Al-Watan (Saudi)

رسالة إلى أديب

-

عزيزي الأديب الذي هجر الأدب: منذ سنوات لم أقرأ لك شيئا. حاولت أن أعرف الأسباب، لكني لم أكن أحسن حظا من »حُنين«. وقبل أيام فقط علمت أن حرفة التجارة قد أدركتك، فترحمت عليك، وقلت في نفسي هذه خسارة كبيرة!

وأسأل: ماذا يمكن أن تكون عليه في المستقبل؟

قد تصبح عضوا منتدبا لأكثر من بنك، أو رئيسا لمجالس إدارات عشرات الشركات، وقد تصبح من أصحاب الملايين الذين يجوبون العالم بطائراتهم الخاصة، ويقطعون البحار والمحيطات بيخوتهم الفارهة، أي أنك تستطيع أن تنتقل حول العالم، وأنت على مكتبك، أو سرير نومك!

ستجد حولك مئات من الباحثين عن الأضواء، والجاه، والمال، سيقدمون لك خدماتهم ليس تقديرا منهم لشخصك، وإنما لأنهم يسعون إلى تحقيق طموحاتهم من خلالك، وأملهم أن يكونوا مثلك! ثم ماذا؟ تأتي النهاية، ليختفي اسمك، وتذهب كل تلك الأشياء أدراج الرياح!

إن في الدنيا -يا عزيزي- آلاف الأعضاء المنتدبين، وعشرات الألوف من رؤساء مجالس إدارات وشركات ومصارف، ومئات من الأثرياء الذين يسمونهم المليونيرا­ت والملياردي­رات، فأين كل هؤلاء، ماذا يعرف الناس عنهم، ما قيمتهم في الحياة؟

لقد كانوا في حياتهم كالعمارات يمر الناس بها فيقولون هذه عمارة، ثم يمر الزمن فتهدم، ليقام مكانها شارع أو حديقة، وينسى الناس تلك العمارة، لأن الماديات إلى زوال، فماذا يبقى؟!

إن ما يبقى -يا عزيزي- من تراث الأمة وأفرادها النابهين، هو ما تخلّفه العقول من فكر، وعلم، وأدب، وفن.

لقد انتهت اليونان بكل عظمتها، ولم يبق منها إلا ما خلّفه فلاسفتها وحكماؤها وعلماؤها.

لم يعد يذكر الناس اليونان إلان حين يُذكر: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وسوفوكليس، وهوميروس، وأبقراط، وغيرهم! والرومان، ماذا بقي لهم؟ أصبحت مجرد اسم على خارطة العالم، لكنها ظلّت في أذهان الناس من خلال مجموعة قوانين »جستيان«، وما خلّفه أمثال »فرجيل« شاعرها الكبير. وبريطانيا التي كانت في يوم من الأيام سيدة البحار، والامبراطو­رية التي لا تغيب عنها الشمس، أصبحت تبحث لها عن مكان في العالم الجديد، من خلال شكسبير، وبيرون، وراسل، وشو، وديكنز، وغيرهم! ونحن العرب المسلمين، ماذا بقي لنا غير الإسلام، لأنه رسالة الإيمان الخالدة، والحضارة والعلم. وما خلّفه علماؤنا أمثال: جابر بن حيان، وابن سينا، وابن قرة، وابن الهيثم، وابن النفيس، وابن خلدون، وابن رشد، والغزالي، والجاحظ، والمتنبي، وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين أضاءت شموس أعمالهم دياجير ظلام العالم!

إن كبار أثرياء العالم الذين برزوا كانوا شيئا لأنفسهم، والمنتفعين حولهم، ثم سقطوا كأوراق الخريف، ومات ذكرهم!

لكن رجال العلم والفكر والفن والأدب، هم امتداد أممهم في كل زمان ومكان، وما عداهم مجرد مراحل تنتهي بانتهاء أدوارهم القصيرة على مسرح الحياة!

الأمم لا تدخل التاريخ بثرواتها المادية، ولكن بأعلامها من المفكرين، والعلماء، والأدباء، والفنانين!

إليك -يا عزيزي- هذه الحكاية: يُروى أن شاعرا امتدح أحد الحكام، فأكرمه الحاكم وأجزل له العطاء، وحين عاتبه الذين حوله على كرمه وعطائه، رد عليهم »لقد أعطيناه ما يفنى، وأعطانا ما يبقى«.

إنني أدعوك -يا عزيزي- إلى ما يبقى، فلا تحرص على ما يفنى!.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia