس أي المتشددين في دينهم، وكانوا يقولون عن أنفسهم »نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا« »)جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، بيروت 1970، جـ6، ص 359.( وهؤلاء القبائل يعرفون بالحِلَّة، ومنهم قبائل تَمِيْم وضَبَّة وظَاعِنَة والغَوْث وقَيْس عِيْلان، (حاشا ثقيقا)، وعدوان وعامر بن صَعْصَعَة، وربيعة بن نزار، وقُضَاعَة والأنصار وخَثْعَم وبَجِيْلَة وكنانة وهُذَيْل وأسَد وطَيّ وبارق. (ابن حبيب، المحبّر، بيروت، ص 179). ولم يحفظ التاريخ أن أحدا من تلك القبائل على عظمتها وقوتها عارض قريشا، أو نازعها تلك السيادة.

وفي الإسلام كانت السيادة على المشاعر المقدسة في مكة منوطة بخليفة المسلمين الذي كانت إليه إمرة الحج التي باشرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه في حجة الوداع، وباشرها من بعده الخلفاء الراشدون، ثم خلفاء بني أمية، وبني العباس إما بأنفسهم أو بنواب من قبلهم. ومنذ منتصف القرن الرابع الهجري أصبحت السيادة على مكة المكرمة والمشاعر المقدسة لأسر الأشراف التي تداولت حكم مكة لعدة قرون. ولئن كان الأشراف قد احتفظوا بالخطبة في يوم عرفة لهذا الخليفة أو ذاك لقاء ما كان يُدْفَع لهم من سنويا، فإن السيادة الفعلية على المشاعر المقدسة كانت بأيديهم دون منازع، خصوصا في زمن الأقوياء منهم. ومن الأمثلة المستنكرة على عدم احترام سيادة من له السيادة على المشاعر المقدسة في مكة وردّة الفعل حيال ذلك: أن الملك المسعود إقْسِيْس، حاكم اليمن، من قبل والده الكامل، سلطان مصر الأيوبي، حج في سنة 619 هـ، وقدّم عَلَمَه وعَلَم والده الكامل على عَلَم الخليفة العباسي الناصر لدين الله على جبل عرفة. ولما علم الملك الكامل بسوء تصرف ولده إقْسِيْس كتب إليه مهددا ومتوعدا إياه بأقسى العبارات، قائلا له: بَرِئْتَ يا إقْسِيْس من ظهر العادل إن لم أقطع يمينك، فقد نبذت وراء ظهرك دنياك، ولا حول ولا قوة إلا بالله«. )ابن فهد، اتحاف الورى، جـ3، ص 36.(

ومن الأمثلة على احترام سيادة من له السيادة على المشاعر المقدسة أن المظفر الرسولي، سلطان اليمن، حج في عام 659 هـ في قوة عسكرية كبيرة، ولم يحجّ سلطان مصر الظاهر بيبرس البندقداري، وكان -حينذاكيمثل سلطة الخلافة العباسية التي أعيد إحياؤها بالقاهرة بعد سقوط بغداد ومقتل آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله. ولما وقف الملك المظفر بعرفة وهو في تلك القوة الكبيرة التي كانت بصحبته، أشار عليه بعض من كان معه بأن يقدِّم عَلَمَه على عَلَم صاحب مصر، فرد سلطان بني رسول على من أشار عليه بقوله: »أتراني أؤخِّر أعلام مَلِك كَسَرَ عساكر التتار بالأمس، وأقدّم أعلامي لأجل حضوري ومغيبه، لا والله لا أفعل هذا أبدا« )ابن فهد، المصدر نفسه، ص ‪.(83- 82‬

هذا الموقف المتعقّل من الملك المظفر يتعارض مع موقف حفيده الملك المجاهد الذي حج في عام 751 هـ، وأبدى شيئا من عدم احترام سيادة شريف مكة، والسلطان المملوكي الممثل لسلطة الخلافة العباسية على مكة، فما كان

من الأخيرين إلا القبض عليه، واقتياده أسيرا إلى مصر، ولم يَعُدْ إلى مقرّ ملكه باليمن إلا في العام التالي (الفاسي، شفاء الغرام، بيروت: 1405 هـ، جـ2، ص 395.(

وفي عهد الدولة السعودية الأولى مارس الإمام سعود بن عبدالعزيز حقه في السيادة على المشاعر المقدسة بمنع المْحمَليْن الشامي والمصري من القدوم إلى مكة، كان ذلك في عام 1220 هـ حينما رآهما لأول مرة، وقال لصاحبهما: »ما هذه العُوَيْدَات التي تأتون بها وتعظِّمُونَها بينكم، فقالوا له قد جرت العادة من قديم الزمان باتخاذ هذين المحملين علامة أو إشارة لاجتماع الحجاج. فقال: لا تفعلوا ذلك، ولا تأتون بهما بعد هذه العام، وإن أتيتم بهما فإني أكسرها« (دحلان، أمراء البلد الحرام، بيروت، ص 326)، وفي العام التالي قدم حجاج مصر والشام، ومع كل منهما محمل كالعادة متناسين ما شرطه عليهما الإمام سعود، وكان المحمل المصري أول الواصلين إلى مكة، فأمر الإمام سعود بإحراقه. وكاتب أمير الحج الشامي عبدالله باشا وهو في الطريق يذكّره الملك عبدالعزيز، وهي أول اختبار له لممارسة حقّه الشرعي في سيادته على المشاعر المقدسة، إذ إنه بعد أن بايعه الحجازيون ملكا على الحجاز في جمادى الآخرة عام 1344 هـ، حدث في حج ذلك العام، وبالتحديد في يوم التروية، أن فوجئ الإخوان بأصوات الموسيقى المصاحبة للمحمل المصري، وهو في طريقه إلى عرفة، فحاولوا منعها، فرد عليهم قائد تلك العساكر بإطلاق النار عليهم فقتل منهم 25 نفسا، ومن إبلهم 40 رأسا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia