Al-Watan (Saudi)

واقعية الكلمة

-

الإنتاج الأدبي في ضروبه المختلفة ليس ملكا خاصا لمنتجه بقدر ما هو ملك عام. والملك العام في المفهوم القانوني »ما ينتفع به العامة بشكل مباشر أو غاير مباشر«. وإذا سلمنا بأن هذا المفهوم ينطبق على الإنتاج الأدبي أمكن القول بأن واقعية الأدب أساس من أسس وجوده، فإذا فقد هذه الواقعية تجرد من كل نفع يمكن أن يؤديه أو يوصف به. وانطلاقا من هذا يتعين القول بأن أدب الخواص الذي يكتب لفئة معينة تتسامر أو تتسلى به أو تضعه للذكرى والتاريخ -بصرف النظر عن فائدته- أدب محنط عجز في مضمونه عن القدرة والعطاء الفكري للإنسان، فصار من المحدودية والعزلة بمكان.. وقس على أدب الخواص، أدب »الحلميين« الذين يكتبون وهم مستغرقون في بحيرات الخيال المجنح أدبا يعزف عن الواقع وينأى عنه.. يصور الحقيقة على نقيضها، ويشيح بناظره عن الرؤى الحقيقية للحياة، متخذا من التلبيس طريقا رحبا لا يهمه أن يصور السراب ماء، والغبار سحابا، والكذب صدقا. وقد يتعشق ذلك النمط أناس تستهويهم الأحلام، وتستبد بهم الأوهام.. نشوتهم لا تكون إلا حين يبتعدون عن الواقع، وسرورهم لا يوجد إلا حين يغيبون في متاهات الخيال.. هؤلاء »الحلميون« و»الوهميون« ألا يحق لنا أن نناقشهم بالتساؤل الآتي: ما قيمة الكلمة إذا لم تخلق تأثيرا صادقا في مفاهيم الناس؟ وأي نفع لها إذا لم توجد تغييرا جذريا في مجريات تفكيرهم قلبا وقالبا من أجل سلامتهم ونفعهم العام؟ وأي رواء لها إذا لم تحول الشحوب الباهت إلى حيوية وجمال؟ دون هذه المعاني هل للأدب معنى، ودون هذه الصور هل يكون وجوده ضروريا؟ إن ثمة فرقا جوهريا بين أدب يشبه آلة محنطة لا حراك فيها يتراكم عليها الصدأ، ثم تحللها عوامل الطبيعة إلى أن تصير ذرات من تراب لا خير فيه، وأدب يشبه آلة متحركة تنتج في كل لحظة ما ينتفع به الإنسان.. الصورة والشبه واحد.. فالأدب الذي لا يقوى على الحركة في نفسه، ولا يتغلغل في الخلايا الاجتماعية لكشف أمراضها وعللها، أدب عقيم ومريض، ضره آكد من نفعه، باعتبار أن الأدب في غايته وأهدافه عامل من عوامل الحركة والتأثير في أوجه النشاطات المختلفة في الخلايا الاجتماعية، فإذا فقد هذا العامل أصبح الضرر مؤكدا.

إن الإنسان في عالم اليوم بحضارته المتفاعلة، أحوج ما يكون إلى فكر واقعي واضح يصور الإنسان على حقيقته في صفاء ونقاء.. يقول له: إن الحق هنا والخطأ هناك.. يدله على الأسلوب العلمي في حياته كيف يفكر وكيف يعلم ويعمل.. أدب واقعي منهاجي في مرحليته أو أبديته يبين له الواقع كما هو، ويكشف له الحياة على وضوحها حتى يتعود على الرؤية ببصيرة، وحتى يستطيع الامتزاج والتأثر مع حياته بكل واقعية ونقاوة. إن نظرة بسيطة نلقيها على كثير مما يكتب تعطينا دليلا على عقمه وغثاثته حتى ينحسر المخلص على ذلك المداد الذي يكتب به، وعلى الورق الذي يكتب عليه، وعلى الجهد الذي يبذل فيه.. أدب نستطيع أن نقول عنه لا يكفيه تجاهله لحقيقة الإنسان في نزعاته وسلوكه، بل صارت غايته البحث عن أوابد اللغة وشوارد الألفاظ فيها، ومعتسف الأسلوب ليخرج وكأنه جنازة يريد أهلها الخلاص منها لتذهب إلى عالم القبور.. ماذا يقال عن هذا الأدب؟ وأي صفة يمكن أن تسبغ عليه؟ وأي لباس يمكن إضفاؤه عليه؟ هل هو أدب خواص، أم أدب باطني، أم ظاهري، لكنه قد لا يكون لا هذا ولا ذاك. إنه أقل من هذا بكثير. إنه أدب جامد ومحنط لا يستحق أن يوضع في متحف التاريخ بقدر ما يستحق أن يلقى به وعاء النفايات. إن أولئك الذين يكتبون بعد أن يغلفوا كتاباتهم بغرائب الألفاظ ينبغي أن يعرفوا لماذا فاق المتنبي أقرانه ونظراءه، وسجل لأجيال العربية دررا من القول تصيخ لها الأسماع، وتطرب لها القلوب، وتنفعل معها المشاعر والعواطف. فهل كان المتنبي ساحرا أم ماذا؟ نعم إنه ساحر في بيانه حين تخيل عواطف الناس ومشاعرهم في زمانه، والزمان الذي بعده. تصور وفاء الناس وكرمهم وبخلهم، سعادتهم وأسبابها، وشقاءهم وأسبابه، تصور كل ذلك بـ»خيال واقعي وواضح«، ثم صبه في قالب شعرى أثر في النفوس أيما تأثير، حتى صار شعره أهازيج أجيال عربية في ماضيها وحاضرها، وسيكون كذلك في مستقبلها على حد سواء.

(أحاديث وقضايا إنسانية (1983-1403

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia