Al-Watan (Saudi)

معرفة الخصم

-

في مجالات الصراع -أي صراعقلت: إن من اللازم معرفة الخصم قبل محاولة التغلب عليه، والمعرفة تعنى الاطلاع على طرق تفكيره، اتجاهه، أسراره، وبالتالي على كل خبيئاته.

وبقدر ما يعرف الخصمان عن بعضهما يكونان في موقف التضاد، وبقدر ما يفوق أحدهما الآخر في هذه المعرفة يكون في مكان السيادة.

وليس القارئ بحاجة إلى معرفة منحى الدول في العصر الحديث، في إنشاء المؤسسات العلمية لفهم الاتجاهات الفكرية الدولية، ومدى تأثيرها على علاقاتها العامة، ناهيك بها إذا كانت في مكان يجعلها هدفا لتطورات فكرية أو مذهبية. ولم يكن هذا المنحى من محدثات هذا العصر وحده، بل هو قديم قدم الحروب في الأزمنة السابقة، وإن اختلفت الأساليب والمسميات.

ولا أبالغ إذا قلت: إن الحضارة العربية في فترات متفرقة تأثرت بعاملين مهمين أثّرا في انحسارها عن المد والارتقاء.

أولهما: جهل أبنائها بواقعهم من خلال الانغلاق الفكري الذي خيّم عليهم زمنا طويلا، مما جعل الطاقات الفكرية فيهم أداة تقليد واتباع، انعدم فيها الجديد والإبداع، وماتت فيها جذوة الريادة والتمدد. وذاك له سبب مهم يمثل في انبثاث الغزاة المستترين ولعلهم -الغزاة- ما أدركوا ذاك المدرك في انسحاب هذه الحضارة إلا حين تصدوا لتهويل كل جديد، واغتيال كل تجديد، وربطه بالخوف على التراث، وما كانت الغاية الحقيقية إلا إطفاء أي شموع حضارية أخرى ترفد الحضارة، والإبقاء على الشمعة الواحدة حتى تأتي على نفسها بمرور الزمن.

ثانيهما: الجهل بواقع الغير، إن الفترة المضيئة التي كانت الشعوب فيها تعرف كل خبايا خصومها وتفكيرهم انتهت بانتهاء الجيل المجدد، حتى صار القطران المتجاوران لا يعرفان عن بعضهما شيئا، ولو كان من ضرورات المعرفة العادية. وكان دور الغزاة هو الآخر قويا في إحكام الانغلاق والانعزال، لقتل التأثر والانفعال. ولعمري إن تلك الأساليب ما كانت لتنفذ لو لم تجد قصار نظر راحوا يعتقدون أن معرفة العلوم المضادة -أي علوم- مدعاة للتأثر بها أولا والأخذ بها ثانيا، والعقل البسيط يتصور أن هذا المنحى فيه إدراك »ومنطق«. فالانفتاح قد يعني التوسع، والانزلاق والسير على الجليد أخطر انزلاقا من السير على التراب، وهلم جرا.. وما كان تصوير الأمر بهذه البداهة إلا خطلا وخطأ.

إن العكس هو أقرب للعقل، فمعرفة التزلج على الجليد أكثر مشقة من المشي على التراب، وأكثر من ذلك، يمكن القول إن الإغماض عن معرفة العلم المضاد سبب مهم للوقوع اللا إرادي فيه، وحينئذ يبدو الارتداد عنه أمرا مستحيلا.

ولا أعني أبدا فتح الباب للريح قبل التحوط لها. وأهم شرط للتوقي من الانزلاق -إذا سلمنا بوجوده- معرفة الشيء وضده.

أذكر أني حين كنت أدرس الحقوق في الجامعة، قرأت -للمرة الأولى- فصلا طويلا عن مذهب اقتصادي وسياسي معين، وجدتني خلال ذاك منزعجا من المؤلف في تمجيده له، وعداد مزاياه.

وسرعان ما نقدت ذاتي لاستعجالي الحكم قبل معرفة النتيجة. لقد ختم الفصل بتعداد النقائض والمآخذ، وبسط -في لمس علمي خفيف- أوتار الطالب بأن ذاك المذهب يحوي من المزايا أقلها، ومن الأخطاء أكثرها، من هنا يكون الإقناع عن فهم وإدراك لطبيعة العلم المضاد.

واستدلال آخر أعمق وأجل، إنه الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- قيل عنه إنه دارس جابر الجعفي، مع أن هذا الأخير من غلاة التشيع لآل البيت، بل كان يعتقد بعودة الإمام عليّ إلى الحياة مرة أخرى. وما كان يعيب أبا حنيفة أن يدارس هذا، ويعرف حججه ليدحض دعواه، وهذا كان اتجاه كثير من العلماء في معرفة حجج الخصوم ومداركهم للرد عليها ومحاربتها.

وقد يقال: ذاك أبو حنيفة وما يتوافر فيه من التحصن والتوقي قد لا يتوافر في غيره. قلت: إن الأمر واحد. أجل: إن التمكن والتحصن شرط أساسي، ولكن مناقشة العلم المضاد والرد عليه، وتفسير ضرره وخطره، وشرح أضراره وأخطاره، سبب مهم للاقتناع ببطلانه.

والعقل يصدق أن الاقتناع بعد المعرفة. أفضل من الإقناع قبل المعرفة. وفرق بين الاقتناع والإقناع، فالأول تسليم بالمعرفة ينبع من الإدراك الداخلي، وله سلطة كاملة التأثير في التصديق العقلي.

والإقناع قد يكون هو الآخر مقبولا بالمعرفة، ولكن بفعل تأثير خارجي سلطته ضعيفة التأثير في التصديق العقلي.

وخلاصة ما يمكن قوله: إن الجهل بواقع الغير داء مزمن ما زالت آثاره باقية في جيل العرب الحاضر، ولعله سبب في انحسار حضارته وخفوت صوته وهي حجته.

تُرى، هل يعرف هذا الجيل عن مؤسسات أعدائه -وهم كثروأخطاره­ا على مكوناته المختلفة، مثلما تعرف هذه المؤسسات عنه؟ وما ظننت الجواب إلا أن يكون بـ»لا«. (أحاديث وقضايا إنسانية

(1983-1403

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia