Al-Watan (Saudi)

يتلقون الرصاص بصدورهم العارية

- أحمد الرضيمان

لا ريب أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ولكن له شروط وضوابط، كغيره من أحكام الشريعة، فمن ذلك القدرة، وأن يكون تحت راية إمام المسلمين صاحب البيعة الشرعية

»بعض« من يُنصِّبون أنفسهم للدعوة والتوجيه، أو السياسة والإعلام، يتكئ أحدهم على أريكته، ويزج بخطابه التحريضي شباب المسلمين العُزّل في أماكن الصراع، يفعل ذلك باسم الجهاد في سبيل الله، وهو يعلم أنهم سيقاتلون تحت رايات عمية، ولا يملكون القدرة، ولهذا يمدحهم بقوله: »يتلقون سلاح العدو بصدورهم العارية«، ولو قيل له: اذهب أنت وأولادك لتتلقوا تلك الرصاص بصدوركم العارية، لأنكر ذلك بجميع مراتب الإنكار الثلاث، ولقال: هذا الفعل من السّفه والحمق، لأنه لا واجب مع العجز، والله تعالى يقول: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، والقيام بفعل أي شيء من الشريعة إنما هو مع القدرة، لكن ما دام أن تلقي الرصاص بعيدٌ عنه وعن أولاده، فلا يهمه في أي واد هلك غيرهم، ولا يعنيه توجّع أمهاتهم وآبائهم، لا سيما أن التهييج لا يكلفه إلا الكلام والصراخ الذي يطلقه من على الفضائيات والمنابر، أو ربما في الفتاوى السرية لبعض ضحاياه، يوهمهم أنه يحمل همّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأنه ناصح لهم، والواقع أنه غاش للمسلمين، لأنه لا يحب لهم ما يحبه لنفسه.

وهنا أتساءل هل هذه الجملة التي يرددونها وهي: تلقي سلاح العدو بصدورٍ عارية، هل هي صفة مدح، أم صفة ذم؟ هل الذي يقاتل عدوه -وأقصد بالعدو الذي يقاتل المسلمين- دون أن يستعد له بأسلحة مماثلة أو مقاربة، وإنما يُبدي له صدره الأعزل ليصيبه العدو برصاصه وأسلحته، هل هذا يُمدَح أو يُذم؟

لا ريب أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ولكن له شروط وضوابط، كغيره من أحكام الشريعة، فمن ذلك القدرة، وأن يكون تحت راية إمام المسلمين صاحب البيعة الشرعية، لقوله عليه الصلاة والسلام: »الإمام جُنَّة يُقاتَل من ورائه« رواه البخاري، ولهذا قال ابن قدامة في كتابه المغني: »وأمر الجهاد موكول لولي الأمر«، ليس موكولاً لأي مفتٍ مهما علا شأنه، فضلا عن كاتب أو محلل أو خطيب، فلا عذر لمن يقول استفتيتُ فلانا وعلانا، بل لو ذهب من أفتاه للجهاد دون إذن ولي الأمر لكان مخالفا للشريعة، فهو لا يأذن لنفسه فضلا أن يأذن لغيره، ولولا خشية الإطالة لبسطت مزيدا من الأدلة.

ومع المكانة السامية للجهاد في سبيل الله، إلا أن مما ينبغي التوكيد عليه أن الجهاد لا يصح اختزاله بالقتال، فالإحسان في صحبة الوالدين هو من الجهاد في سبيل الله، وفي الحديث الصحيح أن رجلا أقبل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال له: أبَُايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ أبَْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى، فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: فَهَلْ لَكَ مِنْ وَالِدَيْكَ أحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا. قَالَ: فَتَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا. وهذا لَفْظُ مسلِم. وفي رواية: جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأذَنَهُ في الجِهَادِ، فقَالَ: أحَيٌّ وَالِداكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفيهِمَا فَجَاهِد.

وهناك مع الأسف من حرّف مفهوم الجهاد، وجعله في إساءة صحبة الوالدين، والتمرد عليهما، وعدم استئذانهما، بل بعضهم جعل الجهاد يبدأ بقتل الوالدين، معاندا بذلك حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- آنف الذكر، فيا سبحان الله ربنا يأمر بحسن صحبة الوالدين، حتى وإن كانا مشركين، بل وحتى لو كانا يدعوان ابنهما للشرك، كما قال تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أنَ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، لا تطعهما في الشرك، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفا، بينما دعاة الضلالة يأمرون بضد ذلك.

إن من أنواع الجهاد أيضا السعي على الأرامل والمساكين، وفي الحديث: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأيضا بيان الحق بالحجة والبرهان هو كذلك نوع من الجهاد، كما قال تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا)، فقوله تعالى (وجاهدهم به) أي بالقرآن.

ومعاذ الله أن تأمر شريعة الله بالزج بالمسلمين العُزّل، ليتلقوا رصاص العدو بصدورهم العارية، هذا من الافتراء على الشريعة، لقد جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم، أن الله تعالى يقول لعيسى ابن مريم عندما ينزل في آخر الزمان: (إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور)، لم يقل: تلقوهم بصدورٍ عارية، حتى وإن كان لا يدان لكم بهم، لأنكم ستكونون شهداء، لم يقل ذلك، بل قال: (حرِّز عبادي بالطور) هذا أمر الله، فيا من تزجون غيركم في أماكن الصراع، أأنتم أعلم أم الله؟ إن الله تعالى لم يأذن لرسوله -عليه الصلاة والسلام- بالجهاد في مكة مع ما يلاقيه وصحابته من أذى، وما ذاك إلا لعدم القدرة، فكيف يُزَجّ بمسلم لا يقدر، ويُقال له: عليك أن تتلقى الرصاص بصدرك العاري؟ وكيف يُنسَب ذلك للشريعة؟

ولشيخنا ابن عثيمين كلام متين في هذا، يوضح فيه أنه من الجهل والحمق، أن يزج بأبناء المسلمين لمواجهة من يملكون الأسلحة الفتاكة، وهم لا يملكون إلا العصا والحجارة، لكني أعرضتُ عن ذكر ذلك، فكلام الله ورسوله فيهما الكفاية.

والمتعين على المسلمين أن يمتثلوا قوله تعالى: (وَأعَِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، وقوله: ما استطعتم من قوة: يشمل قوة العقيدة الصحيحة، وقوة السلاح، ومن العقيدة الصحيحة أن يلزموا ولاة أمورهم ولا يفتاتون عليهم، ولا يقاتلون إلا تحت رايتهم، كما جاء ذلك في الأحاديث، وليعرضوا عن تجار الكلام، وبائعي الوهم، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويتجاوزن الأدلة الشرعية لمآرب حزبية، وعواطف عاصفة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia